الخلاص بالطبيعة... شعرياً

محمود سباق في ديوانه «محاولة لاستصلاح العالم»

الخلاص بالطبيعة... شعرياً
TT

الخلاص بالطبيعة... شعرياً

الخلاص بالطبيعة... شعرياً

تبرز الطبيعة رحماً شعرياً ودالاً مركزياً له حضوره الخاص في ديوان «محاولة لاستصلاح العالم» للشاعر محمود سباق، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وفاز بجائزتها لأفضل ديوان شعر في معرض القاهرة الدولي للكتاب. فمن براح الطبيعة تنفتح نصوص الديوان على المكان، ليس كجغرافيا محددة الأبعاد، وإنما كمشهدية بصرية مفتوحة بحيوية على أشواق البشر وذكرياتهم وأحلامهم عبر أصوات من الماضي والحاضر والمستقبل. بينما يتحول الحلم بالطبيعة إلى شكل من أشكال الخلاص، تتناثر صوره ورموزه وحالاته في الديوان، فرغم أنها رمز للحنو والعطف والجمال فهي مع ذلك لا تخلو من قسوة، خصوصاً حين تصبح الأجواء ملبدة بالحروب والكوارث، كما في (ص 40)، حيث يتساءل الشاعر مسكوناً بحس المرثية: «ما يدفع الأمم الكبيرة/ كي تجاملنا/ لزرع سمائنا بالطائرات/ ما يجعل الصحراءَ تنمو هكذا/ إن مات عنها الأصدقاء/ وما يعذبني كثيراً أنَّ هذا غامض/ أنَّ الطبيعة سوف تعمل في تحيزها/ وتنسى أننا أبناؤها». كما أن الموت في حضن الطبيعة آمن لا يكلف شيئاً، حسب تعبير الديوان أيضاً (ص43). في مقابل هذه القسوة العابرة، يبرز عفو الطبيعة مشكلاً ذروة هذا الخلاص، وكأنه رحم أمومي يحتضن الروح والجسد، بعيداً عن قبح العالم وفساده... يطالعنا هذا المعني (ص 51) في قصيدة بعنوان «تداعٍ» يقول فيها الشاعر:
«إذن...
سوف أملأ عيني
بما تعرض الأرضُ من صورٍ للنبات المشاعِ
وما تعرض الأسطحُ المنزلية من فلسفات (؟!)
وما يعرض البحرُ للنازحين:
عناوينَ غامضة،
وبواخرَ مربوطة في يد الموج،
مثلَ قطار تعطّلَ قبل بلوغ المحطة
أملأ عيني بعفو الطبيعة،
- ستمطرُ هذا الصباحَ؟
ستمطر»
هذا الخلاص بالطبيعة، وهذه المشهدية، يشكلان خيطاً للوصل والقطع مع سيرتين يعمل الديوان على إنضاجهما، والتقاط المشترك والمهمّش والمسكوت عنه في ظلالهما، أعني بهما سيرة الجنوب والشمال، فعلاوة على الإهداء الذي يحتفي به الشاعر بوالديه وشريكة حياته، وخمس نجمات يضئن ليل الجنوب، تطالعنا القصيدة الأولى بعنوان «من سيرة الجنوب والشمال»، منحازاً من خلالها إلى ما يمكن أن أسميه تبعيض الكل، أو تجزئته، الكامن في حرف الجر بالعنوان، والذي يفيد التقليل، ما يعني ضمنياً أننا أمام ذات شعرية لا تدعي معرفة ما تجهله، وإنما تكتب ما عاشته وما تعيشه، ما أحبته وتحبه... ذات مسالمة، تريد إصلاح العالم بالشعر والحب، أو على الأقل يكونان عتبة في سبيل ذلك.
ورغم نفحة الرومانسية في هذا العنوان، إلا أنه ربما يكون ملائماً لمناخ ديوان يعتمد في بنيته على إيقاع التفعيلة حجر أساس، في زمن شاعت فيه قصيدة النثر، حتى أصبحت التفعيلة من «التابوهات»، وهذه جرأة تحسب لشاعر متمكن من أدواته ولغته، حريص على أن يكون لمفرداته صوت، تحسه العين والأذن معاً.
تمتد هذه القصيدة على مدار 20 صفحة من (ص 9 إلى 29)، وهي مقسمة إلى 6 مقاطع مرقمة، ما يشكل تقريباً أكثر من ثلث الديوان الواقع في (77 صفحة).
لكن هذا الاتساع الذي لم نصادفه في قصائد أخرى، هل له ما يبرره فنياً وشعرياً؟ فنياً: أتصور أن هذه القصيدة تشكل الكتلة - المتن، التي ينبثق منها اللحن الأساس في الديوان، وتبرز فيها طاقة السرد وشعرية التفاصيل، بينما ما يأتي بعد ذلك بمثابة تنويع على هذا اللحن وصدى له... وشعرياً: نلاحظ أن حركة الذات في هذه القصيدة، لم تكترث كثيراً بفرديتها، بقدر ما كان جل همها هو التماهي مع الكتلة، وما تحتويه من أحلام وأشواق، لا تزال تومض في عباءة المكان، وذلك على عكس إيقاع بقية القصائد، حيث تنفلت الذات من أسر الكتلة، والتي تتحول إلى رجع صدى، بينما تتسع مساحة الاستناد على فرديتها وأشيائها الشخصية، وربما يكون من اللافت هنا أن نصنع نوعاً من المفارقة بين هذين العالمين... يقول الشاعر في القصيدة الأولى المتن:
«وفي الجنوب
صحبتُ أبناء الجنوب
سكبت أحلامي على أحلامهم
وخبزت ليلاً طازجاً
وفتحت قلبي كالحديقة للجميع:
أنا الشمالي ابن أمي
كنتُ أركض في الشوارع والحقول وراءها
أمشي كما تمشي
وأحفظ خطوها من أن تشيِّبه السنين
وكنت أقفز كالطيور المنزلية حولها
لكن خطوي كان أصغر
كنت أجمع ما تناثر خلفها من ذكرياتٍ
عن أبي وعن الجنوب
أول المدن التي انكسرت على شطآنها أحزاننا».
لا تتحرك الذات الشاعرة هنا بمعزل عن المجموع؛ العائلة والبيت والطبيعة، ويشكل اللعب في ظلالها إحساساً بالونس والأمان، يقفز عبر صوت الماضي (كنتُ أركض - كنت أقفز - كنت أجمع). لكن حين تستند الذات على فرديتها تجتر مشاعر من الإحباط والغربة والخوف، بل يصبح الماضي والإحساس به محنة مغلفة بتضاد منهك، بين زمانين افترقا إلى غير رجعة، ولا شيء يوحدهما، أو يقرِّب المسافة بينهما، وهو ما يشير إليه الشاعر في ختام قصيدته «القصيدة والبحر» (ص 70) قائلاً: «شياطين تأتي لتقطع وحي القريحة عني/ وفقدٌ يشير إلى ما أراه فينأى/ إذن كيف ينجو المحاصر بالضد/ كيف ينام؟».
تربك نبرة التعليل هنا أسئلة الشاعر، وتحد من أفق التأويل، وتسيَّجه بإشارات عابرة تقريرية، بينما تغيب طاقة الأسئلة الكاشفة المكوِّنة المضيئة التي تفتح الكينونة والمخيلة على المعنى الأبعد والأعمق للوجود والحياة، وقبل كل شيء المعنى الأعمق للشعر.
في محاولة لردم هذه الفجوة، يلجأ الشاعر إلى القلق، يخاطبه كمحرك وحافز على المعرفة والتمرد، وذلك في قصيدته التالية «يخصني هذا القلق» معولاً على الذكريات حلقة وصل بين الأشياء المفتقدة المنسية، وفي الوقت نفسه، تفعيل دور القلق محفزاً لإعادة القراءة والتأمل... فيستهل هذه القصيدة قائلاً (ص 71):
«سأفعل ذكرياتي
وأدير وجهي حيث ترشدني الحواسُ
وحيث أفتنُ بالغرابة والتشظي بالخيال
وبالعيال الهاربين من القرى لمصائر مجهولة
وأمارس الأشياء كي تدنو وتصبح واقعاً يختصني
وأقود ذاكرتي لأبعد من هنا
أحتاج تذكرة إذن لبعيدة تبتلُّ بي...»
بيد أن هذه القلق يبدو عابراً، في الأغلب، لا يصنع موقفاً وجودياً، لا من الذات أو العالم، إنه مجرد قشرة على السطح، تظل كما هي، حتى لو تغيرت دفة الضمائر في القصائد، من الأنا المتكلم إلى الآخر، وتغيرت الإشارات والرموز، واكتسى بعضها مسحة سياسية عن الميدان والثورة والجنرال. لا تسلم بعض القصائد من الوقوع في النظم أحياناً، وشيوع مجاز الصور المتضادة المستهلكة، من قبيل «حين يخرج من نفسه للعراء/ تاركاً ظله في البيوت/ لها كم يضيء ولكنه لا يضاء»، وفي ختام القصيدة نفسها (ص 77): «والعيون التي أحيت طفولتها من دماه/ لم تكن غير ما شكلته يداه/ حين غادر من نفسه، لم يكن أحدٌ غيره/ إنما ظله وخطاه». أو تأتي لطشة النهاية في قصيدة «حكايات القرى الأولى» على هذا النحو: «وأنا انتزعت ملامحي مني/ وألبسني المكان ملامحاً أقوى/ وأنزلني عن السِّير القُعود».
إن الطبيعة، التي تشكل مداراً للرؤية في الديوان، تتسم في ظل هذه السلبيات الطفيفة بحضور ضعيف وفاتر، وتتحول من مجاز للوجود بالفعل إلى مجاز للوجود بالقوة شعرياً، على عكس الكثير من القصائد، التي قدمت موقفاً راقياً تنوعت فيها أشكال الخلاص بالطبيعة من قسوة العالم وجهامته... وعلى سبيل المثال قصيدة «غزالات مولعة بالركض»، فعلى مدار صفحتين فقط، وبلغة سلسلة شفيفة، وإيقاع خالص لنفسه، يبني الشاعر موقفه عاطفياً من الحبيبة والعالم والأشياء، في مشهدية شيقة، يمتزج فيها الحلم بالطبيعة، بالحرية والعدل والأمان... يقول الشاعر في هذه القصيدة (ص 53):
«أشعلُ خمسَ مجرَّاتٍ
وأسميها باسمكِ،
أرتاح قليلاً وأغني كثيراً عنك،
أضع أمامك كل الأشياء جميعاً:
أضع ملائكة وشياطين صغاراً،
وغزالاتٍ مولعة بالركض،
ونباتاتٍ يتزوَّجها الغيم»
هكذا، من دون فواصل تضع كل عنصر من عناصر هذه المشهدية بمعزل عن الآخر، يتنامى الولع بالطبيعة، ويصبح سؤالاً ممتداً في جسد الشعر والزمان والمكان.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.