سلطة فلاديمير بوتين وطريقه إلى السلطة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
TT

سلطة فلاديمير بوتين وطريقه إلى السلطة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

يتراءى لمن يحدق في نظراته الزائغة أن فلاديمير بوتين يبيع بضاعة مغشوشة. قد يبيع السكّر لمُصاب بالسكري، أو فاكهة طُمر فاسدها تحت طبقة رقيقة من ثمار طازجة.
بروزه الأول انطوى على غشّ: ضابط الـ«كي جي بي» الذي كان في ألمانيا الشرقية إبان ثورتها، أحرق الوثائق التي في حوزته. إتلاف الوثائق قد تستدعيه ضرورات حربية أو مصلحة وطنية، لكن ذلك لا يلغي كونه تزويراً للتاريخ.
في صعوده المبكر مارس الغش حين أوكل إلى التلفزيون إعادة صنعه وتوضيبه. لقد لعب على ازدواج يتطلبه الروس في حقبة فقدوا فيها ثقتهم بالنفس: قيل إنه، هو الذي يجيد الألمانية، وجهٌ يشبه وجوه «الآريين». هذا ما خاطب قرف الروس مما هم فيه. لكنْ شاع أيضاً أنه ينتصر على «الآريين» لأنه يُشبه جاسوساً شعبياً اسمه ماكس ستيرليتس يُروى أنه اخترق المخابرات النازية في الحرب العالمية الثانية ودارت حول نجاحاته أعمال تلفزيونية كثيرة؛ شيء روسي من رأفت الهجان.
كذلك اشتغل بوتين على صورته بتقديم نفسه مضاداً لبوريس يلتسن: الأخير ثرثار وسكير ومترهل. هو صامت ورياضي وشاب. لقد بالغَ في تعميم الصور التي تنقله وهو يلعب الجودو، ويرمي بالمسدس في نادٍ للرماية، ويسابق بسيارات السباق، ويتزلج مُعانقاً الدبَبة، ويراقب «المخاطر» مِن على متن طائرة حربية أو على ظهر غواصة بحرية. التركيز لا يكلّ على كونه قوياً وفحلاً. الصورة هذه عززتها الحملة المتواصلة على المثليين بوصفهم «ناقصي الرجولة» وممن يدنسون «طهارة» روسيا.
وبوتين كان يغش في إبداعه السياسي منذ 2008، أي نظرية التناوب على الرئاسة مع صنيعته ديمتري ميدفيديف، فضلاً عن الغش عبر التهويل بغزو أميركي وأوروبي لروسيا، خصوصاً في المواسم الانتخابية. هذا ما يُظهر معارضيه الديمقراطيين مجرد عملاء للغزاة. وبالفعل فاضطهاده المنظمات غير الحكومية والتلويح بمخاطرها المزعومة جزء من الوعي التآمري لضابط المخابرات السابق، وقد سبق لروسيا أن أنتجت أشهر وثيقة تآمرية في التاريخ: «بروتوكولات حكماء صهيون». آنذاك أيضاً كان البوليس السري (القيصري) وراء تلك الفبركة.
وهو يغشّ حين يصور نهوض روسيا كنتيجة منطقية وطبيعية لتدهور أميركا وأوروبا. قد يكون مرض روسيا غير قابل للعلاج، فلنعملْ إذن على أمراض أوروبا وأميركا، فنستمدّ الصحة من مرضهما. ومَن يستطيع أن يسيء إلى أوروبا أكثر من حلفائه الشعبويين والقوميين، ومَن الذي يسيء إلى أميركا أكثر من رئاسة دونالد ترمب لها؟
أصدقاؤه هم هؤلاء، وأكثر الذين صادقهم من زعماء الغرب كان الإيطالي سيلفيو برلسكوني. علاقتهما «المميزة» استمرت بعد استقالة الأخير، متخبطاً بفضائحه، عام 2011.
لكن بوتين يغشّ أيضاً في تاريخ روسيا، حيث مَن يعملون على توثيق الحقبة الستالينية وارتكاباتها قد يواجهون العقاب وتهمة العمالة، وهو يغش طبعاً بالتزوير الانتخابي الذي بلغ ذروته في انتخابات 2012 الرئاسية. لقد كان التزوير من طبيعة رقمية وإلكترونية، لكن التحكم بالوحش التقني بدا صعباً: هكذا بلغت نسبة الأصوات المقترعة 146 في المائة من مجموع السكان. في الشيشان التي ذبحها، أحرز بوتين نسبة خارقة من الأصوات! هكذا لم يُخفِ أحد أكبر آباء الشعبوية المعاصرة على نطاق عالمي استعداده لفعل كل ما يجعله زعيماً خالداً.

- سياسات القوة
في الداخل كما في الخارج، كانت «الحلول الأمنية» دين بوتين وديدنه. تعيينه رئيساً للحكومة في 1999 صاحَبَه شن حرب الشيشان الثانية، رداً على هجوم متمردين شيشانيين على داغستان. المطلوب كان دائماً الاستحواذ على القوة والقومية، والتأسيس لحروب لاحقة ضد «الإرهاب».
يومذاك تولاه صانعُه بوريس بيريجوفسكي، أحد أكبر الأوليغارشيين الجدد وأحد أكبر مالكي وسائل الإعلام، الذي بات لاحقاً عدوه وقتيله. قدمه إلى يلتسن، وفي 2000 أوصله إلى الرئاسة بعدما تولى تلفزيون بيريجوفسكي تدميرَ مُنافسيه.
الثورات الملونة في جورجيا 2003 وأوكرانيا 2004 وقيرغيزستان 2005 أخافتْه وكرهها بحس سلطوي وأمني يميز جميع المناهضين للثورات. إنها «اضطرابات» في محيط روسيا تذكر بثورات 1989 - 1990 التي قوضت الاتحاد السوفياتي. هكذا أُخضعت جورجيا في 2008. ومثلما تذرعت موسكو بدعم الأوسيتيين والأبخازيين هناك، تذرعت بدعم الأقلية الروسية في أوكرانيا. في 2014 تدخل في شرق البلد المذكور وضم القرم.
في غضون ذلك، وفي 2013 تحديداً، لعب دوراً أساسياً كضامن لبشار الأسد، ينقل أسلحته الكيماوية إلى روسيا. الارتكابات اللاحقة بينت أن الأسد لا يزال يملك تلك الأسلحة. أواخر صيف 2015، بدأ تدخله العسكري المباشر في سوريا «بطلب من حكومتها». بعض قوات النخبة نقلها من أوكرانيا إليها. في 14 مارس، أعلن أن المهمة تكاد تنتهي وأمر بسحب «الجزء الأساسي» من جنوده. النشاطات العسكرية ما لبثت أن توسعت مجدداً، ودلَّت على أن «المهمة» لم تنتهِ. على أي حال، تُوجت «المهمة» تلك بتدمير حلب. قبل ذلك وبعده، حمى النظامَ السوري في مجلس الأمن.
بيد أن الغشّ في بوتين ينبع من اعتبار وطني يتعدى شخصه. ذاك أن ما يملي الغشّ هو ضرورة إظهار بلده بمظهر البلد القوي الذي كانه مع بطرس الأكبر أو جوزيف ستالين، فيما الحقيقة أنه ضعيف ينبغي التستر على ضعفه.
الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في عهدي غورباتشوف ويلتسن حلها جزئياً ارتفاعُ أسعار النفط والغاز. لكن روسيا ظلت تعتمد على تصدير السلع من غير أية مساهمة تُذكر في ثورة الاتصالات وتقنياتها. زاد في إضعاف اقتصادها العقوبات الدولية التي فُرضت عليها في 2014 بعد إلحاقها القرم. المعارض بوريس نِمْتسوف رأى أن بوتين يحول البلد إلى «مستعمَرة مواد أولية» للصين. والحال أن الأخيرة، لا روسيا، باتت الأقرب إلى أن تكون زعيمة «الشرق». هذا التطور يحض على البحث عن موقع في العلاقات الدولية يُنتزع بالتخريب وبسد الفراغات التي تخلفها سياسة الانسحاب الأميركي من العالم. ناقدُه نمتسوف اغتيل في موسكو عام 2015. ذاك أن الغشّ وحده لا يكفي أحياناً.
لقد برعت روسيا بوتين في أمرين يكادان يختصران ما الذي اختارته من الحداثة: المواد الكيماوية والبيولوجية وغازات الأعصاب، و«تهكير» المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل. محطة التقاطع بين هاتين الوجهتين هي القتل.
منذ تسلمه السلطة في 2000 قُتل، فضلاً عن نمتسوف، 21 صحافياً وعدد من الناشطين والسياسيين. هؤلاء بعض أبرزهم: سيرغي يوشنكوف، سياسي ليبرالي اغتيل في موسكو عام 2003. في العام نفسه سُمم يوري شيكوشيخين، الصحافي والكاتب الذي كان يتابع قصص العنف والفساد. في 2006 اغتيلت أنا بوليتكوفسكايا في شقتها بموسكو، وهي الصحافية التي كشفت فضائح الفساد في الجيش وجرائم هذا الجيش في الشيشان. اغتيالها يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) كانت له دلالة رمزية: إنه يوم عيد ميلاد بوتين. في 2009 اتسع نطاق الدم: قتل محامي حقوق الإنسان والمدافع عن المدنيين الشيشان ستانيسلاف مركيلوف على مقربة من الكرملين. قتلت معه الصحافية أناستازيا بابوروفا. توفي القاضي سيرغي ماغنِتسكي تحت تعذيب الشرطة. ماغنِتسكي كان يتابع مسألة فساد ينخر ذاك الجهاز. قُتلت الصحافية ناتاليا إستميروفا بعد خطفها، ورُميت جثتها في الغابة. إستميروفا كانت ترصد الجرائم في الشيشان. سُمم ضابط المخابرات السابق ألكسندر ليتفننكو في لندن. وفي لندن أيضاً، في 2013، قُتل صانع بوتين، بيريجوفسكي، مخنوقاً في منزله. في 2017، اغتيل في أوكرانيا المعارض دنيس فوروننكوف. في 2018، في بريطانيا، سُمم الجاسوس السابق سيرغي سكريبال وابنته لكنهما أُنقذا.

- شروط الخلاص
كان ينبغي، كي يغدو بوتين مخلصاً، أن يكون سلفه رجل كبوريس يلتسن، وأن يجوع الروس، وأن تنشأ أزمة دستورية كبرى في 1993 تأدى عنها قصف البرلمان في بلد حديث العهد بالديمقراطية، وأن تتطور المشكلة الشيشانية إلى حرب قومية عام 1994، وكان المطلوب أيضاً أن يصاب الناس باليأس من السرديات الكبرى: من الشيوعية ولكنْ أيضاً من الرأسمالية كما شاهدوها في عهدي غورباتشوف ويلتسن، وأن يتضخّم دور الإعلام بحيث يمسي هو صانع المعنى ومصدر النجوم والسياسة، كما يتحول جامعاً أوحد بين ملايين الروس المبعثرين. وكان المطلوب كذلك أن يصعد الأوليغارشيون الذين امتلكوا منابر الإعلام مستفيدين من تصدع الدولة ومن الخصخصة العشوائية لملكياتها. وكان المطلوب أن تستولي الخرافة على العقل، فلا يصدق أحد أحداً لكن الجميع يصدقون الشائعات والخرافات، وأن تتفتت السلطة لتتوزع على كتل نفوذ متصارعة، كالأوليغارشيا المالية، وهي كثيرة الأجنحة، والرئاسة والبرلمان والجيش والمخابرات. وكان المطلوب أن يتمنع الغرب عن إنجاد روسيا بعد سقوط الشيوعية، فلا ينشأ مشروع مارشال لإنهاضها، ولا توقف المصارف الألمانية عن ضخ رساميلها إلى الخارج، بينما يتمدد «الناتو» شرقاً، رغم انتهاء الحرب الباردة التي نشأ بسببها. التدخل الأميركي في حرب البوسنة وقصف بلغراد في 1998 قُدّم بوصفه إيذاناً باقتراب الخطر والمؤامرة. وأخيراً، كان المطلوب انفجار الحنين إلى ماضي القوة السوفياتية في ظل إخفاق متعدد الأوجه.
والذهب ينقلب تراباً في كف روسيا، حيث لا الاشتراكية أفلحت مع لينين، ولا الرأسمالية والديمقراطية أقلعتا مع يلتسن. إذن ها هو الغشّ يجرب حظه مع بوتين.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».