«خلايا التماسيح»... خطة «داعش» لإزعاج أوروبا

عناصرها انغماسيون يشنون «هجمات انتحارية»

إجراءات أمن بعد الهجمات التي استهدفت فنادق وكنائس في سريلانكا الشهر الماضي
إجراءات أمن بعد الهجمات التي استهدفت فنادق وكنائس في سريلانكا الشهر الماضي
TT

«خلايا التماسيح»... خطة «داعش» لإزعاج أوروبا

إجراءات أمن بعد الهجمات التي استهدفت فنادق وكنائس في سريلانكا الشهر الماضي
إجراءات أمن بعد الهجمات التي استهدفت فنادق وكنائس في سريلانكا الشهر الماضي

«الخلايا النائمة» لتنظيم داعش الإرهابي إشكالية كبرى تتجدد مع أي هجوم أو استهداف في الدول الغربية أو الأفريقية، خصوصاً مع خسائر التنظيم في سوريا والعراق، وفرار معظم عناصره المؤثرة... وأخيراً ظهر مُصطلح «خلايا التماسيح»، وهو نهج أقرب إلى عمليات «الذئاب المنفردة»، ضمن محاولات التنظيم لمواجهة الخسائر التي تعرض لها أخيراً، بالتهديد لتنفيذ هجمات من وقت لآخر لإزعاج أوروبا.
يقول خبراء في الأمن والحركات الأصولية لـ«الشرق الأوسط»، إن «دولاً كثيرة تتخوف حالياً من إقدام (الخلايا النائمة) أو (العائدين الدواعش) على ممارسة العنف والإرهاب داخل حدودها، خصوصاً مع عدم وجود بيانات تفصيلية لهؤلاء»، مؤكدين أن «(العائدين) لن يتخلوا عن (التكفير والتفجير) وأفكار التنظيم». وأوضح الخبراء أن «(خلايا التماسيح) أعلى مراحل الموت الداعشية، وتختص باقتحام السجون والوحدات العسكرية والمدن، وهي عبارة عن مجموعات من (الانغماسيين)، وتكون على شكل مثلث كامل الأضلاع في عمليات الهجوم الإرهابية... والانغماسي التمساح يرتدي حزاماً ناسفاً، أو يقوم بتفخيخ السيارات أو السفن أو الطائرات المدنية، ويكون مزوداً بأسلحة خفيفة».
وأخيراً، كشفت أجهزة الاستخبارات البريطانية عن معلومات لمخططات «داعش» لتنفيذ هجمات في بريطانيا وأوروبا، عبر ما يعرف بـ«خلايا التماسيح». وقالت إنها «تدرس خطط هذه الخلايا التي تتكون من (عناصر نائمة) تتبع التنظيم وتنفذ أوامره».
وقالت تقارير غربية إن «تحقيقات بريطانيا جاءت عقب الكشف عن أن عبد اللطيف جميل محمد (36 عاماً)، قائد الجماعة المتطرفة، التي نفذت الهجوم الدامي في سريلانكا، عمل بناءً على أوامر تلقاها من (إرهابيين) في سوريا».
وأكد مراقبون أن «(الذئاب المنفردة) أو (الانفراديين) يقصد بهم تحول شخص أو اثنين أو 3 أو أكثر إلى مقاتلين يقومون باستخدام المتاح لديهم من أسلحة أو عتاد، دون وجود رابطة عضوية أو تنظيمية يمكن تتبعها، من خطوط عامة، أو مناشدات من التنظيم لأعضائه أو أنصاره، باستهداف دولة أو رعاياها بالقتل، كما حدث في استهداف المساجد والكنائس، والقتل بالدهس أو سكين المطبخ».
ولا يزال تسجيل الناطق باسم «داعش» أبو محمد العدناني، الذي دعا فيه عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم إلى قتل رعايا الدول في أي مكان، باستخدام أي سلاح مُتاح دون العودة إلى قيادة «داعش» أو حتى الانضمام إليه تنظيمياً، يأتي بثماره الآن، بحسب المراقبين.
في هذا الصدد، قالت دراسة مصرية حديثة إن «(داعش) اعتمد على نهج جديد في تنفيذ عملياته الإرهابية، وهو ما أطلق عليه (خلايا التماسيح)، وهو نهج أقرب إلى عمليات (الذئاب المنفردة)، وذلك ضمن محاولات التنظيم لمواجهة الخسائر التي تعرض لها أخيراً، وهو مصطلح يشير إلى توظيف (الخلايا النائمة) التابعة للتنظيم التي تعمل تحت الأرض لتنفيذ هجمات من وقت لآخر على معاقل وأهداف يحددها قادة التنظيم لهؤلاء».
ويشار إلى أن «خلايا التماسيح» استراتيجية تم الكشف عنها في إحدى الوثائق السرية التي تم العثور عليها عقب مواجهات بين عناصر من التنظيم والقوات الحكومية شمال شرقي سوريا، مارس (آذار) الماضي... وتتمثل في زيادة الهجمات الإرهابية عبر «الذئاب المنفردة» أو دعم «العائدين» من بؤر الصراع إلى بلدانهم، وتفجير المركبات، والاستهدافات، واختراق الحواسب، وهي خطط قد يتبعها «داعش» مستقبلًا، بحسب المراقبين.
وكشفت الدراسة التي أعدتها وحدة الرصد والتحليل بمرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة بدار الإفتاء المصرية، أن «من بين هذه الوثائق مُراسلات بين أحد أعضاء التنظيم يُدعى أبو طاهر الطاجيكي، يشرح فيها كيف يُمكن تشكيل (خلايا التماسيح)، وأهم أهدافها»... وأن «الطاجيكي تقدم إلى (داعش) بإنشاء ما يُسمى (مكتب العلاقات الخارجية لإدارة العمليات بأوروبا) لدعم الخلايا الجديدة التي ستتولى الهجوم على ما يعتبرهم (داعش) أعداءه».
وقال عمرو عبد المنعم، الخبير في شؤون الحركات الأصولية: «ظهر أخيراً دور كتيبة عسكرية مقاتلة في صفوف (داعش) تسمى كتيبة (التماسيح) أو (خلايا التماسيح)، وهي عبارة عن مجموعات من (الانغماسيين)، تتكون من (رأس التمساح الأم)، وعائلة، وهم الأبناء، وتكون على شكل مثلث كامل الأضلاع في عمليات الهجوم الإرهابية»، مضيفاً أن «(خلايا التماسيح) مُهمتها الأساسية إزعاج أوروبا على غرار عمليات (الذئاب المنفردة)، وتعتبر هذه الكتيبة من أهم الكتائب المُقاتلة في الفترة الأخيرة»، لافتاً إلى أن «(خلايا التماسيح) أعلى مراحل الموت الداعشية، وأهم صور الانغماس هو الانغماس بالالتحام، وبالتلغيم، والتفخيخ، والعملية الانغماسية يُطلق عليها (المربع صفر) أو (العملية الميتة) لأنها تنتهي بنهاية الانتحاري». وأكد عبد المنعم أن «(داعش) يحاول أن يبث الرعب في نفوس الغربيين بـ(الانفراديين) أو (الذئاب المنفردة) عبر مواقع التواصل الاجتماعي»، موضحاً أن «دولاً كثيرة تتخوف حالياً من إقدام (الخلايا النائمة) أو (العائدين) على ممارسة العنف والإرهاب داخل حدودها».
في هذا الصدد، أوضحت الدراسة المصرية، أن «فكرة (خلايا التماسيح) تعتمد على تجهيز (انتحاريين) وتدريبهم على صناعة المتفجرات والتفجير والخطف، ودعم قراصنة التنظيم عبر مواقع الإنترنت... وهذه الفكرة تأتي في الوقت الذي خسر فيه التنظيم مواقعه المهمة في سوريا والعراق، وأن ذلك يُعد نقطة تحول تخدم التنظيم لتنفيذ العمليات الإرهابية خارج سيطرته».
وقال عبد المنعم إن «الانغماسي يرتدي حزاماً ناسفاً، أو يقوم بتفخيخ السيارات أو السفن أو الطائرات المدنية، ويكون مزوداً بأسلحة خفيفة، كما يزود بكبسولة للموت، حتى يكون على استعداد لو نفدت ذخيرته أو تعطل الحزام الناسف ساعة التفجير، للتخلص من حياته، بأن يبتلع هذه الكبسولة على الفور، حتى لا يتبعه أحد ولا يعرف من وراءه... ويطلق على هذه العملية (المربع صفر) أو (العملية الميتة) أي أول الخيط هو آخره على الإطلاق، وبذلك تنتهي العملية عند حدود هذا التمساح بالقتل، وانتهاء (النقطة صفر) بالمعاونين للتمساح الأم».
وعن مُنظر فكرة الانغماس الذي ابتدع بدعة التمساح، قال عبد المنعم: «يعتبر أبو الحسن الفلسطيني من أشهر من نظر لفكر الأعمال الإرهابية الانتحارية، وكان المفتي الشرعي لتنظيم (القاعدة)، ويقال عنه إنه العقل المفكر وقائد جرائم قتل وخطف وابتزاز وقع معظمها خلال السنوات الماضية؛ لكن على ما يبدو، فإن ما نُسب إليه حتى الآن لا يشكل إلا نسبة صغيرة من خطورته الحقيقية... وتردد في معظم المواقع الجهادية أنه اختفى منذ 4 أعوام تقريباً، وقد انتشر كثير من الشائعات حوله».
من جهته، قال اللواء محمد قشقوش، أستاذ الأمن القومي الزائر بأكاديمية ناصر العسكرية بمصر، إنه «يتم تجنيد عناصر (الذئاب المنفردة) عبر الإنترنت، كما يتم من خلال الإنترنت التعرف على الأهداف التي يضعها التنظيم لشن هجمات إرهابية، وتدريب (الذئاب) على صناعة القنابل الناسفة، واستخدام السلاح».
وسبق أن «حذر مسؤولون في الاتحاد الأفريقي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، من أن نحو 6 آلاف مقاتل في صفوف (داعش) عادوا إلى القارة السمراء. وفي فبراير (شباط) الماضي، أعلن مركز الدراسات الألماني (فيريل) أن عدد المقاتلين الذين يحملون جنسيات أوروبية وأميركية في التنظيم بلغ 21500، وأن عدد (العائدين) إلى دولهم بلغ 8500 شخص». وبث «داعش» أخيراً شريط فيديو وزعته «مؤسسة الفرقان» ظهر فيه زعيمه أبو بكر البغدادي بعد 5 سنوات من الاختفاء، وتوعد بالثأر لقتلى التنظيم، مؤكداً أن «الاعتداءات الأخيرة التي استهدفت سريلانكا في (عيد الفصح) جاءت (ثأراً) للباغوز السورية».
وقال خالد الزعفراني، الخبير في شؤون الحركات الأصولية: «لا شك أن (العائدين) ليسوا مُجرد عناصر مهزومة فقط؛ فمنهم من أصيب بخيبة أمل بعدما تبين لهم وهم (الخلافة) وانهزام تنظيمهم؛ لكنهم لن يتخلوا عن (التكفير والتفجير) وأفكار التنظيم».


مقالات ذات صلة

الحساسيات العشائرية السورية تهدد النفوذ الإيراني في البوكمال

المشرق العربي صورة نشرها «المرصد السوري لحقوق الإنسان» لعناصر من الميليشيات الإيرانية

الحساسيات العشائرية السورية تهدد النفوذ الإيراني في البوكمال

تفجر التوتر في البوكمال في وقت تعمل فيه إيران على إعادة تموضع ميليشياتها في سوريا على خلفية الاستهداف الإسرائيلي لمواقعها داخل الأراضي السورية.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي نائب منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية ديفيد كاردين يتفقد مشروع معالجة مياه الصرف الصحي في قرية بحورة بمحافظة إدلب السورية يوم 14 مايو الماضي (أ.ب)

منسق الأمم المتحدة يطلق «استراتيجية التعافي المبكر» في سوريا

قال المنسق الأممي بدمشق إن «خطة التعافي» تغطي كل المحافظات السورية، وتشمل قطاعات الصحة والتعليم ومياه الشرب والصرف الصحي، و«من دون الكهرباء لا يمكن إنجاز شيء».

«الشرق الأوسط» (دمشق )
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

تشاد تنفي استهداف مدنيين خلال عملية ضد «بوكو حرام»

نفت الحكومة التشادية «بشدة» استهداف مدنيين خلال عمليتها ضد جماعة «بوكو حرام» في حوض بحيرة تشاد

«الشرق الأوسط» (نجامينا)
أفريقيا وحدة من جيش بوركينا فاسو خلال عملية عسكرية (صحافة محلية)

دول الساحل تكثف عملياتها ضد معاقل الإرهاب

كثفت جيوش دول الساحل الثلاث؛ النيجر وبوركينا فاسو ومالي، خلال اليومين الماضيين من عملياتها العسكرية ضد معاقل الجماعات الإرهابية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
تحليل إخباري مقاتلو «داعش» في شمال أفغانستان (وسائل الإعلام الأفغانية)

تحليل إخباري لماذا ينتج تنظيم «داعش - خراسان» محتوى إعلامياً باللغة الطاجيكية؟

لماذا تصدر خلية «داعش» الإعلامية نشرة جديدة باللغة الطاجيكية للمواطنين في طاجيكستان والعرقيات الطاجيكية في أفغانستان؟ هل لها تأثير ناجح على الرأي العام؟

عمر فاروق (إسلام آباد)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.