محمد بشكار: تكتبُ كمنْ ترسم بالكلمة

احتفاء مغربي بالشاعرة ثريا ماجدولين

جانب من أمسية الاحتفاء
جانب من أمسية الاحتفاء
TT

محمد بشكار: تكتبُ كمنْ ترسم بالكلمة

جانب من أمسية الاحتفاء
جانب من أمسية الاحتفاء

شكلت الدّورة الثّانية من أمْسيات «في الغرفة المضيئة» الشعرية، التي ينظّمها «بيت الشّعر في المغرب»، بتعاونٍ مع «الجمعية المغربية للفن الفوتوغرافي»، أخيراً، برواق «باب الرواح» بالرباط، فرصة للاحتفاء بصوت شعري نسائي فرض اسمه في المشهد الشعري المغربي العاصر. يتعلق الأمر بثريا ماجدولين، التي انخرطت باكراً في حوْمة الشّعر المغربي، والتي على الرغم من كونِ ديوانِها الأول «أوراق الرماد» لم يظهر سِوى في مطلع التسعينيات، إلا أنه جاء ليتوّج ممارسة شِعرية جادّة خلال عقد الثمانينيات الذي تُعتبر ماجدولين واحدة من أصواته المميّزة. ومنذ ذلك التاريخ، توالت إصداراتُها الشّعرية: «سماء تشبهني قليلاً» و«أي ذاكرة تكفيك» و«أبعد ما يكون»، كاشفة عن قلق الذات والكتابة وانصهارهما معاً في ورشٍ منشغلٍ بالتخييل ونسج الصور المتفرّدة ونحت المعاني غير المتوقعة، جاعلة من الكتابة طريقة لإثبات الوجُود وإبداع نظرة مختلفة إلى الذات والحياة. وعلاوة على مُنجزها الشّعري وكذا عملها كأستاذة للتعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط، صدر للشاعرة كتابٌ نقدي تحت عنوان «الرؤية والقناع في شعر محمد الميموني».
وحيث إن أمسيات «في الغرفة المضيئة»، التي يتضمن برنامج دورتها الثانية استضافة الشّعراء أحمد لمسيّح وثريا ماجدولين ورشيد المومني، تمزج بين العرض البصري والشّعري والفنّي، فقد أثث عازف آلة القانون عبد الناصر مكاوي لأمسية الشاعرة ثريا ماجدولين، التي قدم لها الشاعر محمد بشكار بكلمة حملت عنوان «شاعرة تحمل في اسمها الثُّريا».
وقال بشكار إن ماجدولين، التي قرأت بعضاً من قصائدها، هي شاعرة «لا تَني مُناضلة للكشف عن مواطن الخلل في الدولة وأقصى عقابٍ يمكن أن تضعني في قيوده لِجبر ما لحِق شِعْرها من ضَرر هو العِتابُ بالشَّجن لمدة سبع كلماتٍ غير موقوفة التنفيذ حتى تنتهي القصيدة وغرامة مِقدارُها يجعل العذاب غراماً».
وأضاف بشكار: «ثريا ماجدولين التي قالت: سأكملُ هذا الليلَ بِنِصْفِ قمر، لا أحسبها تُوزِّع قلبها نصفين وهي تجْمع بين الهم السياسي والفرح الشعري، إنما هي تحب القيادة كما تعشق القصيدة أليسوا يقولون: إن القوة تكمن فيما يعْتوِرُنا من هشاشة سَلُوا إذَن الريح كيف تَخضع موازينُها لأجنحة أوْهَنِ فراشة».
واستعاد بشكار المسار الشعري للمحتفى بها، فقال إن «التجربة الشِّعرية لثريا ماجدولين التي نجد لمنْبعها امتداداً في الذاكرة يعود لبداية الثمانينيات منذ أول قصيدة نشرتها على الطريق في صحيفة (المحرر)، كانت ضحية هذه النظرة اليقينية التي تنظر للمرآة من مسافة قريبة من الباب دون أن تحظى بالدراسة والتحليل الجماليين عن كثب، وقد صارت في تراكمها بخمسة دواوين، هي: (أوراق الرماد)، و(المُتْعبون)، و(سماءٌ تشبهني قليلاً)، أي ذاكرة تكفيك؟».
وقال بشكار إنه «إذا كان آخر ديوان وليس الأخير لثريا يحمل عنوان (أبعد ما يكون)، فإني أُفضِّل مع قصائدها أنْ أكونَ أقرب ما أكونْ، أليستْ هي الدانية بقُطوفها الدالية في متناول من كانت يدُ مُخيِّلته غيرَ قاصرة أو قصيرة للقبض على أجمل الصُّور، وقد جمعتْ الشاعرة في صوْغ جواهرها بين تقنيات الدقة والخفة والسرعة، وهي تعاليمُ الكاتب والناقد الإيطالي إيطالو كالفينو للألفية الثالثة، ومع هذه الصور في بوْحِها الرمزي يتمنى المرء لو كان فوتوجينيك ليقرأ وسامته الطبيعية والبديعية دون مُحسِّنات صناعية للفوتوشوب، كما لو تعيد الشَّاعرة خلْقَه في أحد النُّصوص ضاخَّة في عروقه دماء الحياة من الوريد إلى النشيد».
وأشار بشكار إلى أن ثريا ماجدولين التي تحمل دكتوراه تخصص جماليات «تشتغل بكل ما أوتِيتْ من رهافة في الحواس على الصورة الشعرية التي تكسو عظم النثر لحماً، كما لو تبعث الكتابة في الدرجة القبر من رميم، فالنَّص بالصورة الشعرية يُقوِّم أوَدَهُ كما يسعى البعْض لتقويم أسنانه ليحصل بابتسامة اللؤلؤ المنْضود على صورة لائقة في استوديو المنظر الجميل، مع فرق أنَّ شاعرتنا تكتبُ كمنْ ترسم بالكلمة، ولا معنى لكل ما يخْطُر في الوجود إلا إذا شغَفَها بألوانه حُباً».
وختم بشكار كلمته، بالقول إنه «من عجيبِ الصُّدف أيضاً وغرائبِ ما تُخبِّئه الأصدافُ ما لمْ نفْتَحْها، أنْ تستضيف هذه الغُرفة الموْصُوفة بالمُضيئة شاعرة تحمل في اسمها ثُريا معلَّقة بمجْدُول، ومن لا يعرف الثريا فهو لم ينظر للسماء، وذلك مما يزيد الإضاءة في هذه الأمسية ألقاً ويخْطِفُ مع الأفئدة الأبصار، فلا نرى ضائعين في مسالك الشِّعر سواها مِنها الإشاراتُ دليلُنا لموْضِعِ الجمال في المعاني ومنْ قلوبنا إذْ تخفُقُ ولعاً أعْذبُ الأغاني».



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.