في الحاجة إلى الإصلاح الديني

ليس خاصة غربية فحسب

في الحاجة إلى الإصلاح الديني
TT

في الحاجة إلى الإصلاح الديني

في الحاجة إلى الإصلاح الديني

أصدر الباحث يونس رزين هذه السنة كتابا بعنوان «السياسي والديني، في التاريخ والأصول الفكرية»، وذلك عن المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء.
الكتاب في عمومه يريد إبراز دور الإصلاح الديني الأوروبي في سحب البساط من أقدام رجال الدين المتزمتين وكفهم عن التحكم في مصالح العباد... الأمر الذي مهد بقوة لانبثاق الدولة الحديثة التي تقوم على ركيزة الفصل بين الإيمان الخاص والمجال العام وتدبير الشأن العام بحسب التوافقات الإنسانية.
إن الكاتب لا يقدم أطروحته حول الإصلاح الديني إلا ليكسر تلك الصورة النمطية القائلة بأنها تجربة غربية خالصة ولا تعني بلداننا الإسلامية قط، بل بالعكس يرى أننا أحوج إلى ذلك. فالغرب استطاع أن يحصن نفسه بمنعه إحياء الأنموذج القديم والقطع مع الشرعية الدينية، أما فكرنا الإسلامي فلم يقدر بعد على تشييد صرح نظري يبتعد عن التفسير الجامد للدين وإيجاد نمط إداري يحتكم إلى قواعد إنسانية صرفة، وهو ما منعنا من وجهة نظره من دخول الشرعية المدنية.
الكتاب عبارة عن قسمين: الأول جاء الحديث فيه عن أسس الدولة الحديثة، أما الثاني فخصصه المؤلف للسياسي والديني في التجربة الإسلامية. ولكي نعطي فكرة أدق للقارئ عن هذا الكتاب نلقي إطلالة على القسم الثاني منه لأنه يرتبط بهمومنا.
يؤكد المؤلف على أنه حينما اقتحمت الحداثة عالم المسلمين حملت معها تصورا سياسيا قوامه الفصل بين الديني والسياسي، فصل الدنيوي عن الأخروي، فصل الخاص عن العام... وهو ما أثر كثيرا على المنظومة الإسلامية المتوارثة، فبالعودة للتاريخ الإسلامي قبل النقلة الحداثية، سنجد أنه ما كان ممكنا التفكير في عملية الفصل بين السياسي والديني، فهما كانا يبدوان متصلين حد التماهي، ويكفي التذكير بتعريف أحد أبرز فقهاء السياسة الشرعية للإمامة وهو الماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية» لنتأكد من ذلك، فهي «موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الشرع»، فالدين ظل مجالا لإضفاء الشرعية على السياسة وبالمثل نصبت السياسة نفسها للدفاع عن الدين.
إن صدمة الحداثة ودخولها بإشكال غير مألوف، جعلت الكثير من المسلمين يعيدون النظر من جديد في موضوع علاقة السياسي بالدين، وما دام أن المؤلف يوسف رزين يرى أن الخلاص من مآزقنا مرتبط بالقيام بإصلاح ديني خاص بنا، يمكننا من الدخول بفعالية في الزمن الأرضي الذي ضيعناه فضاعت مشروعاتنا، فإنه سينتقي بعناية مفكرين أو «مصلحين» يعبرون عن أطروحته، فمثلا خصص فصلا لفرح أنطون وفصلا لعلي عبد الرازق وفصلا لمحمد أركون، وهذا يوضح رؤية الكتاب جيدا.
وإذا أخذنا مثلا فرح أنطون فهو بحسب المؤلف كان يتوسل بالرواية التاريخية، والعمل الأدبي مثل «الدين والعلم والمال»، للوصول إلى العموم، فاضحا عقيدة قسم من رجال الدين المبنية على ترك العامة من الناس عمياء لا تقدر على استخدام الحدود الدنيا من العقل مؤكدا على أن مشروعه ليس القصد منه هدم الدين بل هدم الأوهام والخزعبلات في الدين. لكن هذا الموقف المبكر للإصلاح الديني لم يكن سهلا، وهو ما جعل المؤلف يقول: «غير أن جهود فرح أنطون الرامية إلى تكريس قيم التسامح، والحرية، والعدل، والديمقراطية والمساواة، بالجملة دولة الحداثة، لن تجد الطريق معبداً مع وجود حراس النوايا الذين يشكلون حزام أمان للماضي».
أما بالنسبة لعلي عبد الرازق فهو يجسد عند المؤلف إصلاحا من داخل مؤسسة الأزهر، حيث استطاع أن يؤسس للقول العلماني من داخل بنية التفكير الإسلامي نفسها طارحا أسئلة حارقة آنذاك وما زالت عند البعض كذلك: هل يمكن التفكير في فصل بين السياسي والديني في الإسلام؟ لم يكن طبعا طرح هذا السؤال أبدا في إسلام القرون الوسطى؛ حيث لم تكن تشكل مفارقة أصلا، بل كانت محسومة في اتجاه واحد، فلا حديث إلا عن الوصل، أما الفصل فلم يكن يدخل ضمن إطار المفكر فيه. والذي كان يحتاج لجواز نظري قدمته الحداثة.
سيفاجأ الكل وبعد سنة مباشرة من سقوط الخلافة، أي عام، 1925 بنزول كتاب للناس من شيخ أزهري هو القاضي علي عبد الرازق، والذي عنونه بـ«الإسلام وأصول الحكم»، وهو الكتاب الذي دارت فكرته الأساسية على أن الخلافة ليست أصلا من أصول الدين وهي شيء تاريخي وسياسي لا يمت بصلة للإسلام، وأن الرسول الكريم كان زعيما روحيا لا زعيما سياسيا. فكانت بحق أطروحة مزلزلة، لأنها أولا جاءت كعرقلة لكل التحضيرات التي دعت وفكرت في إعادة بعث الخلافة من جديد، وثانيا أنها كتبت من طرف عالم أزهري، يفترض فيه الامتثال لقواعد في النظر عدها الفقهاء شرعية دون غيرها.
لقد استطاع علي عبد الرازق بحسب المؤلف القطع مع الفكرة التي كرسها الفقهاء كون الخلافة نظام حكم مقدسا لا مجال لإخضاعه للنقد.
إن الكتاب عموما يتحرك وفق أفق يريد إبراز كيف تم فتح الباب في تجربتنا الإسلامية لعزل الديني عن السياسي ورسم الحدود بينهما قصد خلق الوضوح في الرؤية والعمل معا، لكن يؤكد المؤلف أن التجربة الغربية استطاعت حسم الأمر نهائيا، وحددت مجالات الاشتغال بين الروحي والمادي، الخاص والعام، وهو ما سهل عليها الدخول في الحداثة والطريق معبدة، وعلى العكس من ذلك يرى المؤلف أنه وإن كان الإسلام يدعو إلى عدم الرهبنة، فهذا لم يمنع من تشكيل هيئات دينية تحتكر الحقيقة الدينية وتختلط اختلاطا كاملا بالسياسي، والاختلاط غموض والغموض يخلق فضاء للتلاعب.
لذلك يلح الكاتب على أن الإصلاح الديني ليس خصيصة غربية فقط، بل هي عمل كوني خاص بكل الشعوب، إذا ما أرادت الفلاح في تدبير الشأن العام وتقليل فظاعة الخلط بين الديني والسياسي.

- كاتب مغربي يعيش في السعودية


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!