الإرهاب في الساحل الأفريقي

قسوة الطبيعة... ووحشية التنظيمات المتطرفة

أفراد من القوات الخاصة الفرنسية يشاركون في مراسم تشييع زميلين لهما  قُتلا في غارة لإطلاق سراح الرهائن في بوركينا فاسو منتصف الشهر (أ.ف.ب)
أفراد من القوات الخاصة الفرنسية يشاركون في مراسم تشييع زميلين لهما قُتلا في غارة لإطلاق سراح الرهائن في بوركينا فاسو منتصف الشهر (أ.ف.ب)
TT

الإرهاب في الساحل الأفريقي

أفراد من القوات الخاصة الفرنسية يشاركون في مراسم تشييع زميلين لهما  قُتلا في غارة لإطلاق سراح الرهائن في بوركينا فاسو منتصف الشهر (أ.ف.ب)
أفراد من القوات الخاصة الفرنسية يشاركون في مراسم تشييع زميلين لهما قُتلا في غارة لإطلاق سراح الرهائن في بوركينا فاسو منتصف الشهر (أ.ف.ب)

قُتل 28 جندياً في النيجر، منتصف الشهر الحالي، واعتُبر 11 آخرون مفقودين، بعد هجوم على تونغو تونغو في منطقة تيلابيري، قرب الحدود المالية، ونقل كثير من الجرحى إلى مستشفيات العاصمة نيامي للعلاج.
وقد عرفت هذه المنطقة بالهجوم الذي قتل فيه أربعة جنود أميركيين وخمسة جنود من النيجر في 2017، وتبنى تنظيم «داعش في الصحراء الكبرى»، العملية، في تسجيل مصور بثه بعد الحادث.

على أثر هذه العملية الإرهابية، طالبت بوركينا فاسو يوم 16 مايو (أيار) الحالي الأمم المتحدة، وأعضاء مجلس الأمن بتأسيس «تحالف دولي» ضد الإرهاب لمنطقة الساحل، شبيه بالتحالف الدولي ضد الإرهاب بالعراق وسوريا. وقال مسؤول أمني لوسائل الإعلام، بخصوص الهجوم في منطقة تيلابيري، غرب النيجر، قرب الحدود المالية، إن «الكمين» كان عملاً مدبراً من «مجموعة إرهابية تضم مئات الرجال المدججين بالسلاح من الشمال». ويأتي هذا الهجوم الوحشي بالتزامن مع اجتماع لدول الساحل مع دول الاتحاد الأوروبي ببروكسل للتداول حول تصاعد الإرهاب بالساحل والصحراء.
وقد اعترفت الممثلة السامية الأوروبية فيديريكا موغيريني، بأن الوضع الحالي المتسم بتوسع وتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية بالساحل، يضع الاتحاد الأوروبي ودول الساحل في «حالة من التناقض»، حيث «تتزايد جهود الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء لصالح بلدان الساحل الخمسة الكبرى، لكن مستوى الأمن يتدهور». ومن جهته، يرى تيبيل درامي، وزير خارجية مالي، أن «ما نحتاج إليه هو تسريع الإجراءات، وتعبئة دولية ملموسة، وتحالف دولي ضد التهديد الإرهابي، ومزيد من الجهود». أما وزير الشؤون الخارجية والدفاع البلجيكي ديدييه رايندرز، فإنه يرى أن «الأمر متروك أيضاً للبلدان المعنية للسيطرة على حدودها ووقف حركة المرور المكثفة هناك. كما يدعو الأوروبيون الشركاء إلى نزع سلاح الميليشيات وإصلاح قوات الأمن وإنهاء الإفلات من العقاب، وإعادة نشر الخدمات العامة في المناطق الحدودية».
قال ثلاثة من كبار المسؤولين في المجال الإنساني لدى الأمم المتحدة، في الأسبوع الثاني من مايو 2019، إن الهجمات المسلحة المتكررة والمتطورة في منطقة الساحل ونقص الغذاء المرتبط بالجفاف الشديد في العام الماضي قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، مما عرّض مستقبل «جيل كامل» للخطر. وقد سجلت سنة 2018، تزايداً لحوادث العنف في المنطقة إلى مستويات أعلى، أي إلى أربعة أضعاف مما كانت عليه في ذروة أزمة مالي في عام 2013. كما عرفت هذه السنة نشاطاً مكثفاً للجماعات المتطرفة عبر الحدود في مناطق شاسعة، معظمها فقيرة وذات كثافة سكانية منخفضة. ويأتي هذا مع تزايد التوترات في المجتمعات المحلية المقهورة، وتتفاقم بفعل ديناميات الصراع وجداول أعمال الجماعات المسلحة. وهذا بدوره رفع من حدة العنف بين المدنيين مباشرة، في بوركينا فاسو، حيث تنتشر الهجمات المسلحة في المناطق الحدودية الشرقية والجنوبية، وتمس الدول الساحلية المجاورة. ولخطورة هذه الموجة الجديدة من الإرهاب، حذر المنسقون المقيمون والإنسانيون التابعون للأمم المتحدة، في نداء لزيادة التمويل لدعم ملايين الأشخاص المتضررين من انتشار العنف في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، من أن عدم الاستقرار يهدد بالانتشار إلى بلدان غرب أفريقيا الأخرى.
ذلك أن تشابك نشاط الجماعات الإرهابية، وقسوة الطبيعة، أديا إلى تزايد الاحتياجات، وتصاعدت موجات النزوح خمسة أضعاف في عام واحد. مسجلة أكثر من 330 ألف نازح، بالإضافة إلى 100 ألف لاجئ.
وقال مبيرانجا جاسارابوي، منسق الأمم المتحدة المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في مالي إن هذا يؤدي «لدمار مزدوج». ففي مالي «أغلقت أكثر من 1800 مدرسة وأكثر من 80 مركزاً صحياً، أو عملت بشكل جزئي فقط»، وهذا ما يمنح الفرص للمتطرفين لتقديم هذه الخدمات للسكان المحليين. وبالنسبة لبينتو جيبو المنسق المقيم للشؤون الإنسانية في النيجر، على الأمم المتحدة أن تتحرك بسرعة لمحاصرة العنف في هذه المنطقة على مستوى الإغاثة المستمرة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعلى مستوى التقليص من الشعور بالتهميش والحرمان من الحقوق. وفي هذا السياق، كشفت الأمم المتحدة، أن نحو 5.1 مليون شخص يحتاجون للمساعدة الإنسانية في مناطق، تاهوا وتيلابيري في بوركينا فاسو ومالي والنيجر. كما ناشدت منظمات الإغاثة تقديم 600 مليون دولار لمساعدة 3.7 مليون من أشد الناس احتياجاً في البلدان الثلاثة، غير أن التمويل المتوفر حالياً هو نحو 19 في المائة فقط. وهذا الضعف في الإمكانيات يجعل مستقبل جيل كامل على المحك. ذلك أن هذا الوضع المتأزم شجع المجتمعات الإثنية على التحارب والعنف المتبادل، مع بروز مؤشرات تدل على تطور الأجهزة والأسلحة وطرق القتال التي تمارسها الجماعات الإرهابية بمنطقة الساحل. وقالت متسي ماكيثا، منسقة الأمم المتحدة المقيمة في بوركينا فاسو: «إننا بحاجة إلى جهد متضافر حتى نتمكن من تهيئة الظروف التي تمكّن المجتمعات من تعزيز روابطها المجتمعية التقليدية».
ففي جميع أنحاء المنطقة المشتعلة، زاد عدد النازحين بشكل مخيف مع غياب لحماية المدنيين. وعلى سبيل المثال، زاد عدد النازحين داخلياً، في مالي بأكثر من الضعف خلال 2018م، ليصل إلى نحو 100 ألف شخص. ومن جهتها، تواجه بوركينا فاسو نزوحاً غير مسبوق، حيث غادر أكثر من 100 ألف شخص منازلهم في النصف الأول من 2019. أما النيجر، فقد شهدت منطقتا تيلابيري وتاهوا فيها ترك أكثر من 70000 شخص منازلهم، بسبب أعمال العنف.
وتزداد معاناة السكان والحاجة إلى مساعدات غذائية، وسط موجهة قاتلة من الجفاف، حيث يواجه نحو 1.8 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي. كما أن سوء التغذية الحاد يهدد حياة نحو 400 ألف طفل. ومما يزيد قتامة الوضع أن نشاط الجماعات الإرهابية وانتشار العنف والجريمة، وانعدام الأمن، فرضت قيوداً على الحركة، وأزمت وضعية المجتمعات الرعوية والمزارعين. ولا يبدو أن جهود 248 مؤسسة إغاثية تعمل في المناطق المتأثرة، مع الشركاء المحليين، كافية للتخفيف بشكل عاجل من الأزمة المزدوجة التي تضرب منطقة الساحل.
ولتحقيق التقدم في العمل الإغاثي، والتقليل من موجة العنف الحالية، يلزم تضافر عمل مختلف الفاعلين المحليين والعالميين، وتكثيف صنوف الشراكات بين المجتمعات المحلية والحكومات والجهات الفاعلة الإنسانية والإنمائية والشركاء الدوليين، ذلك أن التنسيق الشامل بين هذه الأطراف، هو الذي سيدعم الاتجاه الحالي، الرامي للتدخل العاجل والفعال، لتحسن معيشة حياة ملايين من الأشخاص في منطقة الساحل.
من الناحية التاريخية، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، تتميز منطقة الساحل بتغيرات مناخية قوية وسقوط أمطار غير منتظمة تشكل اثنتين من أكبر العقبات أمام الأمن الغذائي والحد من الفقر في المنطقة. ويقول الخبراء إن الأمور ازدادت سوءاً في العقود الأولى، من القرن 21، حيث زاد تواتر وشدة الجفاف والفيضانات خلال هذه الفترة، مما أربك النشاط الاقتصادي للمنطقة، وغير طبيعة العلاقة السائدة بين الجماعات السكانية، خصوصاً الرعوية. وتفيد منظمة الأغذية والزراعة بأن أكثر من 80 في المائة من أراضي المنطقة متدهورة. فيما يرى مالكولم بوتس من جامعة كاليفورنيا، أنه بحلول عام 2050، ستشهد منطقة الساحل ارتفاعاً لانبعاث غازات دفيئة، مما سيوثر بدوره على درجات الحرارة، التي ستكون أكثر دفئاً بمقدار 3 إلى 5 درجات مئوية، وبالتالي ستصبح الأحداث المناخية القاسية أكثر شيوعاً وانتشاراً بالمنطقة.
ويفسر برنامج الأمم المتحدة للبيئة، هذه الإشكالية المستفحلة، بناء على عوامل مختلفة تفسر الأزمة البيئية لمنطقة الساحل، حيث يرى البرنامج الأممي أن نمو السكان المتزايد، والمصاحب لتدهور الأراضي الزراعية، وإزالة الغابات والمحاصيل المستمرة والرعي الجائر، وهطول الأمطار غير المنتظم، وعدم الاستفادة من مياه الأمطار، وافتقار الحكومات إلى سياسات بيئية متماسكة، وغياب أولويات التنمية المركزية والمحلية، كل هذا أدى إلى تحويل نسبة كبيرة من جغرافية الساحل إلى أراضٍ قاحلة، مما أدى إلى تدهور والموارد المائية، والماشية.
رغم الجهود الكبيرة التي بذلها الاتحاد الأوروبي، وكل من السعودية والإمارات العربية المتحدة، بقصد تقوية جبهة مكافحة الإرهاب بالساحل، فإن عمليات القوة المشتركة، تواجه صعوبات جمة. فقد اضطرت بعد الهجوم على مقرها في سيفاري في 29 يونيو (حزيران) 2018 للتوقف، ولم تستأنف إلا في يناير (كانون الثاني) 2019. ورغم الدعم العسكري الكبير لقوة «برخان» الفرنسية، لا يزال جيش الساحل لمكافحة الإرهاب لا يعمل بشكل كامل، بعد خمس سنوات من التعبئة والدعم، وبالتالي لم يصل إلى نسبة 80 في المائة من الإمكانية والنشاط الذي كانت مرسوماً له في أفق 2019.
على أي حال، لا يزال هناك الكثير من الأسئلة حول دور القوة المشتركة (جي 5)، التي ساهم فيها الاتحاد الأوروبي بمبلغ 147 مليون يورو، التي لا يمكن أن تغطي سوى بعض الجوانب اللوجيستيكية غير الفعالة، أمام تصاعد قوة الجماعات الإرهابية. وللعمل في المناطق الحدودية، أنشأت الدول الخمس (مالي، والنيجر، وتشاد، وموريتانيا، وبوركينا فاسو)، قوات أمن إقليمية خاصة بها، مكونة من نحو 5000 رجل تحت «القيادة المركزية»، غير أن هذه القوة تعاني من الضعف المزمن، ومن قلة الإمكانيات، مما يسمح للجماعات الإرهابية بحرية أكبر في النشاط داخل جغرافية شاسعة ومأزومة، إثنياً، ودينياً، ومناخياً.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية
- جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.