تعيش منذ أزمان بعيدة مجموعات من العرب على طول الساحل الشرقي للقارة الأفريقية المطلة على المحيط الهندي. وأصبحت هذه المجتمعات، التي نزحت أصلاً من شبه الجزيرة العربية، باسم عرب الساحل أو السواحليين، وتُقدر أعدادهم بأكثر من 100 ألف نسمة، يتوزعون أساساً على سواحل تنزانيا وكينيا في منطقة تعرف باسم الحزام الساحلي. وتتركز بعض مستوطناتهم القديمة في مدن مثل دار السلام وتانغا ومومباسا.
وكان أغلب العرب المهاجرين الأوائل تجاراً، ثم استقروا على الساحل وتزاوج كثير منهم بالقبائل المحلية الأفريقية، مثل ألبانتو والكوشيت، فضلاً عن تداخلهم مع العائلات في اليمن وسلطنة عُمان. لكن كثيرا من عرب الساحل اليوم يسعون إلى العمل في دول الخليج، خاصة سلطنة عُمان التي أتى غالبيتهم منها في الأساس.
الاحتفاظ بالتراث الإسلامي
ويعيش معظم العرب السواحليين في قرى ريفية، إذ إنهم في المقام الأول صيادون ومزارعون ويرعون الماشية، لكن عدداً منهم تحوّل للعيش في المدن وامتهن مهناً أخرى. وأحياناً عندما يغادر الشباب قراهم لإيجاد وظائف في المدن، ينفصلون عن النظام الاجتماعي والاقتصادي للأسرة ويصبحون عرضة لتعاطي المخدرات، خاصة في مدن الموانئ الحضرية.
ويميل العرب السواحيليون إلى الزواج من عرب سواحيليين مثلهم أو صوماليين، لأنهم يحرصون على الاحتفاظ بتراثهم الإسلامي ورغبتهم في أن يظلوا جماعة مغلقة. وتنتشر في مناطق سكنهم مراكز التعليم الإسلامي التي تجذب طلاباً من جميع أنحاء أفريقيا وخارجها، إذ تقوم هذه المدارس بتدريب التبشيريين والأئمة الذين ينتقلون بعد ذلك إلى أجزاء أخرى من القارة. لكن بالإضافة إلى معتقداتهم الإسلامية فإن بعضهم يؤمن أيضاً بالأرواح الخرافية والغيبيات.
«السواحيلية» خليطٌ لغوي
يتحدث العرب السواحيليون اللغة العربية بالإضافة إلى اللغة «السواحيلية» التي انتشرت داخل القارة وأصبحت الآن إحدى أكبر وأهم اللغات الأفريقية. ومن اسم اللغة نفسها يتبين أن التأثير العربي فيها هائلٌ، فهي في الواقع خليط بين اللغة العربية واللغات المحلية، خصوصاً «ألبانتيو».
وتبدو الملامح العربية الإسلامية واضحة في مدينة كبرى مثل ميناء مومباسا في كينيا، حيث ترى الزي العُماني الخليجي للمرأة واضحاً في شوارع المدينة، فضلاً عن المعمار الإسلامي، خصوصاً في المدينة القديمة، حيث يقع حصن عتيق يدعى «قلعة المسيح» التي كان البرتغاليون قد بنوها على شكل الصليب في نهاية القرن السادس عشر لحماية أنفسهم ضد الهجمات العمانية من البحر. غير أن القلعة سقطت في أيدي العُمانيين ثم البرتغاليين ثم العُمانيين مرة أخرى... وهكذا استمر الحال 9 مرات عبر مئات السنين. وعندما استولى البريطانيون على القلعة في أواخر القرن الماضي حوّلوها إلى سجن، ثم أصبحت بعد استقلال كينيا في عام 1963 متحفاً قومياً يحكي ويجسد تاريخ المدينة العنيف والعريق.
وفي كل مرة كان العمانيون أو البرتغاليون يسيطرون على القلعة كانوا يغيرون أبوابها ويضعون أبواباً تحمل النقوش والزخارف الإسلامية أو المسيحية حسب المحتل الجديد. كما كانوا يحوّلون معبدها إما إلى مسجد أو كنيسة. وعندما سقطت القلعة في أيدي العمانيين لأول مرة، كان العمانيون قد حاصروها من البحر والبر لأكثر من عام، ولم يستسلم البرتغاليون إلا عندما مات أغلب سكان القلعة التي لجأ إليها جميع البرتغاليين في المدينة ليحتموا في داخلها من الغزاة العمانيين. لكن الأمر انتهى بهم إلى الموت جوعاً وعطشاً بعد أن قطع الحصار عنهم جميع الإمدادات بهدف إجبارهم على الاستسلام.
الأثر العربي في مومباسا
ميناء مومباسا هو أكبر وأهم ميناء على الساحل الشرقي للقارة الأفريقية، ويقع في كينيا على المحيط الهندي تحت خط الاستواء قليلا ويعتبر من أقدم الموانئ الأفريقية، وقطعاً أقدمها على الساحل الشرقي. ما يجعل مومباسا ذات اهتمام عربي هي حقيقة أن العرب والعُمانيين تحديداً، هم الذين أسسوها منذ القرن العاشر الميلادي وظلوا حتى القرن الماضي يسيطرون عليها بالتناوب مع البرتغاليين ثم البريطانيين لاحقاً، في صراع دائم بهدف السيطرة على حركة الملاحة البحرية والتجارة في المحيط الهندي.
يتكون سكان مومباسا من نحو 700 ألف نسمة غالبيتهم من الأفارقة الأصليين بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من المهجّنين بين الدم الأفريقي والعربي. كما تعيش في المدينة أيضا جالية عربية (عُمانية الأصل)، وأخرى آسيوية (هندية وباكستانية) حضرت للاستقرار والعمل في مومباسا منذ مطلع القرن العشرين عندما أراد البريطانيون إنشاء خطٍ للسكك الحديدية يمتد من المحيط الهندي عبر كينيا حتى يصل شمال شرقي تنزانيا وجمهورية أوغندا؛ حيث ينتهي عند بحيرة فيكتوريا الشهيرة، منبع نهر النيل. فقد كانت الفكرة ربط المحيط الهندي بالنيل الذي يرتبط بدوره بالبحر الأبيض المتوسط.
وبالطبع ينتشر الإسلام في المدينة وتنتشر المساجد، ونادراً ما يغيب عن أذنيك صوت الأذان للصلوات الخمس. رغم ذلك، لا يستطيع أحد حصر عدد المسلمين في المدينة الذين يعيشون جنباً إلى جنب في وئام كامل مع المسيحيين وأصحاب المعتقدات الأفريقية الأخرى. فالمدينة حقاً نموذج للتسامح الثقافي والتجانس بين البشر اكتسبته على مدى تاريخها الطويل من وفود الجنسيات والشعوب المختلفة إليها.
ورغم فترات الحكم البرتغالية الطويلة، ثم الاستعمار البريطاني في القرن العشرين فإن الأثر الأوروبي على حياة البشر وعمرانهم وحتى لغتهم لا يضاهي بأي حال من الأحوال الأثر العربي. ويعزو مؤرخو المدينة السبب في غياب الأثر البرتغالي رغم طول فترة حكمهم التي لم تقل كثيراً عن حكم العرب، بالقول إن العرب لم يجيئوا كغزاة فقط «بل إنهم خالطونا في دمائنا وعاشوا بيننا وأثروا في سلوكنا وعاداتنا». وفي المقابل عاش البرتغاليون باستمرار داخل حي خاص بهم، بل في معظم الأحوال داخل «قلعة المسيح» التي تم إنشاؤها في عام 1590، وكان هدفهم محصوراً في السيطرة على التجارة والملاحة في المحيط الهندي.
ابن بطوطة وفاسكو دي غاما
أسس المدينة التجار والبحارة العرب في أواخر القرن التاسع الميلادي، ثم زارها الرحالة المعروف ابن بطوطة في عام 1330، كما زارها أيضا المستكشف البرتغالي فاسكو دي غاما في عام 1498. وفي عام 1840 - وبعد أن انتقلت المدينة من أيدي البرتغاليين إلى العرب وبالعكس عدة مرات - خضعت المدينة إلى سيطرة سلطان زنجبار العماني الأصل ثم سيطر عليها البريطانيون في عام 1895، ثم أصبحت عاصمة المحمية البريطانية لشرق أفريقيا في عام 1907.
ومنذ بداية القرن العاشر الميلادي أسس العرب العمانيون بجانب مومباسا عدداً من المدن والموانئ الصغيرة على المحيط الهندي بحيث أصبحوا يسيطرون على حركة التجارة في المحيط. ولكن منذ اكتشاف دي غاما الطريق البحرية إلى الهند عبر المرور برأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا والوصول إلى مومباسا من الجنوب، حاول البرتغاليون على مدى قرن السيطرة على مدن زنجبار التي أنشأها العرب، وبالتالي السيطرة على التجارة في المحيط. وبالفعل طوال القرن السادس عشر وحتى بداية السابع عشر نجح البرتغاليون في تحقيق ذلك دون منازعة كبيرة.
«السواحليون» عربٌ هاجروا إلى شرق أفريقيا منذ قرون وطوّروا لغتهم وتراثهم
العُمانيون والبرتغاليون تبادلوا السيطرة على المحيط الهندي 9 مرات خلال قرون من الغزوات
«السواحليون» عربٌ هاجروا إلى شرق أفريقيا منذ قرون وطوّروا لغتهم وتراثهم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة