متعبة، لكنها ممتعة وغير طازجة، لكنها صحية! والأهم من هذا كله، أنها تقليد اجتماعي - تراثي درجت ربات المنازل اللبنانيات على تكريس وافر الوقت والجهد لإعداده في أواخر فصل الصيف وبداية فصل الخريف. «المؤونة» أو «المونة» كما تعرف في لبنان، موروث عتيق ينم عن أصالة قروية عمرها مئات السنين. لم تقوَ وسائل التكنولوجيا الحديثة وتقنياتها على محوه.
فعلى الرغم من اكتساح الأطعمة المعلبة والمثلجة الأسواق اللبنانية، لا يزال الكثير يفضلون المنتجات اللبنانية لإيمانهم بصحتها وسلامتها ولما لها فيهم من ذكريات تردهم إلى القرى وأرضها وترابها.
فالقيمة الغذائية الصحية الموجودة في «المؤونة» من دون أي مواد حافظة، تشكل اليوم البديل المفترض عن تلك المعلبات غير الصحية بمعظمها.
من أمام الباحة الخارجية لمنزلها، حيث أوقدت الحطب تحت وعاء نحاسي، وبداخله وضعت شراب البندورة تقول أم علي في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقتها في بلدة عدشيت الجنوبية: «المواطن بات يتوق لتذوق معظم أصناف المؤونة البيتية نظرا لمذاقها الطيب، وتستحوذ المونة اليوم على اهتمام السيدات بعد أن استفحلت الأمراض وساد التلوث في كل شي».
وتضيف وتجاعيد وجهها تحمل ألف حكاية وحكاية: «هذا النوع يحتاج إلى ساعات لينضج، علينا تحريكه باستمرار، فبعد قطاف حبات البندورة من الحقل نعرضها لأشعة الشمس لـ10 أيام، لنقوم بعدها بعصرها وتصفيتها من البذر ثم توضع على النار، وبعد غليها لمدة ساعة نسحب منها المياه ونعرضها مجددا على السطح لأشعة الشمس لتجف وتعلب في أوعية».
«وعندما يطل شهر سبتمبر (أيلول) بطرفه المبلول بأمطار الخريف»، وفق المقولة اللبنانية، يبدأ أهالي القرى والبلدات الريفية، بالاستعداد لتوفير مؤونة شتائهم الطويل والقارس.
وتعد «المؤونة» في البيوت القروية، مصدرا غذائيا وصحيا لغناها بكل أنواع البروتينات والفيتامينات، ولمعرفة ربات المنازل بمكونات ومحتويات كل نوع منها. وتزخر غرفة المؤونة في كل منزل قروي بالكثير من الأصناف. بعد أن تتحولن إلى خلايا نحل تعملن بدأب على إنجازها.
من البرغل والحبوب المختلفة والكشك والفريك، إلى «القاورما» وزيت والزيتون ورب البندورة ومكدوس الباذنجان، ورب الرمان، إلى الكوسا والبامية والملوخية المجففة على الخيط، واللبنة «المدعبلة» إلى الدبس مع الطحينة، إضافة إلى المخللات والمقددات والمربيات على أنواعها، فضلا عن مختلف أنواع العصير والمثلجات من الخضار والفواكه.
ويحتل الكشك البلدي مكانة رائدة عند ليلى ابنة بلدة السعديات (جبل لبنان) فهو «الذهب الأبيض» الذي يؤكل ساخنا، حيث تحرص على إعداده كل موسم. وتشرح: «هو يتناسب مع الشتاء عدا عن أنه غذاء صحي وذو مذاق طيب، وهو يتطلب وقتا أطول من (رب البندورة)».
بداية هو يبدأ من خلط لبن البقر والماعز والحليب والسميد الخشن معا، ثم تركها أسبوع، بعدها يوضع تحت أشعة الشمس لتجف الحبوب، قبل أن تنقل هذه المواد معا إلى الجاروشة، ليتحول كشكا حيث كان قديما يعد وجبة أساسية على المائدة ويؤكل مع خبز المرقوق الطازج ويتم وضع القاورما داخله وفق تعبيرها.
وانتقالا إلى أم حسن ابنة بلدة كفر رمان – النبطية، وهي من أشهر النسوة الجنوبيات في تحضير المؤونة، إذ تعتبرها من أهم واجباتها، مؤكدة أن «البيت بلا مونة كالحياة بلا طعم»، متحدثة عن كيفية تحضير البرغل: «من بعد حصاد القمح ودرسه تبدأ رحلة السلق، تجتمع العائلة والجيران حول موقدة توضع فوقها (الحلة) وتكون فرصة لأكل (القلبة)، (قمح مسلوق مع السكر).. ثم يتعاونون لنقل القمح إلى سطح المنزل، حيث يفرش تحت أشعة الشمس ليجف، وبعدها يؤخذ إلى المطحنة ليجرش ويحول إلى برغل».
ولعل أكثر ما ينغص طعم المؤونة الشتوية عند القرويين، الضغوط المعيشية والاقتصادية السائدة التي يعيشها المواطن القروي، والتي دفعت غالبية العائلات إلى تقســـــيم إعداد المؤونـــة إلى مراحل متعددة وبكميات مختلفة، تجنبا لإرهاق ميزانياتهم بجمــــيع المصاريف دفعة واحدة.
وتعد الملوخية من أكثر الأطباق العربية شهرة، وهي تؤكل يابسة.. إلا أنها تكبد المزارع معــــــاناة تتمثـــــل بالمراحل الممتـــدة من زراعتها إلى تجفيفها.
بدوره، يرى المزارع زياد خليل (من بلدة العين البقاعية) أن المأكولات كالقمح والجوز والصنوبر والفاصوليا والألبان هي (مسامير الركب)، على حد قوله، تعطي الإنسان المناعة والقوة وكل الفيتامينات، مشددا على أن «الناس في البلدات والقرى هم أقل عرضة للمرض من أولئك القاطنين في المدينة».
واللافت أن هناك من جعلها مهنة يعتاش منها، فيبيع بعض المؤونة إلى بعض أهالي المدينة الذين بدأوا بالتهافت عليها في الآونة الأخيرة، بعد أن أدركوا خطورة المواد المعلبة والمستوردة والفواكه المبردة، التي تحمل في لذة طعمها سموما فتاكة وأمراضا خبيثة ارتفعت نسبتها بشكل هائل. وفي الوقت الذي يسخر فيه البعض من المؤونة لاعتباره «أن كل شيء متوفر بوجود الخيم البلاستيكية»، فإن الكثيرين يعرفون كيف تنبت فيها الخضار وكيف تنمو بسرعة بواسطة أدوية ليست مضرة بل قاتلة.
وللفاكهة اهتمام خاص، حيث يتم طبخها وتحويلها إلى مربيات ومنها مربى المشمش والدراق والكرز والتفاح والفراولة والإجاص واليقطين وغيرها.. ومنها ما يتم تجفيفه كالتين، والسفرجل، وأكواز الرمان، والمشمش والعنب الذي يسمى بعد تجفيفه (الزبيب) وهو من أشهى وألذ الفاكهة المجففة.
ومن المعروف أن المؤونة لا تزال متوارثة لدى الكثير من اللبنانيين الذين يقطنون في البلدات البقاعية وبلدات وقرى الشمال وعكار والجنوب وجبل لبنان البعيدة عن المدينة.
وفي الختام يبقى أن بعض أنواع المؤونة وفي مقدمها الكشك والقاورما ومكدوس الباذنجان، تعد من الوجبات الغذائية التي تنزح وتهاجر، إذ ترسل إلى الأبناء والأقارب المنتشرين في بقية المناطق اللبنانية أو في الاغتراب، وتمثل لهم الغذاء الصحي الغني والشهي، الذي يحوي بين ثنايا طعمه حنينا وشوقا إلى الأهل والوطن.
«المؤونة القروية» تتفوق على المأكولات المعلبة والمستوردة في لبنان
موروث صحي وأنواعه مختلفة ومعروفة بقيمتها الغذائية
«المؤونة القروية» تتفوق على المأكولات المعلبة والمستوردة في لبنان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة