روسيا والعرب: المصالح بعد الآيديولوجيا

عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)
عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)
TT

روسيا والعرب: المصالح بعد الآيديولوجيا

عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)
عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)

استغرقت السياسة العربية لروسيا نحو العقدين من الزمن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لتعيد صياغة ذاتها، وتحدد أولوياتها، وتنجح في تسويق نفسها بصور تتناسب مع تعدد الاهتمامات والمصالح والمحاور العربية، حتى ليبدو أن لموسكو سياسات مختلفة ومتنوعة باختلاف الدول العربية، وتنوع التطلعات في هذه المنطقة.
الاعتبارات الآيديولوجية التي نَظّمت العلاقات السوفياتية - العربية بين عشرينيات القرن الماضي وتسعينياته، اختفت مع اختفاء الاتحاد السوفياتي، لكن المقومات السابقة للسياسة الروسية السابقة على نظيرتها السوفياتية، كانت قد اختفت أيضاً ما فرض على روسيا الاتحادية الجديدة التفكير في أطر حديثة لدورها في الإقليم. بكلمات ثانية، قامت السياسة الروسية في الحقبة القيصرية على السعي إلى الاستفادة القصوى من ضعف السلطنة العثمانية التي كانت تحكم أجزاء واسعة من العالم العربي. فكان التقدم الروسي جنوباً يجري عسكرياً في مناطق البلقان والقوقاز والقرم عن طريق الحروب المباشرة، أو دعم الثورات والانتفاضات المحلية ضد الحكم العثماني، على غرار دعم تمرد والي مصر علي بك الكبير وتحالفه مع ظاهر العمر في فلسطين ما نجم عنه قصف البحرية الروسية لمدينة بيروت، التي كانت في أيدي الأتراك، واحتلالها لفترة وجيزة سنة 1773 على سبيل المثال. ويترافق، من جهة ثانية، مع ضغوط سياسية ودبلوماسية ومطالب بضمان أمن الحجاج إلى الأراضي المقدسة في فلسطين، حيث أنشأ الروس عدداً من المدارس والأديرة.
قطع العهد السوفياتي مع هذه الممارسات، وكان اهتمام السلطة البلشفية الوليدة بالعالم العربي هامشياً وملحقاً بسياستها نحو «شعوب الشرق» التي كان أكثرها خاضعاً للاستعمار، إضافة إلى ما اعتبره السوفيات تخلفاً في البنى الاجتماعية والاقتصادية المحلية ما يؤجل التحاقها بالثورة العالمية التي كانت موسكو قد عيّنت نفسها عاصمة لها. هذا الموقف تغيّر بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور أهمية الشرق الأوسط كساحة منافسة مع الغرب في إطار الحرب الباردة، حيث دعم الاتحاد السوفياتي دعماً ملموساً حركات التحرر الوطني، وما سمي في ذلك الحين «الأنظمة التقدمية» التي أعلنت العداء للاستعمار، وعملت على التخلص من هيمنته والتبعية له.
بيد أن العامل الآيديولوجي لم يكن المكوّن الوحيد للسياسة السوفياتية نحو المنطقة. فعلى الرغم من التأييد المذكور للأنظمة التقدمية ولحركات التحرر، كانت موسكو تخوض حرباً ضارية ضد الولايات المتحدة وحلفائها للبقاء في الشرق الأوسط. فبعد انتصارات كبيرة سجلتها عبر تأييدها لزعامة جمال عبد الناصر، الذي بلغ الذروة في تشييد السد العالي، ثم في إرسال آلاف الخبراء الذين انخرطوا في القتال مباشرة في حرب الاستنزاف بعد هزيمة 1967، مع تجاهل السوفيات القمع الذي كان يتعرض له الشيوعيون العرب، الذين كان من المفترض أن يكونوا الحلفاء الطبيعيين لموسكو التي فضّلت مصالحها الجيو - استراتيجية على المبادئ الأممية، وبعد نجاحها في إحباط مشروع حلف بغداد، تغيّرت الرياح العربية مع طرد الرئيس أنور السادات للخبراء السوفيات في 1972، وتبني حافظ الأسد في سوريا سياسة انفتاح حيال الغرب، خلافاً لسلفه اليساري صلاح جديد، وتصاعد نفوذ دول الخليج التي لم يكن عدد منها يقيم علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفياتي.
أعوام التسعينيات الروسية المضطربة كانت فترة شبه جامدة في العلاقات الروسية - العربية، بسبب انشغال موسكو في ترتيب أوضاعها الداخلية، وتأرجح زعامة بوريس يلتسين بين الانضواء في التحالف الغربي وبين الخضوع لضرورات الأمن القومي الروسي. وبدأت في تلك الفترة تباشير الأفكار «الأوراسية» بالظهور والدعوة إلى إرساء الأمن الروسي على الامتداد الجغرافي الهائل بين القسم الآسيوي من روسيا وصولاً إلى غرب أوروبا. ما يفترض تركيز الاهتمام على إقامة تحالفات ضمن ثلاث دوائر: «الجوار القريب» أي دول الاتحاد السوفياتي السابقة. والصين كعمق اقتصادي، سواء للصادرات النفطية والعسكرية الروسية، أو كقوة صاعدة على الجناح الشرقي لروسيا. والدائرة الثالثة هي أوروبا التي ترتبط روسيا بصلات تاريخية معها لا تقتصر على التبادل التجاري، بل تشمل أيضاً التأثر والتأثير في السياسات الداخلية، وإن على نحو غير مباشر.
في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، عادت المنطقة العربية لتبرز من بين الاهتمامات الروسية. الهدوء النسبي الذي شهده العالم العربي في التسعينيات، لم يكن إلا هدوءاً سابقاً للعاصفة التي انطلقت مع احتلال العراق، ثم اندلاع الثورات العربية، وانهيار «النظام العربي الرسمي»، جراء تناقضات أكثرها داخلي. واعتبرت روسيا أنها ما زالت مهددة بالتطويق من حلف شمال الأطلسي الذي لم يتوقف عن قبول أعضاء كانوا من حلفاء موسكو السابقين، والتأكيد على بناء الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا، ومساندة من تراهم روسيا أعداء لها في أوكرانيا وجورجيا وغيرهما.
أزمة شبه جزيرة القرم، كانت نقطة تجاوزت ارتدادتها أوروباً، ووصلت إلى المناطق التي اعتادت موسكو إدراجها ضمن ساحاتها المضمونة. المثال الأبرز على ذلك كان التحوّل الكبير في السياسات الروسية في سوريا. فبعد أن كان الكرملين يساند نظام بشار الأسد في المحافل الدولية، كمجلس الأمن، ويمده بالسلاح والمال، انتقلت هذه المساندة بعد أزمة القرم إلى التدخل العسكري المباشر، وإرسال عشرات الطائرات الحربية وآلاف الجنود للحيلولة دون سقوط النظام السوري، الذي قدّر مسؤولون روس أنه لن يصمد أكثر من ثلاثة شهور بعد خسارته السيطرة على مدينة إدلب وبلدة جسر الشغور الاستراتيجية، وتقدم المعارضة المسلحة إلى أطراف الساحل السوري الذي يعتبر معقل النظام في صيف 2015.
وفي الوقت الذي ساد فيه أن التدخل هذا سينسف كامل العلاقات الروسية مع الدول العربية الأخرى التي كانت تساند المعارضة السورية، تمكنت الدبلوماسية الروسية من تحويل الأنظار العربية إلى ضرورة التعاون في مجالات تهم الطرفين، خصوصاً في تصدير الطاقة، والتحكم في الأسعار التي شهدت في تلك الفترة انخفاضاً حاداً حمل الروس والعرب على البحث عن حلول للأزمة، في منأى عن استمرار الخلاف في الملف السوري، في الوقت الذي لم تغير فيه موسكو مواقفها من مسائل حساسة تهم العرب مثل القضية الفلسطينية. تغلّب إذن الجانب العملي في العلاقات الروسية - العربية، واستطاع الجانبان تحييد عناصر التفجير، وفق جدول أولويات قد لا يكون مثالياً، إلا أنه يعكس موازين القوى الحالية، وتبدل اهتمامات العرب، وما ينتظرونه من دولة بحجم روسيا ووزنها.


مقالات ذات صلة

الجاسر: 15 % نمو أعداد المسافرين في السعودية خلال 2024

الاقتصاد وزير النقل والخدمات اللوجيستية السعودي المهندس صالح الجاسر (واس)

الجاسر: 15 % نمو أعداد المسافرين في السعودية خلال 2024

أعلن وزير النقل والخدمات اللوجيستية السعودي المهندس صالح الجاسر ارتفاع أعداد المسافرين 15 في المائة عام 2024 لتصل إلى أكثر من 128 مليون مسافر.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد أحد مصانع «الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك)»... (واس)

السعودية... نظام جديد للبتروكيماويات لتعزيز كفاءة قطاع الطاقة وتحقيق الاستدامة

يمثل إقرار مجلس الوزراء السعودي «نظام الموارد البترولية والبتروكيماوية» خطوة استراتيجية على طريق تعزيز المنظومة التشريعية لقطاع الطاقة في البلاد.

محمد المطيري (الرياض)
الاقتصاد العاصمة السعودية الرياض (واس)

«ستاندرد آند بورز» تتوقع تأثيراً محدوداً لزيادة أسعار الديزل على كبرى الشركات السعودية

قالت وكالة «ستاندرد آند بورز» العالمية للتصنيف الائتماني إن زيادة أسعار وقود الديزل في السعودية ستؤدي إلى زيادة هامشية في تكاليف الإنتاج للشركات الكبرى.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد رجل يستخدم جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به بجوار شعارات «لينوفو» خلال مؤتمر الهاتف المحمول العالمي في برشلونة (رويترز)

«لينوفو» تبدأ إنتاج ملايين الحواسيب والخوادم من مصنعها في السعودية خلال 2026

أعلنت مجموعة «لينوفو المحدودة» أنها ستبدأ إنتاج ملايين الحواسيب الشخصية والخوادم من مصنعها بالسعودية خلال 2026.

الاقتصاد أحد المصانع التابعة لشركة التعدين العربية السعودية (معادن) (الشرق الأوسط)

الإنتاج الصناعي في السعودية يرتفع 3.4 % في نوفمبر مدفوعاً بنمو نشاط التعدين

واصل الإنتاج الصناعي في السعودية ارتفاعه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مدعوماً بنمو أنشطة التعدين والصناعات التحويلية، وفي ظل زيادة للإنتاج النفطي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.