«المسحراتي» لا يزال يتجول في أحياء بيروت القديمة ومدن أخرى

يعدّ «المسحراتي» من رموز شهر رمضان التي ترعرع عليها أهالي بيروت كما مدن لبنانية أخرى مثل صيدا وطرابلس وصور. فهذه المهنة لها أربابها الذين يمارسونها منذ سنين طويلة بعد أن ورثوها أبا عن جد. وهم يعتبرونها رسالة لا يتخلون عنها خصوصا أنهم باتوا يتعرفون إلى سكان الأحياء التي يتجولون فيها وينادونهم بأسمائهم فردا فردا.
«إنها من عادات هذا الشهر الكريم التي لم ولن تغيب عن بيروت رغم كل مظاهر الحداثة التي تجتاحها». يقول الممثل المخضرم صلاح تيزاني في حديث لـ«الشرق الأوسط» ويضيف: «لطالما كنا ننتظره ونحن صغار في مدينتي الأم طرابلس. فيمر علينا ونحن نيام وينادينا بأسمائنا فنفرح ونقفز من أسرّتنا بحماس». وبحسب تيزاني الذي يعيش اليوم في بيروت وبالتحديد بالقرب من الجامعة العربية فهو يؤكد أن «المسحراتي» لا يزال حاضرا في هذا الموسم ويتفتل بين عمارات الأحياء وهو يضرب على الطبلة قائلا «يا صايم وحّد الدايم، وحّد الله قوم يا نايم قوم يا دايم». ويتابع في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «إنه يوجد في جميع الأحياء البيروتية ليمارس مهنته في هذه الفترة من السنة.
وقبل 10 أيام من انتهاء شهر رمضان يمرّ علينا أكثر من واحد ليقوموا بواجب الوداع لنا. وهذه العادة معروفة في جميع المدن اللبنانية، إذ يزور المسحراتي سكان كل عمارة يناديهم بأسمائهم ليتمنى لهم شهرا كريما. يدق المسحراتي الأبواب وهو يضرب على آلات إيقاعية كالطبل والدف ويحمل الفانوس أو مصباحاً يعرف بـ«لوكس» ويتميز بضوئه القوي، فينير دروبهم في حال انقطاع التيار الكهربائي أو خلال تسلقهم سلالم عمارات لا تتمتع بإنارة جيدة». ويشير الممثل اللبناني المعروف في أعماله الكوميدية أن فترة الوداع تجري وسط النهار وليس عند الفجر كما تتطلب شروط هذه المهنة باقي أيام الشهر. ويعلق: «هي رمز من رموز الشهر الفاضل ولا نتخيل وصول شهر رمضان من دونها في بيروت. أما في طرابلس فلقد زاد عدد الذين يمارسون هذه المهنة أضعاف ما كانوا يبلغونه في الماضي».
ومع الوقت تبدلّت الأساليب التي يعتمدها بعض المسحراتيين لإيقاظ أهالي الأحياء التي يجولون فيها. إذ راحوا يعتمدون ركوب سيارة مزودة ببوق تخرج منه الأناشيد والأدعية الرمضانية. فيما يمارس بعضهم هذه المهنة على دراجة نارية بحيث يجولون فيها على الأحياء البعيدة إذ يتعذّر عليهم وصولها سيرا على الأقدام كما تجري العادة.
«إنني أقوم بهذه المهنة منذ نحو 4 سنوات في ضواحي مدينة صيدا الجديدة فأستقل سيارتي ومعي بعض الأولاد من أعمار مختلفة. ندور معا في أحياء مناطق عبرا والبرامية وغيرها. وهي تعد من المناطق المحيطة بمدينة صيدا والتي لا يمكننا الوصول إليها بسهولة على الأقدام» يقول محمد غزاوي وهو مسحراتي يعتمد الحداثة في مهنته. ويضيف في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «صحيح أنني أستقل سيارتي لأجول على الأحياء التي ذكرتها ولكني أحرص على مناداة صاحب كل بيت باسمه. فأنا أعرفهم جميعا وهناك حالة ود وصداقة بيننا. فالجميع ينتظر سماع طبلتي والأناشيد بأصوات منشدين مشهورين».
ويشير محمد غزاوي في سياق حديثه أنه عادة ما يفضل الركون إلى التقاليد القديمة في جولاته. فيرتدي العباءة البيضاء ويعتمر طربوشا أحمر ويحمل الدف ليكون نموذجا حقيقيا عن المسحراتي الصيداوي المعروف.
وفي صيدا الجنوبية أيضا يتمسك عباس قطيش بالتقاليد القديمة التي تحيط بهذه المهنة. فهو يمارسها منذ 27 عاما في منطقة صيدا القديمة ويحرص على التجول في أكثر من 50 حيا من الواحدة حتى الثالثة صباحا. ويأبى أن يستعين بأي مظهر من مظاهر الحداثة خلال ممارسته مهنته هذه التي يصفها بالرسالة. فهو يسير يوميا عشرات الكيلومترات بسعادة لا توصف كما يقول، كما أنه لا يملّ من الوقوف أمام هذا المنزل أو ذاك في حارات صيدا القديمة ليلمح إنارة أضوائها، فيعرف أن الصائم صاحب البيت استيقظ من النوم ولبّى نداءه لتناول السحور ولأداء الصلاة. ويقول: «لا تقنعني الأساليب الجديدة التي يعتمدها بعض الدخلاء على هذه المهنة التراثية.
فأنا معروف من قبل سكان أحياء صيدا القديمة جميعهم بعاداتي وتقاليدي التي تعلمتها من مسحراتي قديم كنت أتبعه وألحق به لأتعلم طريقته». ويحافظ عباس قطيش على لباسه التراثي (القمباز والطربوش)، وعلى قصائده التي يسبّح بها ربّ العالمين من أجل أن يصحو السكان ليتناولوا السحور ويذهبوا إلى الجامع للصلاة وكلّ ذلك قبل الإمساك.
ويعلّق: «أقف أمام كل مبنى وأنادي الصائمين للنهوض وتناول السحور، فهذه الوجبة ضرورية لهم، ونحن نردد عبارة نقول فيها (عجّل بالفطور وأخّر في السحور) الذي يبقى تناوله ساري المفعول حتى يلمع أول خيط أبيض من الفجر في سواد الليل».