إذا كان ثمّة من كتاب عن «الثورة» يتداوله طلاب الجامعات الأوروبيون فيما بينهم بكثافة هذه الأيّام، فهو بالتأكيد ليس «ما العمل؟» لفلاديمير لينين أو «الكتاب الأحمر» لماو تسي تونغ. بل هو ليس نصّاً في السّياسة أصلاً، حتى لو كان واضعه ثوري فوضوي سابق. بل هو «نظام الزّمن» لعالم الفيزياء الكميّة الإيطالي الصاعد إلى النجوميّة كارلو روفيّللي الذي وكأنه مبشر يحمل معولاً يحطّم أصنام مفاهيمنا التقليديّة عن معنى الفراغ والمكان، وأصل الكون ومادته ومعنى الإحساس البشري بانسياب الزمن، ليضعنا في مواجهة مباشرة مع حقائق العلم مجردين تماماً من كل الأوهام التي استعانت بها البشريّة قروناً مديدة لتفسير العالم والأحداث وتجربة الوجود الإنساني عبر الأيّام.
في «نظام الزّمن»، كما كتبه الأخرى «سبعة دروس موجزة في الفيزياء» و«الواقع ليس كما يبدو عليه»، إضافة إلى مئات المحاضرات العامة والمقابلات يقدّم روفيّللي دعوة متماسكة ومتراصفة ضد الإدراك البشري للإحساس بمرور الوقت تحيله إلى وهم محض تبنيه أذهاننا ليس له علاقة بالعالم المادي، جاعلاً من مفاهيم راسخة اعتدنا عليها ولم تعد موضع جدل مثل (الماضي) و(المستقبل) كما لو أنها نتاج ميكانيكيّة عمل الدّماغ البشري، بينما لا يمكن بالفعل التفريق بينهما على المستوى الميكروسكوبي. ولكي يزيد ارتباكنا، تتمدد مائدة الأفكار الصادمة التي يقدّمها لتشمل زعمه المبني على خلاصة معارف الفيزياء الكميّة الحديثة بأن إحساس البشر بالزّمن يحدث بشكل متفاوت باختلاف المكان - حيث يمضي أسرع في المناطق الجبليّة، وأبطأ على مستوى سطح البحر - وباختلاف حركة الرائي - إذ إن الذي يجري يهرم بشكل أبطأ من ذاك المتمهل في مشيه - لدرجة أن رائد فضاء - لو طال به العمر كفاية - سيعود إلى الأرض ليجد أن أطفاله كبروا أكثر منه خلال فترة غيابه. وجهة نظره أنّ ما يدفع الدّماغ البشري لتبني هيكليّة الماضي - المستقبل الموهومة هو ما يسجلّه وفق خبرته من تأثير «الأنتروبيا» - الاعتلال - في الطبيعة، أي ميل كل الأنظمة الحتمي إلى الانتقال نحو مزيد من الفوضى والعشوائيّة (فالأشخاص يشيخون ولا يصغرون، وأمواج البحر تتكسّر ولا تعود من تكسّرها). ما يقرأه الدّماغ فعلاً هو تعاظم الأنتروبيا، لا مرور الوقت.
روفيّللي ليس بالطبع أوّل من تناول هذه الأفكار النظريّة، إذ كان سبقه إليها ألبرت آينشتاين عالم الفيزياء الشهير منذ ما يقارب المائة عام في نظرياته عن النسبيّة. لكن بينما بقيت أفكار الأخير سجينة الإطار النظري المحض، فإن معاصرنا الإيطالي يستند في طروحاته إلى أحدث معطيات البحث التقني التي توفرت في آخر عقدين من الزّمن، وكلّها تؤكد على صحة البناء النظري الذي رسمه آينشتاين وبنت عليه أجيال الفيزيائيين اللّاحقة.
روفيّللي صاحب عدة نظريّات سجلّت باسمه في دنيا الفيزياء الكميّة (ما يعرف بنظريّة حلقات الجاذبيّة)، إلا أنّه يظل واحداً من جيش علماء الفيزياء الكميّة الذين تزخر بهم الجامعات ومراكز الأبحاث بالغرب والذين يقودون بمجموعهم ثورة شاملة في بناء تصوّر البشريّة عن ذاتها وعن العالم. لكنّه مع ذلك يبدو بحكم قدرته المذهلة على مساعدة الأجيال الجديدة عبور أصعب مفاهيم الفيزياء الكميّة الشديدة التعقيد، ونثره الأنيق الجزيل الذي يكاد يقارب الشعر في وضع تلك المفاهيم على الورق للقراء غير المتخصصين، يبدو وبشكل متزايد النجم الأشد سطوعاً بين كوكبة العلماء تلك. وبالفعل فإن محاضراته التي يلقيها في غير قارّة تغص دائماً بسحابات شبان وفتيات الجامعات العريقة من أبناء الأثرياء البرغوازيين الذين يحلمون بتغيير العالم، بينما تبيع كتبه ملايين النسخ في معظم لغات العالم الحيّة (صدرت نسخة عربيّة من «سبعة دروس موجزة في الطبيعة (الفيزياء)» بالقاهرة بترجمة عادل السيوي).
خذ مثلاً «نظام الزّمن». لا بدّ أنه عنوان كتاب يثير ريبة الكثيرين ممن أخذتهم أمور تدبير المعاش ولم يقرأوا في العلوم منذ المدرسة الثانويّة، أو هم تخصصوا في علوم أخرى بعيداً عن الفيزياء النظريّة، لكنّك ما إن تشرع بتصفح الكتاب حتى يأسرك روفيّللي في تفكيكه لأصعب المفاهيم الفيزيائيّة النظريّة والفلسفيّة رفقة رحلة حياة تنيرها تجارب الفلاسفة والروائيين الكبار الذين تعاطوا فكرة الزّمن فتقابل مارتن هيدجر وتستمع لإميل دوركهايم، وتتعرّف على مارسيل بروست صاحب الرواية الشهيرة «البحث عن الزمن الضائع» قبل أن تنتهي إلى فصل ختامي ساحر عن معنى الزمن في حضور الموت المؤجل. وحالما تنتهي من «آخر الزّمن» تكون قد تورطت حكماً في الظاهرة الرّوفيلليّة، فتبدأ بملاحقة مقابلاته عبر الصحف، وتتابع أحدث محاضراته على اليوتيوب وتترقب صدور أعماله القادمة بشغف كما لو كان ماركيز جديداً.
روفيللي أستاذ الفلسفة المرموق كان ولد في فيرونا - شمال إيطاليا - عام 1956 وتلقى علومه الأكاديميّة في أهم جامعات بلاده قبل أن يتنقل باحثاً ومدرساً للفيزياء الكميّة في جامعات كبرى بالولايات المتحدة وأوروبا إلى أن حط رحاله منذ عام 2000 بقرية فرنسيّة صغيرة وادعة مقابل البحر المتوسط قريباً من مكان عمله داخل مركز الفيزياء النظريّة بجامعة مارسيليا. لكن هذه السيرة التي تليق بعالم فيزيائي راقٍ ومتواضع من طراز روفيّللي لا تغطّي الجانب الثوري المتفجّر لشخصيته أيّام شبابه. فذات الرجل في بداياته كان أحد الأوجه البارزة للحركات اليساريّة الشبابيّة التي اكتسحت الجامعات الإيطاليّة في عقدي الستينيّات والسبعينيات وكانت أشبه بخليط عجيب جمع الهيبيين باللينينيين والتروتسكيين بكل تناقضاتهم لمواجهة السلطات البطريركية في الّدّولة والمجتمع والعائلة. وهو كان أحد المؤسسين لمحطة إذاعة راديكاليّة أطلق عليها اسم راديو أليس (نسبة إلى أليس في بلاد العجائب - الرواية المشهورة -) أذاعت موسيقات مقرصنة، لكن السّلطات الإيطاليّة اعتقلته لاحقاً وحكمت عليه بتهمة أخرى: تحقير الدّولة، وذلك بعد أن وضع مع زميل له كتاباً أشبه بمانيفستو ثورياً أسمياه «مهمتنا» ينظّر لنظام سياسي جديد. بالطبع لم يتم إنجاز «المهمّة» - بحسب روفيللي - بسبب «أنها بنيت على أساس قراءة سيئة للواقع. «لقد كنا مجرد أولاد برغوازيين حالمين ظننا أنفسنا لوهلة أننا الطليعة الثوريّة التي ستغيّر العالم. لقد كان ذلك كلّه محض هراء». وجد روفيّللي الشابّ عزاءه في الفيزياء، فلقي فيها راديكاليّة تفوق بمراحل كل الثرّثرات الحزبيّة، وعالماً مذهلاً حدّ التحليق الذي كان رفاقه يسعون إليه من خلال تعاطي المواد المخدّرة.
لا أحد يعرف كيف تحوّل إلى كاتب مرموق تتصدر نتاجاته قوائم المبيع، أو حتى أين يجد الوقت إلى جانب عمله البحثي والأكاديمي المكثّف ليؤلّف كتباً متلاحقة في الفيزياء وتاريخ الفكر والعلم، ويدبّج أيضاً مقالات في السياسة لصحف إيطاليا الكبرى، وليسافر عبر العالم ليلقي محاضرات ينتظرها المئات. ربما وبينما نهرم من حوله رويداً رويداً، فإن صاحب «نظام الزمن» نسي أن يكبر من مرحلة الشغف الثوري التي كانت، فبقي يعيش على نسق مختلف من تقدّم الوقت مغايراً لما نتعاطى. لكنه اليوم ما عاد يريد أن يغيّر العالم بقدر ما يريد أن يغيّر نظرتنا جميعاً إليه. وتلك بالفعل «مهمة» ثوريّة كبرى على صعيد البشريّة بأجمعها، وتفوق بمراحل مهمة كسر الدّولة الإيطاليّة لمصلحة عدالة فوضوية.
روفيّللي يفند مفاهيمنا عن معنى الفراغ والمكان
«فوضوي» ورث آينشتاين
روفيّللي يفند مفاهيمنا عن معنى الفراغ والمكان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة