روسيا والعرب: المصالح بعد الآيديولوجيا

عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)
عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)
TT

روسيا والعرب: المصالح بعد الآيديولوجيا

عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)
عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)

استغرقت السياسة العربية لروسيا نحو العقدين من الزمن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لتعيد صياغة ذاتها، وتحدد أولوياتها، وتنجح في تسويق نفسها بصور تتناسب مع تعدد الاهتمامات والمصالح والمحاور العربية، حتى ليبدو أن لموسكو سياسات مختلفة ومتنوعة باختلاف الدول العربية، وتنوع التطلعات في هذه المنطقة.
الاعتبارات الآيديولوجية التي نَظّمت العلاقات السوفياتية - العربية بين عشرينيات القرن الماضي وتسعينياته، اختفت مع اختفاء الاتحاد السوفياتي، لكن المقومات السابقة للسياسة الروسية السابقة على نظيرتها السوفياتية، كانت قد اختفت أيضاً ما فرض على روسيا الاتحادية الجديدة التفكير في أطر حديثة لدورها في الإقليم. بكلمات ثانية، قامت السياسة الروسية في الحقبة القيصرية على السعي إلى الاستفادة القصوى من ضعف السلطنة العثمانية التي كانت تحكم أجزاء واسعة من العالم العربي. فكان التقدم الروسي جنوباً يجري عسكرياً في مناطق البلقان والقوقاز والقرم عن طريق الحروب المباشرة، أو دعم الثورات والانتفاضات المحلية ضد الحكم العثماني، على غرار دعم تمرد والي مصر علي بك الكبير وتحالفه مع ظاهر العمر في فلسطين ما نجم عنه قصف البحرية الروسية لمدينة بيروت، التي كانت في أيدي الأتراك، واحتلالها لفترة وجيزة سنة 1773 على سبيل المثال. ويترافق، من جهة ثانية، مع ضغوط سياسية ودبلوماسية ومطالب بضمان أمن الحجاج إلى الأراضي المقدسة في فلسطين، حيث أنشأ الروس عدداً من المدارس والأديرة.
قطع العهد السوفياتي مع هذه الممارسات، وكان اهتمام السلطة البلشفية الوليدة بالعالم العربي هامشياً وملحقاً بسياستها نحو «شعوب الشرق» التي كان أكثرها خاضعاً للاستعمار، إضافة إلى ما اعتبره السوفيات تخلفاً في البنى الاجتماعية والاقتصادية المحلية ما يؤجل التحاقها بالثورة العالمية التي كانت موسكو قد عيّنت نفسها عاصمة لها. هذا الموقف تغيّر بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور أهمية الشرق الأوسط كساحة منافسة مع الغرب في إطار الحرب الباردة، حيث دعم الاتحاد السوفياتي دعماً ملموساً حركات التحرر الوطني، وما سمي في ذلك الحين «الأنظمة التقدمية» التي أعلنت العداء للاستعمار، وعملت على التخلص من هيمنته والتبعية له.
بيد أن العامل الآيديولوجي لم يكن المكوّن الوحيد للسياسة السوفياتية نحو المنطقة. فعلى الرغم من التأييد المذكور للأنظمة التقدمية ولحركات التحرر، كانت موسكو تخوض حرباً ضارية ضد الولايات المتحدة وحلفائها للبقاء في الشرق الأوسط. فبعد انتصارات كبيرة سجلتها عبر تأييدها لزعامة جمال عبد الناصر، الذي بلغ الذروة في تشييد السد العالي، ثم في إرسال آلاف الخبراء الذين انخرطوا في القتال مباشرة في حرب الاستنزاف بعد هزيمة 1967، مع تجاهل السوفيات القمع الذي كان يتعرض له الشيوعيون العرب، الذين كان من المفترض أن يكونوا الحلفاء الطبيعيين لموسكو التي فضّلت مصالحها الجيو - استراتيجية على المبادئ الأممية، وبعد نجاحها في إحباط مشروع حلف بغداد، تغيّرت الرياح العربية مع طرد الرئيس أنور السادات للخبراء السوفيات في 1972، وتبني حافظ الأسد في سوريا سياسة انفتاح حيال الغرب، خلافاً لسلفه اليساري صلاح جديد، وتصاعد نفوذ دول الخليج التي لم يكن عدد منها يقيم علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفياتي.
أعوام التسعينيات الروسية المضطربة كانت فترة شبه جامدة في العلاقات الروسية - العربية، بسبب انشغال موسكو في ترتيب أوضاعها الداخلية، وتأرجح زعامة بوريس يلتسين بين الانضواء في التحالف الغربي وبين الخضوع لضرورات الأمن القومي الروسي. وبدأت في تلك الفترة تباشير الأفكار «الأوراسية» بالظهور والدعوة إلى إرساء الأمن الروسي على الامتداد الجغرافي الهائل بين القسم الآسيوي من روسيا وصولاً إلى غرب أوروبا. ما يفترض تركيز الاهتمام على إقامة تحالفات ضمن ثلاث دوائر: «الجوار القريب» أي دول الاتحاد السوفياتي السابقة. والصين كعمق اقتصادي، سواء للصادرات النفطية والعسكرية الروسية، أو كقوة صاعدة على الجناح الشرقي لروسيا. والدائرة الثالثة هي أوروبا التي ترتبط روسيا بصلات تاريخية معها لا تقتصر على التبادل التجاري، بل تشمل أيضاً التأثر والتأثير في السياسات الداخلية، وإن على نحو غير مباشر.
في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، عادت المنطقة العربية لتبرز من بين الاهتمامات الروسية. الهدوء النسبي الذي شهده العالم العربي في التسعينيات، لم يكن إلا هدوءاً سابقاً للعاصفة التي انطلقت مع احتلال العراق، ثم اندلاع الثورات العربية، وانهيار «النظام العربي الرسمي»، جراء تناقضات أكثرها داخلي. واعتبرت روسيا أنها ما زالت مهددة بالتطويق من حلف شمال الأطلسي الذي لم يتوقف عن قبول أعضاء كانوا من حلفاء موسكو السابقين، والتأكيد على بناء الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا، ومساندة من تراهم روسيا أعداء لها في أوكرانيا وجورجيا وغيرهما.
أزمة شبه جزيرة القرم، كانت نقطة تجاوزت ارتدادتها أوروباً، ووصلت إلى المناطق التي اعتادت موسكو إدراجها ضمن ساحاتها المضمونة. المثال الأبرز على ذلك كان التحوّل الكبير في السياسات الروسية في سوريا. فبعد أن كان الكرملين يساند نظام بشار الأسد في المحافل الدولية، كمجلس الأمن، ويمده بالسلاح والمال، انتقلت هذه المساندة بعد أزمة القرم إلى التدخل العسكري المباشر، وإرسال عشرات الطائرات الحربية وآلاف الجنود للحيلولة دون سقوط النظام السوري، الذي قدّر مسؤولون روس أنه لن يصمد أكثر من ثلاثة شهور بعد خسارته السيطرة على مدينة إدلب وبلدة جسر الشغور الاستراتيجية، وتقدم المعارضة المسلحة إلى أطراف الساحل السوري الذي يعتبر معقل النظام في صيف 2015.
وفي الوقت الذي ساد فيه أن التدخل هذا سينسف كامل العلاقات الروسية مع الدول العربية الأخرى التي كانت تساند المعارضة السورية، تمكنت الدبلوماسية الروسية من تحويل الأنظار العربية إلى ضرورة التعاون في مجالات تهم الطرفين، خصوصاً في تصدير الطاقة، والتحكم في الأسعار التي شهدت في تلك الفترة انخفاضاً حاداً حمل الروس والعرب على البحث عن حلول للأزمة، في منأى عن استمرار الخلاف في الملف السوري، في الوقت الذي لم تغير فيه موسكو مواقفها من مسائل حساسة تهم العرب مثل القضية الفلسطينية. تغلّب إذن الجانب العملي في العلاقات الروسية - العربية، واستطاع الجانبان تحييد عناصر التفجير، وفق جدول أولويات قد لا يكون مثالياً، إلا أنه يعكس موازين القوى الحالية، وتبدل اهتمامات العرب، وما ينتظرونه من دولة بحجم روسيا ووزنها.


مقالات ذات صلة

الجاسر: 15 % نمو أعداد المسافرين في السعودية خلال 2024

الاقتصاد وزير النقل والخدمات اللوجيستية السعودي المهندس صالح الجاسر (واس)

الجاسر: 15 % نمو أعداد المسافرين في السعودية خلال 2024

أعلن وزير النقل والخدمات اللوجيستية السعودي المهندس صالح الجاسر ارتفاع أعداد المسافرين 15 في المائة عام 2024 لتصل إلى أكثر من 128 مليون مسافر.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد أحد مصانع «الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك)»... (واس)

السعودية... نظام جديد للبتروكيماويات لتعزيز كفاءة قطاع الطاقة وتحقيق الاستدامة

يمثل إقرار مجلس الوزراء السعودي «نظام الموارد البترولية والبتروكيماوية» خطوة استراتيجية على طريق تعزيز المنظومة التشريعية لقطاع الطاقة في البلاد.

محمد المطيري (الرياض)
الاقتصاد العاصمة السعودية الرياض (واس)

«ستاندرد آند بورز» تتوقع تأثيراً محدوداً لزيادة أسعار الديزل على كبرى الشركات السعودية

قالت وكالة «ستاندرد آند بورز» العالمية للتصنيف الائتماني إن زيادة أسعار وقود الديزل في السعودية ستؤدي إلى زيادة هامشية في تكاليف الإنتاج للشركات الكبرى.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد رجل يستخدم جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به بجوار شعارات «لينوفو» خلال مؤتمر الهاتف المحمول العالمي في برشلونة (رويترز)

«لينوفو» تبدأ إنتاج ملايين الحواسيب والخوادم من مصنعها في السعودية خلال 2026

أعلنت مجموعة «لينوفو المحدودة» أنها ستبدأ إنتاج ملايين الحواسيب الشخصية والخوادم من مصنعها بالسعودية خلال 2026.

الاقتصاد أحد المصانع التابعة لشركة التعدين العربية السعودية (معادن) (الشرق الأوسط)

الإنتاج الصناعي في السعودية يرتفع 3.4 % في نوفمبر مدفوعاً بنمو نشاط التعدين

واصل الإنتاج الصناعي في السعودية ارتفاعه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مدعوماً بنمو أنشطة التعدين والصناعات التحويلية، وفي ظل زيادة للإنتاج النفطي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
TT

مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)

أمضت تركيا أكثر من 22 عاماً تحت حكم حزب «العدالة والتنمية» الذي شهدت مسيرته محطات حرجة وتحديات سياسية واقتصادية، بين صعود وهبوط، وانعكست على السياسة الخارجية على وجه الخصوص.

الحزب ذو الجذور الإسلامية الذي أسسه الرئيس رجب طيب إردوغان ومجموعة من رفاقه أبرزهم الرئيس السابق عبد الله غل، والسياسي المخضرم بولنت أرينتش، ظهر في 14 أغسطس (آب) 2001، وفاز منفرداً بحكم تركيا في أول انتخابات تشريعية خاضها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002، وبقي في الحكم حتى الآن.

وخاض الحزب في البداية صدامات مع النخبة العلمانية والجيش والقضاء وصلت ذروتها عند ترشيح عبد الله غل، الذي كان وزيراً للخارجية، للرئاسة عام 2007 خلفاً للرئيس الأسبق أحمد نجدت سيزر.

أزمات ومعارك

أحدث ترشيح غل أزمة كبيرة في تركيا التي شهدت تجمعات مليونية في أنقرة وإسطنبول رفضاً له. وأفلت الحزب أيضاً من الحل في دعوى أقيمت ضده أمام المحكمة الدستورية التي قضت بالغرامة المالية دون الإغلاق في عام 2008، بسبب انتهاكه «مبادئ العلمانية».

ومنذ عام 2010، بدأ الحزب حملة تغييرات واسعة، عبر تعديل الدستور، بعدما استفاد من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي التي انطلقت رسمياً عام 2005 في إرساء العديد من حزم الإصلاحات في النظام القضائي والقوانين.

وخاص الحزب العديد من المعارك، كما نزع فتيل محاولات استهدفته على غرار قضايا «أرجنكون» و«المطرقة» و«القفص» التي حاول فيها عسكريون الإطاحة بحكومة إردوغان.

وعد إردوغان، الرجل القوي الذي لا يزال قابضاً بقوة على السلطة في تركيا، أن احتجاجات «غيزي بارك» في مايو (أيار) 2013، وما أعقبها من تحقيقات «الفساد والرشوة» التي جرت في 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، كانت محاولات للإطاحة بحكومته.

ونُسبت تحقيقات في تهم فساد ورشوة طالت أبناء وزراء في حكومة إردوغان ورجال أعمال مقربين منه، وامتدت إلى أفراد عائلته، إلى حركة «الخدمة» التي تزعمها حليفه الوثيق السابق، فتح الله غولن، الذي توفي منذ أشهر.

حشد من الأتراك يحتفلون وسط إسطنبول فوق دبابة هجرها ضباط من الجيش بعد محاولة انقلاب فاشلة في 16 يوليو 2016 (غيتي)

مواجهة أخيرة

كانت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو (تموز) 2016، التي نفذتها مجموعة من الجيش، نُسب إليها الانتماء إلى حركة غولن، هي آخر المواجهات التي مكنت إردوغان من إخضاع المؤسسة الحامية للعلمانية في البلاد (الجيش) بعدما تمكن من السيطرة على أجهزة الأمن والقضاء عقب تحقيقات الفساد والرشوة، وقام بتطهيرها من أنصار غولن، الذي كان حليفاً لحزب «العدالة والتنمية» منذ ظهوره.

ووسط هذه المعارك التي مكنت إردوغان وحزبه من السيطرة على جميع مفاصل الدولة وإزالة مشكلة حظر الحجاب من أجندة تركيا، كان الحزب يخوض مسار صعود اقتصادي أزال أثر الأزمة الحادة التي عاشتها البلاد في 2001، وكانت العامل الأساسي في فوزه الكاسح بأول انتخابات يخوضها.

صعود اقتصادي وتقلبات سياسية

استمر الصعود الاقتصادي، وساعد في ذلك اعتماد حزب «العدالة والتنمية» سياسة «صفر مشاكل» مع دول الجوار التي أسس لها وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو، الذي تولى لاحقاً رئاسة الحكومة، التي كان لها الفضل في إذابة الجليد في علاقات تركيا مع محيطها في الشرق الأوسط والعالم العربي، فضلاً عن توسيع علاقات تركيا بالشرق والغرب.

ولم تخف توجهات السياسة التركية في هذه الفترة اعتمادها على نظرية «العثمانية الجديدة»، واستعادة مناطق النفوذ، التي انطلقت من نظرية «العمق الاستراتيجي» لـ«داود أوغلو»، وبعدما بدأت تركيا التمدد من الدول العربية إلى أفريقيا اعتماداً على أدوات الدبلوماسية الناعمة والمساعدات الإنسانية وعامل الدين والتاريخ المشترك، جاء ما عرف بـ«الربيع العربي» ليقلب سياسة تركيا إلى التدخل المباشر والخشن عبر أدوار عسكرية امتدت من سوريا وليبيا إلى القرن الأفريقي، وفتحت لها باب التوسع بإقامة القواعد العسكرية في الخارج.

وتسبب انحياز تركيا إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات متشددة، ودعمها في تونس ومصر وسوريا وليبيا، في حصارها في المنطقة، وهو ما حاول سياسيوها تبريره بشعار «العزلة القيمة».

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان... ربع قرن عاصف بالتحولات (غيتي)

بين الكرد والقوميين

جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016 لتضيف مزيداً من التوتر إلى علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين بسبب ما عدّته أوروبا وأميركا، استغلالاً لها في سحق معارضي إردوغان على اختلاف انتماءاتهم وليس أنصار غولن فقط، والتوسع في انتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير عبر الاعتقالات الواسعة، وإغلاق المنصات الإعلامية، وهو ما أدى إلى «دفن» مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي كانت مجمدة بالفعل منذ عام 2012.

الحال، أن الانسداد في العلاقات مع أوروبا كان قد تأجج في فترة الانتخابات البرلمانية في تركيا عام 2015 التي شهدت مصادمات مع الكرد، وخسر فيها حزب «العدالة والتنمية» الأغلبية للمرة الأولى في الانتخابات التي أجريت في 7 يونيو (حزيران) من ذلك العام للمرة الأولى في مسيرته، قبل أن يلجأ إردوغان إلى الانتخابات المبكرة في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، ليفوز بها حزبه.

وفي هذه الفترة كان «العدالة والتنمية» أطلق في عام 2013 مبادرة للسلام الداخلي وحل المشكلة الكردية، قبل أن يعلن إردوغان إنهاءها في 2015 قائلاً إنه لا توجد مشكلة كردية في تركيا.

وأثبتت القضية الكردية أنها الورقة التي يلجأ إليها إردوغان في لحظات الضعف التي يمر بها حزبه وتتراجع شعبيته، فقد عاد الحديث في الأسابيع الماضية عن مبادرة جديدة للحل، أطلقها رئيس حزب «الحركة القومية»، الحليف لإردوغان، دولت بهشلي، ودعا من خلالها إلى حوار مباشر مع زعيم حزب «العمال الكردستاني» المحكوم بالسجن مدى الحياة في تركيا، عبد الله أوجلان، بل دعوته للحديث في البرلمان، والنظر في العفو عنه.

وجاءت هذه الخطوة، كما يرى مراقبون، محاولة من إردوغان لجذب كتلة أصوات الكرد بعد الهزيمة التي تلقاها حزبه في الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس (آذار) الماضي، بعدما فاز بصعوبة بالغة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023، والحصول على دعم نواب حزب «الديمقراطية المساواة للشعوب»، المؤيد للكرد لفتح الطريق أمام إردوغان للترشح للرئاسة للمرة الرابعة في انتخابات مبكرة تُجرى قبل عام 2028 بطلب من 360 نائباً، وهو ما لا يملكه «تحالف الشعب»، الذي تأسس مع تحول البلاد إلى النظام الرئاسي عام 2018، ليضم حزب «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، وأحزاب قومية وإسلامية أخرى صغيرة مثل «الوحدة الكبرى»، و«هدى بار».

وتسبب التحالف مع القوميين في انتقال «العدالة والتنمية» من حزب وسطي إصلاحي يخدم الشعب بلا تمييز ويعمل على دفع الاقتصاد والانضمام للاتحاد الأوروبي، إلى حزب يرفع شعارات الفكر القومي والأمة، ويبشر بالعثمانية الجديدة و«الوطن الأزرق» في ظل نظام يصفه معارضوه في الداخل وحلفاؤه في الغرب بأنه يكرس الديكتاتورية وحكم الفرد منذ إقرار النظام الرئاسي من خلال تعديلات دستورية تم الاستفتاء عليها عام 2017.

إردوغان (يمين) ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني في ديار بكر جنوب تركيا نوفمبر 2013 (غيتي)

ألغاز السياسة الخارجية

ربما تكون السياسة الخارجية لتركيا تحت حكم إردوغان و«العدالة والتنمية» هي أكبر الألغاز المحيرة، فبعدما أريد لها الانفتاح وتصفير المشاكل، انتقلت منذ 2011 إلى التدخل في أزمات المنطقة، ثم رفعت شعار «العزلة القيمة»، بعدما حدثت شروخ عميقة في العلاقات مع محيط تركيا الإقليمي من مصر إلى دول الخليج إلى سوريا والعراق، في مرحلة ما، ثم محاولة العودة بعد 10 سنوات ضائعة إلى مسعى «تصفير المشاكل» مرة أخرى.

وهكذا عملت تركيا على إصلاح العلاقات مع دول الخليج ومصر، وعدم التمادي في تدمير العلاقات مع إسرائيل، على الرغم من إدانتها الصارخة لحربها في غزة ولبنان وهجماتها في سوريا، وصولاً إلى الحوار الإيجابي مع اليونان وأرمينيا.

واتسمت هذه السياسة أيضاً بتبديل غير مستقر للمحاور بين الشرق والغرب، عبر محاولة توظيف ورقة العلاقات مع روسيا والصين وإيران، وتقديم طلب عضوية في مجموعة «بريكس»، والحضور في قمة منظمة شنغهاي للتعاون على المستوى الرئاسي، للضغط من أجل تحريك مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكسر فتور العلاقات مع أميركا.

وشكل التذبذب في العلاقات بين تركيا وروسيا ملمحاً مميزاً، وكذلك مع إيران، لكن بصورة أقل علانية، إلى أن دخلت العلاقات معهما منعطفاً حاداً بسبب التطورات الأخيرة التي أطاحت بحكم بشار الأسد في سوريا، فضلاً عن عدم الرضا من جانب روسيا عن نهج تركيا في التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية.

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان على هامش قمة منظمة شنغهاي في سمرقند سبتمبر 2022 (أ.ف.ب)

هواجس المستقبل

الآن، وبعد نحو ربع قرن ساد فيها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، يبدو أن إردوغان يجد صعوبة كبيرة في تنفيذ وعده لناخبيه عقب فوزه بالرئاسة في مايو 2023 بتأسيس «قرن تركيا».

يواجه إردوغان الآن معارضة عرفت طريقها إلى الشارع بعد أكثر من 22 عاماً من التشتت، وركاماً اقتصادياً أجهض ما تحقق من مكاسب في الحقبة الذهبية لحزبه، الذي أتى بالاقتصاد، والذي قد يرحل بسببه، بعدما بدأ رحلة تراجع منذ تطبيق النظام الرئاسي في 2018، مع صعوبة التغلب على المشاكل الهيكلية، وكسر حلقة التضخم الجامح وغلاء الأسعار وتآكل الدخل.

كما يدخل الحزب عام 2025 مع سؤال كبير وملحّ: «هل يضعف (العدالة والتنمية) أو يتلاشى إذا غابت عنه قيادة إردوغان القوية؟»، ومع هذا السؤال يبدو أن سيناريوهات مقبلة في الطريق لإبقاء الرجل على رأس الحزب والسلطة في تركيا.