فشل مشروع «سرية غرباء فلسطين»

رحلة عودة للمتشددين من إدلب إلى مخيمات لبنان

أطفال يشاركون في مظاهرة في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان
أطفال يشاركون في مظاهرة في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان
TT

فشل مشروع «سرية غرباء فلسطين»

أطفال يشاركون في مظاهرة في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان
أطفال يشاركون في مظاهرة في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان

منذ الخريف الماضي، بدأت الأنباء في مخيم عين الحلوة تتحدث عن عودة اثنين من كبار المطلوبين للسلطات اللبنانية إلى المخيم، بعدما كانا غادرا المخيم إلى الشمال السوري. لم تستقر المعلومات على وقائع دامغة، إلى أن أكدت مصادر فلسطينية ولبنانية لـ«الشرق الأوسط» أن اثنين من المطلوبين نجحا بالدخول إلى مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان مرة أخرى، وتواريا داخله.
وقالت المصادر إن الفلسطينيين هما بلال بدر وهيثم الشعبي المعروف باسم أبو مصعب المقدسي، مشيرة إلى أن هذين الشخصين «عادا بالسر، وتواريا عن الأنظار». ولفتت المصادر إلى أن التهامس حول عودتهما «أثار بلبلة رغم أنه لا نشاط لهما، ولا يتمتعان الآن بأي حيثية»، مشددة على أنه «لا أحد استطاع أن يحدد موقع بلال بدر».
وبحسب المصادر، فإن بلال بدر «استفاد من إنجاز أمني له يتمثل بأنه لا صورة له، وهو غير معروف، لذلك لا يمكن التعرف عليه، ولم يشاهده أي أحد في السابق، وهي ميزة تخول له الدخول والخروج وفق آلية تخفٍّ أمني، لا يستطيع أحد اكتشافها»، مشددةً على أنه «لا تواصل له مع أحد، ولا نشاط له أصلاً، وبالتالي، هو موجود ومختبئ بلا أي حيثية». وفي يناير (كانون الثاني) 2018، تأكد بالنسبة للبنانيين والفلسطينيين وجود بلال بدر، أحد أبرز المطلوبين للدولة اللبنانية، في شمال سوريا حيث التحقوا بـ«هيئة تحرير الشام» في إدلب. وبدأت المعلومات التي تتحدث عن عودتهم إلى المخيم، في الصيف الماضي، لكنهم تواروا عن الأنظار.
ولم ينفِ نائب قائد الأمن الوطني الفلسطيني اللواء منير المقدح، كما لم يؤكد، عودة بعض المطلوبين إلى المخيم، بعد خروجهم منه. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «حُكي أنهم ذهبوا إلى سوريا، وهو ما لم يتيقن منه أحد، كما حُكي أنهم عادوا، وهو أمر أيضاً لم يؤكده أحد»، مشيراً إلى أن شخصيات مشابهة «تتوارى عن الأنظار، وتختفي وتظهر، وتتحدث معلومات عن خروجها ودخولها، لكننا لا نعرف كيف يخرجون ولا كيف يدخلون». وأشار المقدح إلى أن المعلومات التي بحوزة قوى الأمن الوطني الفلسطيني «تؤكد أن هيثم الشعبي لم يغادر إلى سوريا، وأنه بقي في المخيم، لكنه متوارٍ عن الأنظار».
وشدد المقدح على أن هؤلاء «لا خطر يترتب على وجودهم»، موضحاً أنهم «لا يشكلون خطراً على المخيم ولا على الجوار». وقال: «كل الأمور تحت السيطرة، والوضع الأمني جيد، والتنسيق مع الدولة اللبنانية ووحدة الموقف الفلسطيني يساهمان إلى حد كبير في تثبيت هذا الأمان القائم». وأكد أنه «رغم أنه في فترة ما كان الوضع صعباً، فإننا لم نسمح لأي تدهور أمني بأن يحصل، والآن نؤكد أن الوضع جيد، ولن نسمح بأي تطورات تهدد الأمن».
ويجزم المقدح بأنه «لا خطر يترتب على وجود هؤلاء في المخيم». ويقول: «تبددت المخاوف منهم حتى عندما كانوا موجودين وقبل رحيلهم، فهؤلاء لا يشكلون أي خطر استراتيجي على المخيم ولا على الجوار بعد الضربات التي تلقوها، وكان آخرها قبل عام ونصف العام». ويقول: «الأمان ينطلق من أن المشروع الكبير للمتشددين على حدود لبنان الشرقية تم ضربه، وأسهمت الضربات الاستباقية للأجهزة الأمنية اللبنانية والإجراءات الفلسطينية بالتنسيق مع الدولة اللبنانية في إنهاء تحركاتهم، وتحجمت حالاتهم».
وتتحدث مصادر فلسطينية في المخيم لـ«الشرق الأوسط» عن أن أحد المطلوبين من آل المصري يخرج من المخيم ويعود إليه، بينما «هيثم الشعبي موجود في الطوارئ، ولم تثبت المعلومات خروجه إلى إدلب في السابق»، أما بلال بدر «فثمة معلومات عن أنه عاد، لكنه يتوارى عن الأنظار، ولم تُرصَد أي حركة له أو وجود، ولا تأثير له». ولدى السؤال عن طرق الخروج والعودة، قالت المصادر: «ثمة خطوط مفتوحة مع مهربين، وقد يكون بعض المتعاونين معه (المتطرفين) من المنتمين إلى فصائل فلسطينية متعددة، وقد يتعاطف بعضهم مع المتشددين، وهو ما يسهّل الخروج والعودة والتخفي».
فشل المطلوبون الفلسطينيون واللبنانيون الذين غادروا مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان إلى إدلب في شمال سوريا، في تأسيس كيان عسكري خاص بهم، وسط التوترات الأمنية والتشظي في الولاءات الذي تعانيه الفصائل في شمال سوريا، وهو ما أفقد وجودهم التأثير والحيثية، فاختار بعضهم العودة، ونجح بلال بدر على الأقل، وآخر كان ينتمي إلى «جبهة النصرة»، بالدخول إلى مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان مرة أخرى، وتواريا داخله.
وبدأت التحضيرات لإنهاء الظاهرة الأمنية في المخيم، في عام 2017، مع نهاية وجود المتطرفين على الحدود الشرقية الحدودية مع سوريا، إثر معركتين خاض «حزب الله» اللبناني أولهما ضد «جبهة النصرة» في جرود عرسال، والثانية خاضها الجيش اللبناني ضد «داعش» في جرود راس بعلبك والقاع، أنهت وجود المتشددين على الحدود. منذ ذلك الوقت، بدأ الحديث عن تسوية يمكن أن تجنب المخيم أزمة قتال، أسوة بمقاتلي «داعش» و«النصرة» الذين خرجوا باتجاه العمق السوري في الشمال أو الشرق. لكن السلطات اللبنانية أعلنت رفضها لأي تسوية مشابهة، بينما أعلن في وقت لاحق عن تسرب المطلوبين، وبث بعضهم مقاطع فيديو لوجودهم داخل سوريا، ما رسم علامات استفهام حول طريقة خروجهم بالتواري، وهو ما فتح شهية الأسئلة حول ما إذا كان هناك غض نظر أمني، لإنهاء حالة التوتر في المخيم.
وفي ربيع عام 2017، أعلن الفلسطيني بلال بدر الذي يُصنّف كأحد أخطر المتشددين في مخيّم عين الحلوة مغادرته إلى سوريا، حيث استقر في محافظة إدلب شمال غربي سوريا التي تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام»، وذلك بعد ضغوط من الفصائل الفلسطينية تطالب المطلوبين أمنياً بمغادرة المخيّم الذي شهد جولات قتال بين تلك الفصائل والمتشددين الذين تنامى عددهم في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، حتى إنهم باتوا يشكلون تهديداً للمخيم.
واختبر المخيم منذ 2017، معركتين قاسيتين ضد المطلوبين والمحسوبين على فصائل متطرفة، كان آخرها، وأقساها، في 2018، وكانت نهاية لهذا الوجود المتطرف، سواء للبنانيين المطلوبين في داخله أم للفلسطينيين. وعلى أثر الأنباء عن خروج المطلوبين البارزين من المخيم إلى إدلب في شمال سوريا، تحدثت معلومات عن تجمع هؤلاء تحت لواء فصيل عسكري واحد حمل عنوان «سرية غرباء فلسطين». هذه السرية تشكلت إثر لقاء الفلسطينيين الفارين من مخيم عين الحلوة. وضمَّت السرية بلال بدر ونحو 10 فلسطينيين من عين الحلوة، إضافة إلى فلسطينيين من الأردن وسوريا.
لكن مصادر مواكبة لحركة هؤلاء في إدلب أبلغت «الشرق الأوسط» أن الفصيل الذي تم تشكيله وحمل اسم «غرباء فلسطين»... «لم يُكتب له النجاح»، مرجعاً السبب إلى «قلة عدد الخارجين إلى إدلب، والمنضوين في السرية». وقالت: «قتل أبرزهم الشيخ إبراهيم خزعل المعروف بأبو محمد الفلسطيني في معارك بشمال سوريا»، وهو مَن أسَّس السرية بعد أن التقى بأمير «جبهة النصرة»، أبو مالك التلّي، وعدد من قيادات الصف الأول في «هيئة تحرير الشام» بإدلب. وأشارت المصادر إلى أنه «لم يبقَ من المغادرين إلى إدلب سوى اللبناني شادي المولوي».
ويقول سكان المخيم إن المطلوبين للدولة اللبنانية كانوا يُقدّرون قبل عام 2016 بنحو 150 شخصاً، غادر بعضهم المخيم، فيما أوقفت الأجهزة الأمنية اللبنانية البعض الآخر من المطلوبين الخطرين في عمليات أمنية داخل المخيم بتنسيق مع القوى الأمنية الفلسطينية، فيما سلمت القوى الفلسطينية بعضهم إلى الدولة اللبنانية. أما الباقون في المخيم، فلا يتعدى عددهم أصابع اليد، وغير مؤثرين.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.