تونس.. الرهان الأكبر

عادة ما يتزامن شهر أغسطس (آب) في تونس مع خروج التونسيين في إجازاتهم الصيفية وتوجههم نحو مواطنهم الأصلية أو نحو المدن الساحلية طلبا للراحة والاستجمام ويبتعدون بذلك عن أخبار السياسة والسياسيين.. لكن الأمر كان مختلفا هذه السنة، إذ لاحقت أخبار السياسة التونسيين وفرضت نفسها عليهم حيثما كانوا، وذلك بسبب تزامن شهر أغسطس الماضي مع أوج إعداد الأحزاب السياسية للوائحها الانتخابية استعدادا لانتخابات 26 أكتوبر (تشرين الأول). وقد رافق عملية اختيار الأحزاب لرؤساء لوائحها ضجيج كبير، وكثر الحديث عن وجود خلافات داخلية عميقة وحتى عن استقالات وانشقاقات صلب بعض الأحزاب. وقد أثارت هذه الأخبار اهتمام الكثير من التونسيين وجعلتهم يعيشون أجواء هذه الانتخابات المقبلة بشكل مبكر. ومن المنتظر بعد هذه «المعارك» الداخلية أن تبدأ الأحزاب في إعداد العدة لحملاتها الانتخابية والتعريف بمرشحيها وبرامجها، في أكبر استحقاق، وأهم رهان أمام البلاد، التي تخطو بشكل حثيث نحو الاستقرار، رغم المخاوف الأمنية، الناتجة من تصاعد العمليات الإرهابية في الداخل وعلى الحدود وفي المنطقة، وانعكاسات الوضع الاقتصادي المتأزم.
السؤال الذي يخامر أذهان التونسيين اليوم سواء وسط الطبقة السياسية أو الرأي العام هو ما إذا ستكون انتخابات 26 أكتوبر 2014 المنتظرة مختلفة عن انتخابات 23 أكتوبر 2011، وذلك ليس في مستوى النتائج فحسب، بل في الممارسة السياسية نفسها. ويمكن القول إن أول المفاجآت هو عدد اللوائح الانتخابية التي ستتقدم لانتخابات 26 أكتوبر التي ناهزت 1500 لائحة مقابل أكثر من 1600 لائحة انتخابية في انتخابات 2011.

* التشتت من جديد
* أظهرت انتخابات 2011 أن نحو مليون ونصف المليون ناخب (ما يمثل ثلث عدد الذين اقترعوا في تلك الانتخابات) تفرقت أصواتهم على عدد كبير من المرشحين ولم يتمكنوا بسبب العدد الكبير من اللوائح التي خاضت غمار هذه الانتخابات سواء من الأحزاب أو من المستقلين من إيصال من صوتوا لهم إلى المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان التونسي). وقد أكدت الكثير من الأحزاب غداة الانتخابات أنها «استوعبت الدرس» وأنها ستعمل في المواعيد الانتخابية المقبلة على «تكوين تحالفات انتخابية واسعة لـ«مواجهة حركة النهضة الإسلامية» التي فازت بانتخابات 2011 بحصولها على 89 مقعدا من جملة 217 مقعدا، وجمع مرشحوها أصوات نحو مليون ونصف المليون ناخب، وهو نفس عدد الأصوات التي وصفت بأنها «ذهبت أدراج الرياح» بسبب تعدد اللوائح وتشتت أصوات الناخبين. وعملا على تجاوز ظاهرة التشتت وضياع الأصوات أقدمت 5 أحزاب من عائلات سياسية مختلفة، في صائفة 2013 بعد اغتيال محمد البراهمي النائب في المجلس الوطني التأسيسي والقيادي في التيار الشعبي (حزب قومي عربي)، هي «حزب نداء تونس» (ليبرالي)، و3 أحزاب ذات توجهات يسارية هي «حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي»، و«حزب العمل الوطني الديمقراطي» و«الحزب الاشتراكي اليساري»، و«الحزب الجمهوري» (وسط اليسار) حينها على تكوين ما يسمى «الاتحاد من أجل تونس»، وهو عبارة عن جبهة سياسية.
وجرت مشاورات كثيرة من أجل تحويل هذه الجبهة السياسية إلى تحالف انتخابي. ولكن العملية فشلت لتقرر أغلب الأحزاب دخول الانتخابات المقبلة بشكل منفرد. ويمكن القول بناء على عدد اللوائح المقدمة لانتخابات 2014 أن ظاهرة تشتت الأصوات سيكون لها تأثيرها من جديد على النتائج المنتظرة وأن الكثير من الأصوات التي ستذهب إلى القوائم المستقلة أو إلى الأحزاب «الصغيرة» التي ليس لها إشعاع كبير على المستوى الوطني لن يتمكن أصحابها من الوصول إلى «مجلس نواب الشعب» وهي التسمية الجديدة التي ستطلق على البرلمان التونسي بعد الانتخابات المقبلة.
* تصنيفات
* يوجد في تونس اليوم نحو 170 حزبا سياسيا سيشارك الكثير منها في انتخابات 26 أكتوبر 2014. وسيكتفي البعض من الأحزاب بالمشاركة في عدد محدود من الدوائر وحتى في دائرة واحدة أو في دائرتين بالنسبة لبعضها، فإن ما يعرف بـ«الأحزاب الكبرى»، ستشارك في كل الدوائر وعددها 33 دائرة 27 دائرة في الداخل و6 دوائر في الخارج.
ولئن كان يصعب القيام بعملية ترتيب موضوعية ودقيقة للأحزاب التونسية من حيث قوتها وإشعاعها على الساحة السياسة فإن مختلف التصنيفات للأحزاب اليوم تعتمد بالأساس على نتائج انتخابات أكتوبر 2011 رغم أن بعض الأحزاب، وخصوصا «حزب نداء تونس» لم تكن موجودة حينها، فضلا عن بروز أحزاب أخرى هي بالأساس منشقة عن أحزاب أخرى معروفة تاريخيا على الساحة السياسية التونسية.
وعلى هذا الأساس يصنف المراقبون الأحزاب السياسية التونسية إلى مستويات كثيرة يأتي على رأسها في الصف الأول كل من حزب حركة النهضة (إسلامي) الذي يتزعمه راشد الغنوشي، و«حزب نداء تونس» الذي يرأسه الباجي قائد السبسي، وذلك اعتمادا على استطلاعات الرأي التي غالبا ما أعطت كليهما نسبا متقاربة من الأصوات تتراوح بين 25 و35 في المائة لكل منهما.
وفي مستوى ثان نجد مجموعة أخرى من الأحزاب مثل «حزب التكتل من أجل العمل والحريات» برئاسة مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي و«حزب المؤتمر من أجل الجمهورية» الذي كان يرأسه محمد المنصف المرزوقي قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية، و«الحزب الجمهوري» الذي تقوده مية الجريبي وأحمد نجيب الشابي، وحزب المسار الديمقراطي الاجتماعي (الحزب الشيوعي التونسي سابقا) ويقوده سمير الطيب. كما نجد في هذا المستوى «الجبهة الشعبية» وهي عبارة عن تحالف بين عدد من الأحزاب اليسارية والقومية وعلى رأسها «حزب العمال» الذي يترأسه حمة الهمامي. كما تحوم أسئلة كثيرة حول حظوظ «تيار المحبة» الذي يتزعمه الهاشمي الحامدي، القيادي السابق في حركة «الاتجاه الإسلامي» (النهضة حاليا) والذي خاض الانتخابات السابقة باسم «العريضة الشعبية» التي حصلت على المرتبة الثانية بعد حركة النهضة بـ29 مقعدا في المجلس التأسيسي. وفي مستوى آخر نجد «حزب المبادرة» الذي يترأسه كمال مرجان آخر وزير خارجية لتونس في عهد بن علي، وحزب «آفاق تونس» برئاسة ياسين إبراهيم و«التحالف الديمقراطي» برئاسة محمد الحامدي المنشق عن الحزب الجمهوري و«التيار الديمقراطي» برئاسة محمد عبو المنشق عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وحركة وفاء برئاسة عبد الرؤوف العيادي المنشقة عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية.
كما نجد مجموعة أخرى من الأحزاب التي تصف نفسها بالبورقيبية نسبة للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أو الدستورية نسبة للحزب الاشتراكي الدستوري الذي تحول في ما بعد إلى التجمع الدستوري الديمقراطي، وتترأس بعض هذه الأحزاب شخصيات عملت مع بورقيبة وزين العابدين بن علي، مثل حامد القروي الوزير الأول الأسبق لـ«بن علي»، ونائب رئيس التجمع الدستوري الديمقراطي الذي وقع حله بعد يناير (كانون الثاني) 2011، والذي شغل أيضا مناصب وزارية مع بورقيبة. ومجموعة من الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية التي ستخوض بدورها الانتخابات المقبلة ولا يعرف الكثير عن حجمها وإشعاعها. وكذلك الشأن بالنسبة لبعض الأحزاب ذات التوجه القومي العروبي التي ستخوض الانتخابات منفردة. ويرى الكثير من المراقبين أن العامل الأبرز المختلف بين انتخابات 2011 وانتخابات 2014 وانتخابات هو ظهور حزب نداء تونس. وهو حزب لم يكن موجودا خلال انتخابات 2011 السابقة ويجمع في صفوفه عناصر من حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل ونقابيين ويساريين ومستقلين. ويقول مؤسسوه إنهم بعثوا الحزب من أجل «تحقيق التوازن على الساحة السياسية» (المقصود خلق توازن مع حركة النهضة الإسلامية التي فازت بانتخابات 2011). وهذا التوازن يبدو أنه تحقق ولو نظريا بالاعتماد على استطلاعات الرأي التي غالبا ما أعطت «النهضة» و«النداء» نسبا متقاربة في نيات التصويت للانتخابات المقبلة. ولكن حزب نداء تونس عاش في الأيام الأخيرة عواصف كثيرة بسبب اختيار لوائحه الانتخابية، وهو أمر لم يرض عنه بعض قيادييه وقواعده في الجهات، وأعلن عدد منهم عن استقالتهم من الحزب وتقدم بعضهم على لوائح أحزاب أخرى أو على لوائح مستقلة، والسؤال المطروح اليوم يتعلق بمدى تأثير هذه الأوضاع التي عاشها الحزب على نتائجه في الانتخابات المقبلة.
من جانبها، لم تتحالف حركة النهضة مع أي حزب سياسي واستعانت فقط بعدد من المستقلين من بينهم وزراء سابقون في حكومة علي العريض ليكونوا رؤساء للوائحها الانتخابية. كما أن الحركة لم تشهد مشكلات داخلية كبرى بسبب اختيار مرشحيها. وهذا ما يؤكد مدى الانضباط السائد بين قيادييها وإطاراتها وقواعدها وأنصارها، رغم أن هذا الانضباط الذي أظهرته الحركة لا يعني وفق بعض المسؤولين فيها أو المقربين منها أنه «لم تكن هناك خلافات حول بعض الاختيارات». ويمكن القول إن الحركة ستدخل غمار الانتخابات المقبلة دون مشكلات داخلية قد تؤثر على حظوظها.

* الأمن والاقتصاد أولوية الجميع في البرامج الانتخابية
* ماذا عن الحظوظ المنتظرة لكل حزب وما هي خطط وبرامج الأحزاب لاستمالة الناخبين؟ تعكس خطابات بعض الأحزاب، وخصوصا الفاعلة منها على الساحة السياسية التونسية ثقة متناهية بشأن حظوظها في الانتخابات المقبلة رغم أن البعض يعد مثل هذه الخطابات الموغلة في التفاؤل «تكتيك» انتخابي وليس قراءة مبنية على معطيات واقعية. فقياديو حركة النهضة ولئن لم يتحدثوا عن نسبب محددة ينتظرون تحقيقها في الانتخابات المقبلة فإن بعضهم أكدوا أن الحركة ستفوز بثقة أغلبية التونسيين من جديد. ووفقا لبعض المصادر القريبة من الحركة فإن «النهضة» تتطلع لتحقيق نفس نتائج انتخابات 2011 على الأقل، وخصوصا المحافظة على ما يسمى «الثلث المعطل» من عدد نواب مجلس نواب الشعب الذي ستفرزه الانتخابات المقبلة. وفي المقابل ما فتئ قياديون في حزب نداء تونس يؤكدون أنهم سيفوزون بالانتخابات المقبلة، مستندين بالخصوص إلى بعض نتائج استطلاعات الرأي، ومقللين في ذات الحين من تداعيات المشكلات الأخيرة التي عاشها الحزب. أما بقية الأحزاب فلا أحد بإمكانه التكهن بالنتائج التي ستحققها رغم أن البعض يتحدث عن إمكانية حصول مفاجآت من عدد من الأحزاب، وذلك مقارنة بنتائج انتخابات مثل التحالف الديمقراطي، أو حزب المبادرة ومن تيار المحبة الذي يمكن أن يحدث مفاجأة جديدة.
أما على مستوى البرامج الانتخابية فإنه وإلى حد الآن لم تكشف الأحزاب التونسية التي ستشارك في الانتخابات المقبلة بشكل رسمي عن تفاصيل برنامجها الانتخابية. ويرى الكثير من المراقبين أن توجهات أغلب الأحزاب لا يختلف بعضها عن بعض خاصة على المستوى الاقتصادي، باستثناء بعض الأحزاب اليسارية التي تتحدث عن منوال تنموي جديد يختلف جذريا عن النهج الليبرالي الذي تعتمده تونس منذ عقود، أو الدعوة إلى تغيير نموذج المجتمع التونسي بالنسبة لبعض الأحزاب اليمينية ذات التوجه الديني التقليدي. ويتوقع هؤلاء المراقبون أن تسيطر قضية «مكافحة الإرهاب» و«معالجة الوضع الاقتصادي المتأزم للبلاد» على الحملة الانتخابية المقبلة، ويؤكدون أن هاتين المسألتين تمثلان أولوية بالنسبة للتونسيين الذين ينتظرون من الأحزاب السياسية مقترحات وأفكارا بهذا الشأن.
من جهة أخرى، بدأت الساحة السياسية التونسية تشهد جدلا واسعا حول طرق تمويل الأحزاب السياسية لحملاتها الانتخابية ومدى التزام الجميع بتطبيق القوانين في هذا الخصوص. وتذهب بعض الأوساط إلى القول إن المال سيكون عاملا محددا في نتائج الانتخابات المقبلة وإن الإمكانيات بين الأحزاب ستكون متفاوتة جدا، وسيكون لذلك تأثيره على هذه النتائج. وقد غذى هذا الجدل وجود الكثير من أصحاب المؤسسات على رأس لوائح انتخابية لبعض الأحزاب من بينها، وخاصة حزبي النهضة ونداء تونس. وهو خيار كان محل اختلاف في الآراء، حيث انتقدت بعض الجهات هذا الخيار وقادت ما يشبه الحملة ضده، في حين عده آخرون مسألة طبيعية وأنه من حق رجال ونساء الأعمال الترشح لعضوية البرلمان مثل أي مواطن تونسي آخر، دون أن يكونوا محل «شبهة». كما أثار الحضور الضعيف للمرأة التونسية في اللوائح الانتخابية استياء الكثير من الأوساط، وخصوصا الجمعيات ذات التوجه النسوي والحقوقي. ويتوقع بالنظر إلى موقع المرأة في اللوائح الانتخابية أن يكون تمثيل النساء في البرلمان التونسي القادم أقل من تمثيليتها في المجلس الوطني الحالي بعد التخلي عن خيار التناصف في تكوين اللوائح الانتخابية.
أما الرهان الأكبر والأهم بالنسبة للانتخابات المقبلة حسب الكثير من المتابعين للشأن التونسي فيتعلق بالجانب الأمني والاحتياطات التي ستتخذ حتى تجري هذه الانتخابات في أجواء عادية خاصة مع تنامي الحديث من جهات رسمية عن وجود تهديدات إرهابية جدية مع قرب موعد الانتخابات، والتأكيدات المتكررة لأكثر من جهة سياسية وحزبية، أن «الجماعات الإرهابية ستعمل على إفشال المسار الانتخابي في تونس»، وهو أهم ملف تعمل عليه السلطات الأمنية والعسكرية التونسية في علاقة بالانتخابات المقبلة وفق عدد من المصادر.