الحكومة اللبنانية بين غضب الشارع والضغوط الدولية

نتيجة «موازنة تقشفية» طالت الفقراء وشروط «مؤتمر سيدر» الإصلاحية

الحكومة اللبنانية بين غضب الشارع والضغوط الدولية
TT

الحكومة اللبنانية بين غضب الشارع والضغوط الدولية

الحكومة اللبنانية بين غضب الشارع والضغوط الدولية

بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على تشكيل الحكومة اللبنانية التي رفعت شعار «إلى العمل»، يجد مجلس الوزراء نفسه اليوم محاصراً بين غضب الشارع والضغوط الدولية، وعلى رأسها مؤتمر «سيدر» الذي وعد بإطلاق ورشة مشاريع واستثمارات تقدّر بـ11.8 مليار دولار أميركي، لكن شرط تطبيق «إصلاحات» من أجل خفض العجز وزيادة إيرادات الخزينة ومحاربة الفساد.
إنها الإصلاحات والوعود التي أطلقها السياسيون منذ تشكيل الحكومة، لكن من دون أن يرى منها اللبنانيون أي خطوة عملية، باستثناء خطة للكهرباء توصف بـ«غير المقنعة»، وسبق أن أعدت قبل عشر سنوات، و«موازنة تقشفية» بُحثت على وقع غضب الشارع نتيجة إجراءاتها التي لم تر الإصلاحات إلا في رواتب الموظفين وأصحاب الدخل المحدود.

عقدت الحكومة اللبنانية 18 جلسة مناقشة للموازنة (الميزانية العامة للدولة)، لكنها كلها لم تنهِ البحث في المشروع. وهو ما اضطر الحكومة إلى استئناف المناقشات أمس (الجمعة) في الجلسة الرقم 19، على نية الانتهاء من المناقشات ولإقرارها تمهيداً لإحالتها إلى مجلس النواب كي يقرها بدوره. إلا أن الجلسات لبحث مشروع الموازنة انعقدت على وقع تحركات الشارع وخلافات بين الأفرقاء، وتحديداً بين وزير المال علي حسن خليل ووزير الخارجية جبران باسيل، الذي قال: «البعض في الحكومة يعتقد أن مسوّدة ميزانية 2019 تكفي في صورتها الحالية، ونحن نراها غير كافية»، وذلك بعدما طرح ورقة مختلفة عن تلك التي كان قد قدمها خليل طالباً البحث بها.
غير أن ما يمكن تأكيده، بناءً على ما سرّب وبات معروفاً من إجراءات، فإن مشروع الموازنة الذي ينتظر رد الفعل الدولي عليه، سيأتي مخيباً للآمال سياسياً وشعبياً. وهو ما أدى إلى إعلان قطاعات عدة تصعيد تحركاتها الاحتجاجية، وقال عنها نائب رئيس الحكومة غسان حاصباني في تصريح لوكالة «رويترز»: إن «مسوّدة الموازنة لا ترقى إلى مستوى الإصلاحات الضخمة الضرورية لبناء النمو».
اللافت أن التحركات التي سُجلت في المرحلة الأخيرة هي الأولى من نوعها في تاريخ لبنان. ولعل أبرزها خروج العسكريين المتقاعدين إلى الشارع رفضاً للمساس برواتبهم في موازاة إضرابات شملت الجامعات والمدارس والجمارك والجسم القضائي، حيث هدّد القضاة باستقالات جماعية، كذلك اعتصمت الجمعيات الأهلية رفضاً لتخفيض موازنات بعضها والإحجام عن الدفع لها منذ أكثر من سنة ونصف السنة.
لكن كل هذا لم يحل دون المساس بالرواتب، علماً بأن الضرائب شملت معظم فئات المجتمع، ولا سيما تلك الفقيرة والمتوسطة. ورغم التطمينات التي كان يطلقها بعض المسؤولين من جهة... كان البعض الآخر يدعو المواطنين إلى «التضحية لإنقاذ لبنان». وكانت النتيجة التفافاً على الإجراءات التي اعترض عليها اللبنانيون وليس إلغاء هذه الإجراءات، عبر قرارات شملت القطاعين العام والخاص. ثم إنه بين الضرائب المفروضة وضع ضريبة ألف ليرة لبنانية على «النرجيلة»، وتشريع السلاح والزجاج الداكن الأسود مقابل مبالغ مالية.
من هنا يرى النائب في «اللقاء الديمقراطي» بلال عبد الله في لقاء مع «الشرق الأوسط»، أنه «بدلاً من أن تكون وظيفة الموازنة اقتصادية اجتماعية نراها أصبحت مالية بهدف واحد هو خفض الأرقام بالإنفاق والعجز عبر إجراءات غب الطلب»، هذا في الوقت الذي كان يمكنهم (يعني أهل السلطة) الوصول إلى الهدف بعيداً عن جيوب الموظفين ورواتبه، لكنهم سلكوا الطريق الأسهل. وأردف «نتائجها بلا شك ستكون سيئة على مختلف القطاعات، ونحن نتجه إلى المزيد من الانكماش الاقتصادي».
هذا، وكان طرح تخفيض رواتب الوزراء والنواب قد لاقى رفض عدد من الأفرقاء السياسيين. وكان رد وزير الخارجية باسيل أن «رواتب الوزراء لا تكفي بدل بنزين لسياراتهم»، وللعلم، فإن راتب النائب والوزير هو نحو 8500 دولار شهري ما عدا المخصّصات، وهو يعتبر من الأعلى عالمياً، في حين أن الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص لا يزال 450 دولاراً أميركياً، وأصبح في القطاع العام نحو 630 دولاراً بعد سلسلة الرتب والرواتب التي أقرت العام الماضي. ويشكل العاملون في القطاع الخاص بلبنان حاليا أكثر من 75 في المائة، في حين تقدر نسبة موظفي القطاع العام بـ25 في المائة من القوى العاملة، وأقر قانون الضرائب لتمويل زيادة رواتبهم بقيمة 1200 مليار ليرة لبنانية (800 مليون دولار).

- جانب إصلاحي
في نظرة دقيقة إلى مشروع الموازنة، التي وإن نجحت في خفض العجر إلى نحو 7.5 في المائة بعدما وصل في عام 2018 إلى 11.5 في المائة... واستجابت لشروط «سيدر» عبر خفض العجز من 6.5 مليار دولار إلى ما دون الـ5 مليارات دولار، فهي تخلو من أبرز مصادر الفساد والهدر. وعلى رأس هذه المصادر التهرّب الضريبي والجمركي والأملاك البحرية. وهنا يؤكد النائب جورج عقيص من «حزب القوات اللبنانية» أنها «تفتقر إلى الجانب الإصلاحي»، ووصفها الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي 2019 بـ«موازنة الأمر الواقع التي ستعمّق الركود الاقتصادي».
عقيص في حديث لـ«الشرق الأوسط» قال: إنه «رغم كل عيوب مشروع الموازنة، فإن لبنان بأمسّ الحاجة إليها اليوم؛ نظراً للواقع الذي يعيشه اقتصادياً واجتماعياً... الشعب يريدها، لكن ليس على حسابه والمجتمع الدولي يطالب بأن دون بالحد الأدنى من الإصلاحات». وفي المقابل، أكد يشوعي لـ«الشرق الأوسط» أن «الحل الوحيد هو بوقف العمولات»... وأن يكتفي المسؤولون الممسكون بالبلد وهم ستة أو سبعة أشخاص من كل ما حصلوا عليه حتى الآن، ووقف التهرب الضريبي على أن تنتقل إدارة الخدمات العامة إلى القطاع الخاص وتبقى إدارتها للدولة. ثم أضاف: «هذه الأمور كافية لزيادة النمو الاقتصادي وتأمين فرص عمل من دون حاجة للجهات الدولية، وقادرة على أن تخفف أعباء الخزينة والموازنة وتأمين استثمارات في الاقتصاد ما بين 15 و20 مليار دولار سنوياً، لكن من الواضح أنهم لا يريدون هذا الأمر في ظل وجود 6 أو 7 دوليات تحكم لبنان لحسابها وعلى حساب الدولة... موازنة أجور وخدمة دين لم تجد أمامها إلا مخصّصات الوظيفة العامة المدنية والعسكرية وزيادة الضرائب على كل الشعب اللبناني لا يمكن إلا أن تعمق الركود الاقتصادي في موازاة انهيار القطاع الخاص الذي تأتيه الأعباء من كل حدب وصوب».
في هذه الأثناء، يؤكد مصدر وزاري لبناني أن «ما تقوم به الحكومة اليوم هو خطة استباقية لتفادي الوقوع في المحظور وتقدم على تقليص العجز الذي تعوضه مداخيل مؤتمر سيدر». ويتابع أن «المرحلة المقبلة ستشهد تغيرات كبيرة في السياسات المعتمدة، وتحديداً، حيال مكافحة الفساد...، وهو ما يجمع عليه كل الأفرقاء، ولقد بدأت بوادره تظهر من إجراءات عدة».

- ترقب ودعوات للتصعيد
أمام هذه الإجراءات التي يجمع الشعب والخبراء الاقتصاديون على أنها تفتقر إلى أي رؤية اقتصادية بينما تتجاهل أهم مصادر الهدر، تترقب القطاعات العامة ما ستؤول إليها ساعات المباحثات الأخيرة بحذر، داعية جميعها إلى الاستعداد لتصعيد تحركاتها. لكن، رغم كل هذه التحركات يستبعد النائب بلال عبد الله أن يشهد لبنان «ثورة شعبية»، معتبراً أن النظام الطائفي الذي «شرّع» ما وصفه بـ«محميات الفساد» وقضى على دور الرقابة لا يزال يحول حتى الآن دون ذلك.
وبالفعل، تجمع مختلف القطاعات على الدعوة إلى التصعيد، وهو ما أكد عليه العميد المتقاعد مارون خريش، لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «احتجاجنا دائم والمعركة الكبرى خلال جلسات مناقشة الموازنة في مجلس النواب بعدما كنا علقنا التحركات بناء على وعود بعدم المس برواتبنا... لكن اليوم وفي ظل التوجه لاقتطاع أكثر من 6.5 من رواتبنا فسنعود إلى الاعتصام ولن نتنازل عن حقوقنا». ويضيف «نحن جيل متقاعدي الحرب الذي أمضينا سنوات خدمتنا على الجبهات، وأنا من الذين أصيبوا ثلاث مرات، ليأتي اليوم الذي يحسمون من وراتبنا التي تشكّل نسبة ضئيلة من رواتبهم ومخصصاتهم»، مستطرداً: «بعدما عمدوا إلى تجزئة حقنا في سلسلة الرتب والرواتب عام 2017 ها هم اليوم يقضمون رواتبنا بدلاص من منحنا حقوقنا». وفي بيان لهم، أكد المتقاعدون رفضهم القاطع لأي مساس بحقوقهم، داعين إلى وقف «مزاريب» الهدر والفساد واستعادة الأموال المنهوبة. وأعلنوا «استمرار التصعيد في وجه السلطة المتعنتة طالما استمرت بضرب الدستور والقوانين وتجاهل مطالبه الثابتة شرعاً وقانوناً».

- عسكريون وموظفون وقضاة
في الوقت نفسه، تزامنت دعوة العسكريين مع دعوات من جهات عدة، أهمها من موظفي الإدارة العامة وأساتذة الجامعة اللبنانية - الذي حذروا من مصير العام الدراسي - والقضاة المعتكفين منذ ثلاثة أسابيع وهددوا باستقالات جماعية.
ففي بيان لها، قالت الهيئة التنفيذية لرابطة أساتذة الجامعة اللبنانية، أن تحركاتها تأتي رفضاً لأمور عدة، أبرزها «سياسة الترقيع التي تنتهجها السلطة بمد اليد إلى جيوب الأساتذة والموظفين والمتقاعدين والعمال وأصحاب الدخل المحدود، بدلاً من وضع خطة اقتصادية مالية صلبة تبدأ باسترداد الأموال المنهوبة وسد مزاريب الهدر والصفقات وضبط الجبايات ووقف التهرب الضريبي والجمركي، وتنتهي باستراتيجية بعيدة المدى تحمي اقتصاد ووحدة البلاد وسيادة الدولة على مقدراتها».
وشدّدت الهيئة على رفضها «تخفيض موازنة الجامعة اللبنانية للسنة التالية على التوالي بمقدار 80 مليار ليرة؛ ما يجعل الجامعة بحالة بائسة على جميع الصعد الأكاديمية وغير قادرة على تجهيز مختبراتها وتعزيز أبحاثها وصيانة مبانيها وتفرغ أساتذتها...»، ورفضها أيضاً «تخفيض الرواتب والتقديمات الاجتماعية والمعاشات التقاعدية التي هي حقوق تم تحصيلها بعد نضالات طويلة، وتخفيض موازنة صندوق تعاضد الأساتذة الذي يعطيهم خصوصية هي حق لهم، وزيادة سن التقاعد للحصول على المعاش التقاعدي من 20 إلى 25 سنة، ما يحرم شريحة كبيرة من الأساتذة هذا المعاش التقاعدي». وحملت الهيئة التنفيذية السلطة «المسؤولية الكاملة عن استمرار الإضراب وعن مصير العام الجامعي».

- شروط مؤتمر «سيدر»
إذا كان الهدف الأساسي للإجراءات التقشفية في الموازنة هو الالتزام بمقررات «مؤتمر سيدر» (الدولي الذي عقد في فرنسا) وتوصياته. وبالتالي، الحصول على المساعدات التي وعدت بها، بحسب ما يرى البعض، فإن الأنظار في المرحلة التالية تتجه إلى ما سيصدر عن الجهات المعنية، وعن البنك الدولي الذي سبق له أن وصف الوضع في لبنان بـ«المقلق»، داعياً الحكومة إلى التحرك وإنقاذه.
لكن وزير العمل كميل أبو سليمان، دعا إلى وقف «المزايدات الإعلامية»، معتبراً أن ما تم التوصل إليه لا بأس به. وانطلاقاً من خبرته الطويلة واختصاصه في إصدارات الدولة ووكالات التصنيف، أشار أبو سليمان في حديث تلفزيوني إلى أن «ما يهمّ الأسواق المالية الخارجية ووكالات التصنيف ‏هو الالتزام بوعدنا بـ7.5 في المائة»، وشدّد على أن «المهم في الوقت ‏الحاضر إنهاء ما توصلنا إليه وإقرار الموازنة سريعاً؛ لأن عامل الوقت أصبح ضاغطاً».
لكن في حين يبدي مسؤولون لبنانيون تفاؤلهم في هذا الأمر، منطلقين مما تحقق في الموازنة، يشكّك الدكتور سامي نادر، مدير مركز المشرق للشؤون الاستراتيجية، في استجابة المجتمع الدولي منطلقاً من أمور عدّة.
ويقول نادر لـ«الشرق الأوسط» إنه «بداية، ومهما وضع من أرقام بعد مرور ستة أشهر من السنة لا يمكن تحقيق الهدف من الموازنة، وهي الإشارة السلبية الأولى للمجتمع الدولي في ظل أيضاً غياب أي ضمانات للتنفيذ مع الفريق نفسه الموجود في الحكم والنظام التشغيلي عينه». ويلفت نادر إلى أن الخطوة المقبلة ستكون عبر طرح لبنان خطته التي تتضمن الموازنة بإصلاحاتها المفترضة والمشاريع على رأسها خطة الكهرباء غير المقنعة وخطة الشراكة مع القطاع الخاص الموضوعة منذ العام 2015 ولم ينفذ منها شيئاً. ثم يضيف «الموازنة تعكس غياب أي جهد استثنائي، وهو ما سيبدو واضحاً بالنسبة إلى المجتمع الدولي، وبخاصة، وأن نفقات الحكومة غير مخفّضة في حين خطة الكهرباء غير مقنعة وأبقت القطاع تحت سلطة الدولة». وهنا يلفت إلى صمت وقلة حماسة المجتمع الدولي بعد فترة من الإعلان عن خطة الكهرباء «... وهو ما يعكس إشارة سلبية في هذا الإطار».

- وضع لبناني دقيق
كان لبنان في الفترة الأخيرة محور مراقبة ومتابعة من الجهات المعنية بـ«سيدر»، وكان قد وصف رئيس منطقة الشرق الأوسط في البنك الدولي فريد بلحاج الوضع الاقتصادي في لبنان بـ«الدقيق». في حين أشار السفير بيار دوكان، الموفد الفرنسي الخاص المكلّف متابعة تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر»، إلى دقة الوضع بتأكيده أن «الحكومة لا تملك ترف الانتظار. عنوان البيان الوزاري هو إلى العمل، ويجب العمل بسرعة».
في رد منه على الخطوات الإصلاحية التي قامت بها الحكومة، وعما إذا كانت كافية، قال بلحاج «أعتبر أنها لم تصل إلى المستوى المرتقب». ثم قال فيما يتعلق بـ«سيدر» الذي هو «موضوع مهم، النية ثقيلة من قبل الجهات المكافحة لمنح لبنان دعماً مالياً، حتى على مستوى السياسات الاقتصادية، لكن وصلنا إلى مرحلة حيث أصبح الوقت ثميناً جداً»، معبراً في الوقت عينه عن قناعته بقدرة لبنان على القيام بالإصلاحات.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.