في 15 مايو (أيار)، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمراً تنفيذياً بإعلان حالة الطوارئ الوطنية بخصوص تهديدات ناجمة عن الاستحواذ غير المقيد أو استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات داخل الولايات المتحدة. إلى جانب ذلك، حظرت وزارة التجارة على الشركات الأميركية شراء منتجات «هواوي» أو بيع تقنيات حساسة لشركة الاتصالات الصينية العملاقة.
وتهدف هذه الخطوة إلى حماية الولايات المتحدة وكذلك الديمقراطيات الغربية من الخصوم الأجانب (الصين) الناشطين حالياً في بناء واستغلال نقاط الضعف في البنى التحتية والخدمات المتعلقة بتقنيات المعلومات والاتصالات بهذه الدول. وينبغي النظر إلى الإجراءات التي أقدم عليها ترمب في إطار أوسع بكثير يتعلق باحتدام التنافس الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة. إذ تأتي الإجراءات المحددة التي اتخذت ضد «هواوي» جزءاً من الحرب التجارية الدائرة بين الجانبين. ومع هذا، فإن استهداف «هواوي» وتهديد ترمب للدول الحليفة بفرض حظر على التشارك الاستخباراتي معها إذا استخدمت معدات صينية، يتعلقان بـ«5جي» أو ما يعرف بالجيل الخامس وتقويض تقدم الشركة الصينية باتجاه الجيل الخامس.
قيادة الثورة الصناعية الجديدة
يقف الاقتصاد العالمي على أعتاب ثورة كبرى جديدة، ومن المنتظر أن تصبح تكنولوجيا الجيل الخامس العامل المحدد للمرحلة الاقتصادية المقبلة من تاريخ العالم. ونظراً لأنها أكبر شركة مصنعة لمعدات الاتصالات عن بعد، وتستحوذ على 28 في المائة من السوق، متقدمة بذلك بفارق كبير على منافستيها الأوروبيتين «إريكسون» و«نوكيا»، علاوة على أنها مرتبطة اليوم بتعاقدات تفوق إجمالي تعاقدات جميع منافسيها، فمن المنتظر أن تلعب «هواوي» دوراً محورياً في إحداث تحول بالاقتصاد العالمي ومساعدة الصين لتجاوز الولايات المتحدة لتصبح القوة الاقتصادية المهيمنة عالمياً. ويعتقد بعض الخبراء أن تقنيات الجيل الخامس ستغير أسلوب حياتنا إلى الأبد وتحقق ثورة صناعية جديدة تعتمد على البيانات. كما أن شبكات الجيل الخامس ستمكن من مزيد من قدرات «إنترنت الأشياء» والسيارات المتصلة بالإنترنت والتطبيقات الذكية. وتقدر شركة «أكسنتشر» أن «إنترنت الأشياء» ربما تضيف 14 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي بحلول 2030 وستشكل الدافع الأكبر للإنتاجية والنمو وستزيد وتيرة إعادة ابتكار قطاعات ستشكل قرابة ثلثي الإنتاج العالمي.
ومن غير المثير للدهشة أن نجد أن الولايات المتحدة تسعى للحيلولة دون تحقيق الشركات الصينية الأكثر تقدماً نمواً جديداً، ناهيك بقيادتها نمو الاقتصاد العالمي. بصورة جوهرية، ستسمح هيمنة «هواوي» على الجيل الخامس للصين بالقفز متجاوزة الولايات المتحدة وستساعدها على إسراع وتيرة تحركها نحو التفوق الاقتصادي. بجانب ذلك، تتهم الإدارة الأميركية الصين بأنها تسعى من وراء اختراق سوق الجيل الخامس إلى إقرار نظام عالمي جديد محل النظام الدولي الحالي الذي جرت صياغة قواعده في الغرب.
وتبقى هناك علامات استفهام خطيرة حول الاستقلال العملي لـ«هواوي» والروابط الوثيقة بينها وبين الحزب الشيوعي الصيني. ويطرح تقرير صدر مؤخراً عن «هنري جاكسون سوسيتي» في لندن حجة مقنعة بخصوص لماذا تجد «هواوي» نفسها مضطرة للتعاون بصورة وثيقة مع الاستخبارات الصينية. ويسود اعتقاد لدى الإدارة الأميركية والحكومة الأسترالية، بجانب دول أخرى، بأن بكين تتوقع من شركات الاتصالات الصينية أن تبني أبواباً خلفية أو سبلاً خفية للوصول إلى البيانات، وأن منتجات هذه الشركات ستمكن الصين من التجسس على منافسين أجانب وسرقة ملكية فكرية أو حتى إغلاق مؤسسات بنية تحتية أجنبية عن بعد.
أيضاً هناك مخاوف من أن شبكات الجيل الخامس تحمل إمكانية تغيير أسلوب عمل المؤسسات العسكرية في المستقبل. على سبيل المثال، ربما يفاجأ حلفاء أميركيون في جنوب شرقي آسيا بتراجع قدراتهم على دمج أسلحة ومنصات أسلحة أميركية الصنع في ترساناتهم، ما قد يعرض هذه الدول للخطر.
خلاف بين الحلفاء الأميركيين
رغم ما تحمله من أصداء قوية لنظرية مؤامرة، دفعت ادعاءات واشنطن بأن «هواوي» واجهة للاستخبارات الصينية، شركاء واشنطن في «تحالف الـ5 أعين» للتشارك الاستخباراتي (كندا والمملكة المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا) باتجاه إعادة تقييم مدى حكمة التعاون مع «هواوي». ومع ذلك، تبدو المملكة المتحدة على خلاف مع شركائها.
في أبريل (نيسان)، وافقت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بصورة مبدئية على الاعتماد على تكنولوجيا «هواوي» في الأجزاء غير المحورية من شبكات الاتصالات عن بعد من الجيل الخامس المستقبلية في المملكة المتحدة، بعد اجتماع لمجلس الأمن الوطني. واعتمد القرار على تقرير صادر عن مركز تقييم الأمن السيبراني المرتبط بـ«هواوي» الذي أشار إلى إمكانية تقليص التهديدات السيبرانية الصادرة عن المعدات المنتجة من «هواوي»، ما دام أنها تقتصر على الأجزاء والوظائف غير الجوهرية، مثل المجسات.
جدير بالذكر أنه داخل الشبكات، هناك عناصر جوهرية تتعامل مع وتدير مرور البيانات الحساسة، وهناك عناصر غير جوهرية مثل الصناديق والمجسات التي تتعامل مع البيانات دون قراءتها. علاوة على ذلك، أشار المركز في التقرير الذي أصدره في مارس (آذار)، إلى عدم وجود دليل مباشر على تورط «هواوي» في أعمال تجسس بدعم من الدولة الصينية. ومع هذا، انتقد التقرير الشركة الصينية العملاقة بسبب ضعف مستوى الكفاءة الهندسية والأمن السيبري، الأمر الذي يمكن استغلاله عبر شن هجمات سيبرية. وذكرت مصادر أنه خلال اجتماع مجلس الأمن الوطني، أعرب 5 وزراء عن تخوفهم إزاء الاعتماد على الشركة. ويذكر أن «فودافون» ستشرع في إطلاق شبكة الجيل الخامس الخاصة بها في يوليو (تموز)، بالاعتماد على تكنولوجيا «هواوي».
تأثير خطوة ترمب على الجيل الخامس
من المحتمل أن يؤثر القرار التنفيذي الذي أصدره ترمب في حال استمراره، على «هواوي» بصور عدة؛ منها تأخير إطلاق شبكات الجيل الخامس الصينية وإعاقة سلسلة الإمداد الخاصة بالشركة، بجانب التسبب في مزيد من التقويض للمحادثات التجارية الجارية بين واشنطن وبكين. كما أنه سيدفع حلفاء أميركيين، خصوصاً داخل «تحالف الـ5 أعين» وآخرين لإعادة النظر في التعاون مع شركات اتصالات صينية في الوقت الحاضر (وربما يسير رئيس وزراء بريطانيا القادم على هذا النهج)، ولن يترك استعداد «هواوي» لتوقيع اتفاقات حظر تجسس تأثيراً يذكر على هذا الصعيد.
ومع هذا، سيمضي قطاع الاتصالات الصيني في قيادة التحركات نحو حقبة الجيل الخامس، وإذا كان التحرك الصيني إلى داخل أوروبا وأميركا الشمالية سيجري إرجاؤه حالياً، فإنه سيمضي بالتأكيد إلى داخل جنوب شرقي آسيا، وبذلك ستبدأ موجة «تسونامي» صناعية جديدة من ناحية الشرق. وسيتعين على الولايات المتحدة حينذاك إيجاد ملاذ قوي يحميها.
*المدير التنفيذي لـ«كاسلريه وشركاه» - خاص بـ«الشرق الأوسط»
في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»https://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5068334-%D9%81%D9%8A-%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-7-%D8%A3%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%A8%D8%B1-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81%D9%88%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%85-%D8%AA%D8%B9%D8%AF-%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%85%D8%A9
في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».
لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.
وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.
وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.
وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.
وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.
والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.
«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة
مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.
فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».
تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.
تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.
يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».
ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.
ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.
الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.
الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.
أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.
والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.
التغيير الجديد... نظرة فوقية
في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.
وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.
لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.
والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.
في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.
وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.
إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.
والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.
في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.