الإرهاب في الساحل الأفريقي

قسوة الطبيعة... ووحشية التنظيمات المتطرفة

أفراد من القوات الخاصة الفرنسية يشاركون في مراسم تشييع زميلين لهما  قُتلا في غارة لإطلاق سراح الرهائن في بوركينا فاسو منتصف الشهر (أ.ف.ب)
أفراد من القوات الخاصة الفرنسية يشاركون في مراسم تشييع زميلين لهما قُتلا في غارة لإطلاق سراح الرهائن في بوركينا فاسو منتصف الشهر (أ.ف.ب)
TT

الإرهاب في الساحل الأفريقي

أفراد من القوات الخاصة الفرنسية يشاركون في مراسم تشييع زميلين لهما  قُتلا في غارة لإطلاق سراح الرهائن في بوركينا فاسو منتصف الشهر (أ.ف.ب)
أفراد من القوات الخاصة الفرنسية يشاركون في مراسم تشييع زميلين لهما قُتلا في غارة لإطلاق سراح الرهائن في بوركينا فاسو منتصف الشهر (أ.ف.ب)

قُتل 28 جندياً في النيجر، منتصف الشهر الحالي، واعتُبر 11 آخرون مفقودين، بعد هجوم على تونغو تونغو في منطقة تيلابيري، قرب الحدود المالية، ونقل كثير من الجرحى إلى مستشفيات العاصمة نيامي للعلاج.
وقد عرفت هذه المنطقة بالهجوم الذي قتل فيه أربعة جنود أميركيين وخمسة جنود من النيجر في 2017، وتبنى تنظيم «داعش في الصحراء الكبرى»، العملية، في تسجيل مصور بثه بعد الحادث.

على أثر هذه العملية الإرهابية، طالبت بوركينا فاسو يوم 16 مايو (أيار) الحالي الأمم المتحدة، وأعضاء مجلس الأمن بتأسيس «تحالف دولي» ضد الإرهاب لمنطقة الساحل، شبيه بالتحالف الدولي ضد الإرهاب بالعراق وسوريا. وقال مسؤول أمني لوسائل الإعلام، بخصوص الهجوم في منطقة تيلابيري، غرب النيجر، قرب الحدود المالية، إن «الكمين» كان عملاً مدبراً من «مجموعة إرهابية تضم مئات الرجال المدججين بالسلاح من الشمال». ويأتي هذا الهجوم الوحشي بالتزامن مع اجتماع لدول الساحل مع دول الاتحاد الأوروبي ببروكسل للتداول حول تصاعد الإرهاب بالساحل والصحراء.
وقد اعترفت الممثلة السامية الأوروبية فيديريكا موغيريني، بأن الوضع الحالي المتسم بتوسع وتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية بالساحل، يضع الاتحاد الأوروبي ودول الساحل في «حالة من التناقض»، حيث «تتزايد جهود الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء لصالح بلدان الساحل الخمسة الكبرى، لكن مستوى الأمن يتدهور». ومن جهته، يرى تيبيل درامي، وزير خارجية مالي، أن «ما نحتاج إليه هو تسريع الإجراءات، وتعبئة دولية ملموسة، وتحالف دولي ضد التهديد الإرهابي، ومزيد من الجهود». أما وزير الشؤون الخارجية والدفاع البلجيكي ديدييه رايندرز، فإنه يرى أن «الأمر متروك أيضاً للبلدان المعنية للسيطرة على حدودها ووقف حركة المرور المكثفة هناك. كما يدعو الأوروبيون الشركاء إلى نزع سلاح الميليشيات وإصلاح قوات الأمن وإنهاء الإفلات من العقاب، وإعادة نشر الخدمات العامة في المناطق الحدودية».
قال ثلاثة من كبار المسؤولين في المجال الإنساني لدى الأمم المتحدة، في الأسبوع الثاني من مايو 2019، إن الهجمات المسلحة المتكررة والمتطورة في منطقة الساحل ونقص الغذاء المرتبط بالجفاف الشديد في العام الماضي قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، مما عرّض مستقبل «جيل كامل» للخطر. وقد سجلت سنة 2018، تزايداً لحوادث العنف في المنطقة إلى مستويات أعلى، أي إلى أربعة أضعاف مما كانت عليه في ذروة أزمة مالي في عام 2013. كما عرفت هذه السنة نشاطاً مكثفاً للجماعات المتطرفة عبر الحدود في مناطق شاسعة، معظمها فقيرة وذات كثافة سكانية منخفضة. ويأتي هذا مع تزايد التوترات في المجتمعات المحلية المقهورة، وتتفاقم بفعل ديناميات الصراع وجداول أعمال الجماعات المسلحة. وهذا بدوره رفع من حدة العنف بين المدنيين مباشرة، في بوركينا فاسو، حيث تنتشر الهجمات المسلحة في المناطق الحدودية الشرقية والجنوبية، وتمس الدول الساحلية المجاورة. ولخطورة هذه الموجة الجديدة من الإرهاب، حذر المنسقون المقيمون والإنسانيون التابعون للأمم المتحدة، في نداء لزيادة التمويل لدعم ملايين الأشخاص المتضررين من انتشار العنف في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، من أن عدم الاستقرار يهدد بالانتشار إلى بلدان غرب أفريقيا الأخرى.
ذلك أن تشابك نشاط الجماعات الإرهابية، وقسوة الطبيعة، أديا إلى تزايد الاحتياجات، وتصاعدت موجات النزوح خمسة أضعاف في عام واحد. مسجلة أكثر من 330 ألف نازح، بالإضافة إلى 100 ألف لاجئ.
وقال مبيرانجا جاسارابوي، منسق الأمم المتحدة المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في مالي إن هذا يؤدي «لدمار مزدوج». ففي مالي «أغلقت أكثر من 1800 مدرسة وأكثر من 80 مركزاً صحياً، أو عملت بشكل جزئي فقط»، وهذا ما يمنح الفرص للمتطرفين لتقديم هذه الخدمات للسكان المحليين. وبالنسبة لبينتو جيبو المنسق المقيم للشؤون الإنسانية في النيجر، على الأمم المتحدة أن تتحرك بسرعة لمحاصرة العنف في هذه المنطقة على مستوى الإغاثة المستمرة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعلى مستوى التقليص من الشعور بالتهميش والحرمان من الحقوق. وفي هذا السياق، كشفت الأمم المتحدة، أن نحو 5.1 مليون شخص يحتاجون للمساعدة الإنسانية في مناطق، تاهوا وتيلابيري في بوركينا فاسو ومالي والنيجر. كما ناشدت منظمات الإغاثة تقديم 600 مليون دولار لمساعدة 3.7 مليون من أشد الناس احتياجاً في البلدان الثلاثة، غير أن التمويل المتوفر حالياً هو نحو 19 في المائة فقط. وهذا الضعف في الإمكانيات يجعل مستقبل جيل كامل على المحك. ذلك أن هذا الوضع المتأزم شجع المجتمعات الإثنية على التحارب والعنف المتبادل، مع بروز مؤشرات تدل على تطور الأجهزة والأسلحة وطرق القتال التي تمارسها الجماعات الإرهابية بمنطقة الساحل. وقالت متسي ماكيثا، منسقة الأمم المتحدة المقيمة في بوركينا فاسو: «إننا بحاجة إلى جهد متضافر حتى نتمكن من تهيئة الظروف التي تمكّن المجتمعات من تعزيز روابطها المجتمعية التقليدية».
ففي جميع أنحاء المنطقة المشتعلة، زاد عدد النازحين بشكل مخيف مع غياب لحماية المدنيين. وعلى سبيل المثال، زاد عدد النازحين داخلياً، في مالي بأكثر من الضعف خلال 2018م، ليصل إلى نحو 100 ألف شخص. ومن جهتها، تواجه بوركينا فاسو نزوحاً غير مسبوق، حيث غادر أكثر من 100 ألف شخص منازلهم في النصف الأول من 2019. أما النيجر، فقد شهدت منطقتا تيلابيري وتاهوا فيها ترك أكثر من 70000 شخص منازلهم، بسبب أعمال العنف.
وتزداد معاناة السكان والحاجة إلى مساعدات غذائية، وسط موجهة قاتلة من الجفاف، حيث يواجه نحو 1.8 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي. كما أن سوء التغذية الحاد يهدد حياة نحو 400 ألف طفل. ومما يزيد قتامة الوضع أن نشاط الجماعات الإرهابية وانتشار العنف والجريمة، وانعدام الأمن، فرضت قيوداً على الحركة، وأزمت وضعية المجتمعات الرعوية والمزارعين. ولا يبدو أن جهود 248 مؤسسة إغاثية تعمل في المناطق المتأثرة، مع الشركاء المحليين، كافية للتخفيف بشكل عاجل من الأزمة المزدوجة التي تضرب منطقة الساحل.
ولتحقيق التقدم في العمل الإغاثي، والتقليل من موجة العنف الحالية، يلزم تضافر عمل مختلف الفاعلين المحليين والعالميين، وتكثيف صنوف الشراكات بين المجتمعات المحلية والحكومات والجهات الفاعلة الإنسانية والإنمائية والشركاء الدوليين، ذلك أن التنسيق الشامل بين هذه الأطراف، هو الذي سيدعم الاتجاه الحالي، الرامي للتدخل العاجل والفعال، لتحسن معيشة حياة ملايين من الأشخاص في منطقة الساحل.
من الناحية التاريخية، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، تتميز منطقة الساحل بتغيرات مناخية قوية وسقوط أمطار غير منتظمة تشكل اثنتين من أكبر العقبات أمام الأمن الغذائي والحد من الفقر في المنطقة. ويقول الخبراء إن الأمور ازدادت سوءاً في العقود الأولى، من القرن 21، حيث زاد تواتر وشدة الجفاف والفيضانات خلال هذه الفترة، مما أربك النشاط الاقتصادي للمنطقة، وغير طبيعة العلاقة السائدة بين الجماعات السكانية، خصوصاً الرعوية. وتفيد منظمة الأغذية والزراعة بأن أكثر من 80 في المائة من أراضي المنطقة متدهورة. فيما يرى مالكولم بوتس من جامعة كاليفورنيا، أنه بحلول عام 2050، ستشهد منطقة الساحل ارتفاعاً لانبعاث غازات دفيئة، مما سيوثر بدوره على درجات الحرارة، التي ستكون أكثر دفئاً بمقدار 3 إلى 5 درجات مئوية، وبالتالي ستصبح الأحداث المناخية القاسية أكثر شيوعاً وانتشاراً بالمنطقة.
ويفسر برنامج الأمم المتحدة للبيئة، هذه الإشكالية المستفحلة، بناء على عوامل مختلفة تفسر الأزمة البيئية لمنطقة الساحل، حيث يرى البرنامج الأممي أن نمو السكان المتزايد، والمصاحب لتدهور الأراضي الزراعية، وإزالة الغابات والمحاصيل المستمرة والرعي الجائر، وهطول الأمطار غير المنتظم، وعدم الاستفادة من مياه الأمطار، وافتقار الحكومات إلى سياسات بيئية متماسكة، وغياب أولويات التنمية المركزية والمحلية، كل هذا أدى إلى تحويل نسبة كبيرة من جغرافية الساحل إلى أراضٍ قاحلة، مما أدى إلى تدهور والموارد المائية، والماشية.
رغم الجهود الكبيرة التي بذلها الاتحاد الأوروبي، وكل من السعودية والإمارات العربية المتحدة، بقصد تقوية جبهة مكافحة الإرهاب بالساحل، فإن عمليات القوة المشتركة، تواجه صعوبات جمة. فقد اضطرت بعد الهجوم على مقرها في سيفاري في 29 يونيو (حزيران) 2018 للتوقف، ولم تستأنف إلا في يناير (كانون الثاني) 2019. ورغم الدعم العسكري الكبير لقوة «برخان» الفرنسية، لا يزال جيش الساحل لمكافحة الإرهاب لا يعمل بشكل كامل، بعد خمس سنوات من التعبئة والدعم، وبالتالي لم يصل إلى نسبة 80 في المائة من الإمكانية والنشاط الذي كانت مرسوماً له في أفق 2019.
على أي حال، لا يزال هناك الكثير من الأسئلة حول دور القوة المشتركة (جي 5)، التي ساهم فيها الاتحاد الأوروبي بمبلغ 147 مليون يورو، التي لا يمكن أن تغطي سوى بعض الجوانب اللوجيستيكية غير الفعالة، أمام تصاعد قوة الجماعات الإرهابية. وللعمل في المناطق الحدودية، أنشأت الدول الخمس (مالي، والنيجر، وتشاد، وموريتانيا، وبوركينا فاسو)، قوات أمن إقليمية خاصة بها، مكونة من نحو 5000 رجل تحت «القيادة المركزية»، غير أن هذه القوة تعاني من الضعف المزمن، ومن قلة الإمكانيات، مما يسمح للجماعات الإرهابية بحرية أكبر في النشاط داخل جغرافية شاسعة ومأزومة، إثنياً، ودينياً، ومناخياً.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية
- جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

تركيا: تحقيق ضد زعيم المعارضة لانتقاده اعتقال رئيس بلدية في إسطنبول

شؤون إقليمية زعيم المعارضة التركية رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال (من حسابه في «إكس»)

تركيا: تحقيق ضد زعيم المعارضة لانتقاده اعتقال رئيس بلدية في إسطنبول

فتح مكتب المدعي العام لمدينة إسطنبول تحقيقاً ضد زعيم المعارضة رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال يتهمه بـ«إهانة موظف عمومي علناً بسبب أداء واجبه».

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية المقاتلة الأميركية «إف - 16 بلوك 70» (موقع شركة لوكهيد مارتن)

تركيا تقلص صفقة «إف - 16» مع أميركا وتتحدث عن تطور يخص «إف - 35»

قرَّرت تركيا تقليص صفقة شراء مقاتلات «إف - 16» الأميركية في الوقت الذي أعلنت فيه أن أميركا أعادت تقييم موقفها من حصولها على مقاتلات «إف - 35» الشبحية

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟