روفيّللي يفند مفاهيمنا عن معنى الفراغ والمكان

«فوضوي» ورث آينشتاين

كارلو روفيللي
كارلو روفيللي
TT

روفيّللي يفند مفاهيمنا عن معنى الفراغ والمكان

كارلو روفيللي
كارلو روفيللي

إذا كان ثمّة من كتاب عن «الثورة» يتداوله طلاب الجامعات الأوروبيون فيما بينهم بكثافة هذه الأيّام، فهو بالتأكيد ليس «ما العمل؟» لفلاديمير لينين أو «الكتاب الأحمر» لماو تسي تونغ. بل هو ليس نصّاً في السّياسة أصلاً، حتى لو كان واضعه ثوري فوضوي سابق. بل هو «نظام الزّمن» لعالم الفيزياء الكميّة الإيطالي الصاعد إلى النجوميّة كارلو روفيّللي الذي وكأنه مبشر يحمل معولاً يحطّم أصنام مفاهيمنا التقليديّة عن معنى الفراغ والمكان، وأصل الكون ومادته ومعنى الإحساس البشري بانسياب الزمن، ليضعنا في مواجهة مباشرة مع حقائق العلم مجردين تماماً من كل الأوهام التي استعانت بها البشريّة قروناً مديدة لتفسير العالم والأحداث وتجربة الوجود الإنساني عبر الأيّام.
في «نظام الزّمن»، كما كتبه الأخرى «سبعة دروس موجزة في الفيزياء» و«الواقع ليس كما يبدو عليه»، إضافة إلى مئات المحاضرات العامة والمقابلات يقدّم روفيّللي دعوة متماسكة ومتراصفة ضد الإدراك البشري للإحساس بمرور الوقت تحيله إلى وهم محض تبنيه أذهاننا ليس له علاقة بالعالم المادي، جاعلاً من مفاهيم راسخة اعتدنا عليها ولم تعد موضع جدل مثل (الماضي) و(المستقبل) كما لو أنها نتاج ميكانيكيّة عمل الدّماغ البشري، بينما لا يمكن بالفعل التفريق بينهما على المستوى الميكروسكوبي. ولكي يزيد ارتباكنا، تتمدد مائدة الأفكار الصادمة التي يقدّمها لتشمل زعمه المبني على خلاصة معارف الفيزياء الكميّة الحديثة بأن إحساس البشر بالزّمن يحدث بشكل متفاوت باختلاف المكان - حيث يمضي أسرع في المناطق الجبليّة، وأبطأ على مستوى سطح البحر - وباختلاف حركة الرائي - إذ إن الذي يجري يهرم بشكل أبطأ من ذاك المتمهل في مشيه - لدرجة أن رائد فضاء - لو طال به العمر كفاية - سيعود إلى الأرض ليجد أن أطفاله كبروا أكثر منه خلال فترة غيابه. وجهة نظره أنّ ما يدفع الدّماغ البشري لتبني هيكليّة الماضي - المستقبل الموهومة هو ما يسجلّه وفق خبرته من تأثير «الأنتروبيا» - الاعتلال - في الطبيعة، أي ميل كل الأنظمة الحتمي إلى الانتقال نحو مزيد من الفوضى والعشوائيّة (فالأشخاص يشيخون ولا يصغرون، وأمواج البحر تتكسّر ولا تعود من تكسّرها). ما يقرأه الدّماغ فعلاً هو تعاظم الأنتروبيا، لا مرور الوقت.
روفيّللي ليس بالطبع أوّل من تناول هذه الأفكار النظريّة، إذ كان سبقه إليها ألبرت آينشتاين عالم الفيزياء الشهير منذ ما يقارب المائة عام في نظرياته عن النسبيّة. لكن بينما بقيت أفكار الأخير سجينة الإطار النظري المحض، فإن معاصرنا الإيطالي يستند في طروحاته إلى أحدث معطيات البحث التقني التي توفرت في آخر عقدين من الزّمن، وكلّها تؤكد على صحة البناء النظري الذي رسمه آينشتاين وبنت عليه أجيال الفيزيائيين اللّاحقة.
روفيّللي صاحب عدة نظريّات سجلّت باسمه في دنيا الفيزياء الكميّة (ما يعرف بنظريّة حلقات الجاذبيّة)، إلا أنّه يظل واحداً من جيش علماء الفيزياء الكميّة الذين تزخر بهم الجامعات ومراكز الأبحاث بالغرب والذين يقودون بمجموعهم ثورة شاملة في بناء تصوّر البشريّة عن ذاتها وعن العالم. لكنّه مع ذلك يبدو بحكم قدرته المذهلة على مساعدة الأجيال الجديدة عبور أصعب مفاهيم الفيزياء الكميّة الشديدة التعقيد، ونثره الأنيق الجزيل الذي يكاد يقارب الشعر في وضع تلك المفاهيم على الورق للقراء غير المتخصصين، يبدو وبشكل متزايد النجم الأشد سطوعاً بين كوكبة العلماء تلك. وبالفعل فإن محاضراته التي يلقيها في غير قارّة تغص دائماً بسحابات شبان وفتيات الجامعات العريقة من أبناء الأثرياء البرغوازيين الذين يحلمون بتغيير العالم، بينما تبيع كتبه ملايين النسخ في معظم لغات العالم الحيّة (صدرت نسخة عربيّة من «سبعة دروس موجزة في الطبيعة (الفيزياء)» بالقاهرة بترجمة عادل السيوي).
خذ مثلاً «نظام الزّمن». لا بدّ أنه عنوان كتاب يثير ريبة الكثيرين ممن أخذتهم أمور تدبير المعاش ولم يقرأوا في العلوم منذ المدرسة الثانويّة، أو هم تخصصوا في علوم أخرى بعيداً عن الفيزياء النظريّة، لكنّك ما إن تشرع بتصفح الكتاب حتى يأسرك روفيّللي في تفكيكه لأصعب المفاهيم الفيزيائيّة النظريّة والفلسفيّة رفقة رحلة حياة تنيرها تجارب الفلاسفة والروائيين الكبار الذين تعاطوا فكرة الزّمن فتقابل مارتن هيدجر وتستمع لإميل دوركهايم، وتتعرّف على مارسيل بروست صاحب الرواية الشهيرة «البحث عن الزمن الضائع» قبل أن تنتهي إلى فصل ختامي ساحر عن معنى الزمن في حضور الموت المؤجل. وحالما تنتهي من «آخر الزّمن» تكون قد تورطت حكماً في الظاهرة الرّوفيلليّة، فتبدأ بملاحقة مقابلاته عبر الصحف، وتتابع أحدث محاضراته على اليوتيوب وتترقب صدور أعماله القادمة بشغف كما لو كان ماركيز جديداً.
روفيللي أستاذ الفلسفة المرموق كان ولد في فيرونا - شمال إيطاليا - عام 1956 وتلقى علومه الأكاديميّة في أهم جامعات بلاده قبل أن يتنقل باحثاً ومدرساً للفيزياء الكميّة في جامعات كبرى بالولايات المتحدة وأوروبا إلى أن حط رحاله منذ عام 2000 بقرية فرنسيّة صغيرة وادعة مقابل البحر المتوسط قريباً من مكان عمله داخل مركز الفيزياء النظريّة بجامعة مارسيليا. لكن هذه السيرة التي تليق بعالم فيزيائي راقٍ ومتواضع من طراز روفيّللي لا تغطّي الجانب الثوري المتفجّر لشخصيته أيّام شبابه. فذات الرجل في بداياته كان أحد الأوجه البارزة للحركات اليساريّة الشبابيّة التي اكتسحت الجامعات الإيطاليّة في عقدي الستينيّات والسبعينيات وكانت أشبه بخليط عجيب جمع الهيبيين باللينينيين والتروتسكيين بكل تناقضاتهم لمواجهة السلطات البطريركية في الّدّولة والمجتمع والعائلة. وهو كان أحد المؤسسين لمحطة إذاعة راديكاليّة أطلق عليها اسم راديو أليس (نسبة إلى أليس في بلاد العجائب - الرواية المشهورة -) أذاعت موسيقات مقرصنة، لكن السّلطات الإيطاليّة اعتقلته لاحقاً وحكمت عليه بتهمة أخرى: تحقير الدّولة، وذلك بعد أن وضع مع زميل له كتاباً أشبه بمانيفستو ثورياً أسمياه «مهمتنا» ينظّر لنظام سياسي جديد. بالطبع لم يتم إنجاز «المهمّة» - بحسب روفيللي - بسبب «أنها بنيت على أساس قراءة سيئة للواقع. «لقد كنا مجرد أولاد برغوازيين حالمين ظننا أنفسنا لوهلة أننا الطليعة الثوريّة التي ستغيّر العالم. لقد كان ذلك كلّه محض هراء». وجد روفيّللي الشابّ عزاءه في الفيزياء، فلقي فيها راديكاليّة تفوق بمراحل كل الثرّثرات الحزبيّة، وعالماً مذهلاً حدّ التحليق الذي كان رفاقه يسعون إليه من خلال تعاطي المواد المخدّرة.
لا أحد يعرف كيف تحوّل إلى كاتب مرموق تتصدر نتاجاته قوائم المبيع، أو حتى أين يجد الوقت إلى جانب عمله البحثي والأكاديمي المكثّف ليؤلّف كتباً متلاحقة في الفيزياء وتاريخ الفكر والعلم، ويدبّج أيضاً مقالات في السياسة لصحف إيطاليا الكبرى، وليسافر عبر العالم ليلقي محاضرات ينتظرها المئات. ربما وبينما نهرم من حوله رويداً رويداً، فإن صاحب «نظام الزمن» نسي أن يكبر من مرحلة الشغف الثوري التي كانت، فبقي يعيش على نسق مختلف من تقدّم الوقت مغايراً لما نتعاطى. لكنه اليوم ما عاد يريد أن يغيّر العالم بقدر ما يريد أن يغيّر نظرتنا جميعاً إليه. وتلك بالفعل «مهمة» ثوريّة كبرى على صعيد البشريّة بأجمعها، وتفوق بمراحل مهمة كسر الدّولة الإيطاليّة لمصلحة عدالة فوضوية.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.