اللغة الدولية للثقافة والفكر

التنافس الفرنسي ـ الإنجليزي

TT

اللغة الدولية للثقافة والفكر

لا خلاف على أن التواصل بين الأمم على مر العصور استلزم وجود لغة وسيطة لنقل المعرفة والفكر والعلم، وفي كثير من الأحيان عبر التاريخ الإنساني تتبوأ لغة ما مكانة خاصة، ليس فقط في مجتمعها أو دولتها ولكنها تمتد إلى ما بعد حدودها نتيجة لعوامل مختلفة، فتصبح لغة الفكر والتواصل عبر حدود الدول لا سيما بين النخب، وهي المكانة التي حظيت بها اليونانية خصوصاً مع توسعات الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد، وحتى مع تفتت إمبراطوريته فقد احتفظت اليونانية بمكانتها لقرون ممتدة حتى طغت عليها اللغة اللاتينية مع التوسع الروماني، ومع ذلك لم تستطع اللاتينية القضاء على اليونانية تماماً لأسباب مختلفة، ولكنها جعلتها في مرتبة متراجعة كثيراً لقرون ممتدة، ومع ظهور الدولة القومية والاكتشافات الجغرافية وطرق التجارة وزيادة وتيرة التبادل الفكري بين أجزاء من العالم خصوصاً مع حركة الاستعمار، صار هناك تنافس شديد بين اللغتين الفرنسية والإنجليزية على وراثة اللغة اللاتينية، وهو الصراع الذي حُسم لصالح تبوؤ الإنجليزية المرتبة الأولى، بحيث أصبحت اللغة الطاغية والمعترف بمكانتها الفكرية والتجارية والثقافية على المستوى الدولي، ولكن لهذه الخطوة خلفيات تاريخية مهمة.
حقيقة الأمر أن خريطة اللغة الفكرية في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت تعكس الحقائق السياسية والعسكرية بل والفكرية الجارية في أوروبا، فمنذ اعتلاء لويس الرابع عشر الحكم في فرنسا أصبحت باريس ومعها اللغة الفرنسية هي لغة الفكر والثقافة بين النخب الأوروبية، إذ إن سياسته كانت تدفع نحو تعظيم ما نطلق عليه اليوم «القوة الناعمة» لفرنسا إلى جانب التوسعات العسكرية والاستعمارية الخارجية، وهو ما عزز دور تسيد اللغة الفرنسية، وقد زاد من أهمية هذه اللغة انتشار الحركات الفكرية المختلفة في فرنسا، خصوصاً مع قيادتها للحركتين «العقلانية» و«التنويرية» وتسيدها المشهد الفلسفي بظهور عظماء فكر مثل ديكارت وفولتير وديديرو وروسو وحركة «الفيلوسفس» و«الانسكلوبيديا»، وهكذا أصبحت فرنسا مركزاً للفكر الدولي وصارت لغتها هي لغة التواصل الفكري والثقافي في القارة الأوروبية، ولعل أبرز ما يبرهن على ذلك هو أن اللغة الفرنسية أصبحت لغة التراسل الدبلوماسي والسياسي بين الدول.
ولكن اللغة الفرنسية فقدت هذه المرتبة مع مرور الوقت وتراجعت للمرتبة الثانية لصالح اللغة الإنجليزية، وذلك رغم المسعى الاستعماري الدؤوب لفرنسة كل مستعمراتها، وحقيقة الأمر أنه يصعب التحديد الزمني لبداية هذه الظاهرة، وإن كانت بعض الاجتهادات تذهب إلى أنها جاءت في حدود القرن التاسع عشر تقريباً، وهو ما جاء نتيجة عدد من العوامل الأساسية على رأسها الحركة الاستعمارية الذكية لبريطانيا مقارنة بفرنسا، فلقد احتلت بريطانيا ما يقرب من خُمس الكرة الأرضية حتى لُقبت «بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس»، وفي صراعها الاستعماري حسمت تسيدها أمام فرنسا ووضعت أيديها على المفاصل التجارية الدولية، ما جعلها تتحكم في مسارات التجارة الدولية، ومن ثم فرضت لغتها. من ناحية أخرى، فقد شهد القرن التاسع عشر ومن قبله بعقود قليلة بزوغ الثورة الصناعية الأولى ثم الثانية في إنجلترا وما جاء معها من انفتاح على العالم فزاد الطلب على اللغة الإنجليزية، وأسهم في ذلك انتشار مدارس فكرية أساسية حكمت الرؤية الدولية بشكل عام وعلى رأسها المدرسة الليبرالية التي ترجع جذورها إلى جون لوك ومن بعده آدم سميث وميل وغيرهم، بما جعل بريطانيا ليس فقط الإمبراطورية الكبرى ولكنها صارت أيضاً مركز الإشعاع الفكري والثقافي الذي رسم خريطة السياسة الدولية معه.
لقد أسهم بشكل كبير في حسم الصراع اللغوي بين الإنجليزية والفرنسية لصالح الأولى ميلاد الولايات المتحدة الأميركية وما مثلته من قوة دولية متنامية سحبت المد الفكري والسياسي الدولي من القارة الأوروبية إليها، فكانت هذه الدولة العملاقة الفتية مركزاً جديداً لدفع اللغة الإنجليزية على المستوى الدولي، خصوصاً بعدما أصبحت مركز العلم والفكر في كل العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة باحتضانها أكبر الجامعات والمراكز البحثية والفكرية إلى جانب أساطيلها البحرية التي كانت تجوب كل محيطات العالم، وقد أسهم بشدة في تقوية هذا الوضع للغة الإنجليزية دولياً انتشار «القوة الناعمة» الأميركية بعد أن غزت مسلسلاتها وأفلامها وكتبها العالم بشكل مخيف، ما قلص من مساحة منافسة قوية أمامها، وهو ما زاد بقوة بعد ثورة الاتصالات التي قادتها الولايات المتحدة بلغتها الإنجليزية ما أدخلها كل بيت، متخطيــــة كل الحدود السياسية والعوائق اللغويـة والثقافية الأخرى، فأصبحت اللغة الإنجليزية اليوم ليس فقط لغة النخب الدولية، ولكن الأفراد أيضاً عبر الإنترنت وغيرها من وسائل التواصل بين الأمم.
ولكن هل يمكن أن تفقد اللغة الإنجليزية صدارتها القوية على المستوى الدولي مستقبلاً؟ حقيقة الأمر أن الإجابات قد تتباين، فالتسيد اللغوي الدولي لا يُحسم بعدد الدول المتحدثة باللغة وتعداد سكانها، وإلا صارت الصينية هي اللغة المتصدرة، ولكنه يعتمد على عوامل كثيرة ومتعددة، وكل المؤشرات تعكس حقيقة استمرار اللغة الإنجليزية في تبوؤ هذه المكانة لفترة مقبلة ما لم تتغير المتغيرات الدولية والحقائق القائمة اليوم.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.