الخلاص بالطبيعة... شعرياً

محمود سباق في ديوانه «محاولة لاستصلاح العالم»

الخلاص بالطبيعة... شعرياً
TT

الخلاص بالطبيعة... شعرياً

الخلاص بالطبيعة... شعرياً

تبرز الطبيعة رحماً شعرياً ودالاً مركزياً له حضوره الخاص في ديوان «محاولة لاستصلاح العالم» للشاعر محمود سباق، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وفاز بجائزتها لأفضل ديوان شعر في معرض القاهرة الدولي للكتاب. فمن براح الطبيعة تنفتح نصوص الديوان على المكان، ليس كجغرافيا محددة الأبعاد، وإنما كمشهدية بصرية مفتوحة بحيوية على أشواق البشر وذكرياتهم وأحلامهم عبر أصوات من الماضي والحاضر والمستقبل. بينما يتحول الحلم بالطبيعة إلى شكل من أشكال الخلاص، تتناثر صوره ورموزه وحالاته في الديوان، فرغم أنها رمز للحنو والعطف والجمال فهي مع ذلك لا تخلو من قسوة، خصوصاً حين تصبح الأجواء ملبدة بالحروب والكوارث، كما في (ص 40)، حيث يتساءل الشاعر مسكوناً بحس المرثية: «ما يدفع الأمم الكبيرة/ كي تجاملنا/ لزرع سمائنا بالطائرات/ ما يجعل الصحراءَ تنمو هكذا/ إن مات عنها الأصدقاء/ وما يعذبني كثيراً أنَّ هذا غامض/ أنَّ الطبيعة سوف تعمل في تحيزها/ وتنسى أننا أبناؤها». كما أن الموت في حضن الطبيعة آمن لا يكلف شيئاً، حسب تعبير الديوان أيضاً (ص43). في مقابل هذه القسوة العابرة، يبرز عفو الطبيعة مشكلاً ذروة هذا الخلاص، وكأنه رحم أمومي يحتضن الروح والجسد، بعيداً عن قبح العالم وفساده... يطالعنا هذا المعني (ص 51) في قصيدة بعنوان «تداعٍ» يقول فيها الشاعر:
«إذن...
سوف أملأ عيني
بما تعرض الأرضُ من صورٍ للنبات المشاعِ
وما تعرض الأسطحُ المنزلية من فلسفات (؟!)
وما يعرض البحرُ للنازحين:
عناوينَ غامضة،
وبواخرَ مربوطة في يد الموج،
مثلَ قطار تعطّلَ قبل بلوغ المحطة
أملأ عيني بعفو الطبيعة،
- ستمطرُ هذا الصباحَ؟
ستمطر»
هذا الخلاص بالطبيعة، وهذه المشهدية، يشكلان خيطاً للوصل والقطع مع سيرتين يعمل الديوان على إنضاجهما، والتقاط المشترك والمهمّش والمسكوت عنه في ظلالهما، أعني بهما سيرة الجنوب والشمال، فعلاوة على الإهداء الذي يحتفي به الشاعر بوالديه وشريكة حياته، وخمس نجمات يضئن ليل الجنوب، تطالعنا القصيدة الأولى بعنوان «من سيرة الجنوب والشمال»، منحازاً من خلالها إلى ما يمكن أن أسميه تبعيض الكل، أو تجزئته، الكامن في حرف الجر بالعنوان، والذي يفيد التقليل، ما يعني ضمنياً أننا أمام ذات شعرية لا تدعي معرفة ما تجهله، وإنما تكتب ما عاشته وما تعيشه، ما أحبته وتحبه... ذات مسالمة، تريد إصلاح العالم بالشعر والحب، أو على الأقل يكونان عتبة في سبيل ذلك.
ورغم نفحة الرومانسية في هذا العنوان، إلا أنه ربما يكون ملائماً لمناخ ديوان يعتمد في بنيته على إيقاع التفعيلة حجر أساس، في زمن شاعت فيه قصيدة النثر، حتى أصبحت التفعيلة من «التابوهات»، وهذه جرأة تحسب لشاعر متمكن من أدواته ولغته، حريص على أن يكون لمفرداته صوت، تحسه العين والأذن معاً.
تمتد هذه القصيدة على مدار 20 صفحة من (ص 9 إلى 29)، وهي مقسمة إلى 6 مقاطع مرقمة، ما يشكل تقريباً أكثر من ثلث الديوان الواقع في (77 صفحة).
لكن هذا الاتساع الذي لم نصادفه في قصائد أخرى، هل له ما يبرره فنياً وشعرياً؟ فنياً: أتصور أن هذه القصيدة تشكل الكتلة - المتن، التي ينبثق منها اللحن الأساس في الديوان، وتبرز فيها طاقة السرد وشعرية التفاصيل، بينما ما يأتي بعد ذلك بمثابة تنويع على هذا اللحن وصدى له... وشعرياً: نلاحظ أن حركة الذات في هذه القصيدة، لم تكترث كثيراً بفرديتها، بقدر ما كان جل همها هو التماهي مع الكتلة، وما تحتويه من أحلام وأشواق، لا تزال تومض في عباءة المكان، وذلك على عكس إيقاع بقية القصائد، حيث تنفلت الذات من أسر الكتلة، والتي تتحول إلى رجع صدى، بينما تتسع مساحة الاستناد على فرديتها وأشيائها الشخصية، وربما يكون من اللافت هنا أن نصنع نوعاً من المفارقة بين هذين العالمين... يقول الشاعر في القصيدة الأولى المتن:
«وفي الجنوب
صحبتُ أبناء الجنوب
سكبت أحلامي على أحلامهم
وخبزت ليلاً طازجاً
وفتحت قلبي كالحديقة للجميع:
أنا الشمالي ابن أمي
كنتُ أركض في الشوارع والحقول وراءها
أمشي كما تمشي
وأحفظ خطوها من أن تشيِّبه السنين
وكنت أقفز كالطيور المنزلية حولها
لكن خطوي كان أصغر
كنت أجمع ما تناثر خلفها من ذكرياتٍ
عن أبي وعن الجنوب
أول المدن التي انكسرت على شطآنها أحزاننا».
لا تتحرك الذات الشاعرة هنا بمعزل عن المجموع؛ العائلة والبيت والطبيعة، ويشكل اللعب في ظلالها إحساساً بالونس والأمان، يقفز عبر صوت الماضي (كنتُ أركض - كنت أقفز - كنت أجمع). لكن حين تستند الذات على فرديتها تجتر مشاعر من الإحباط والغربة والخوف، بل يصبح الماضي والإحساس به محنة مغلفة بتضاد منهك، بين زمانين افترقا إلى غير رجعة، ولا شيء يوحدهما، أو يقرِّب المسافة بينهما، وهو ما يشير إليه الشاعر في ختام قصيدته «القصيدة والبحر» (ص 70) قائلاً: «شياطين تأتي لتقطع وحي القريحة عني/ وفقدٌ يشير إلى ما أراه فينأى/ إذن كيف ينجو المحاصر بالضد/ كيف ينام؟».
تربك نبرة التعليل هنا أسئلة الشاعر، وتحد من أفق التأويل، وتسيَّجه بإشارات عابرة تقريرية، بينما تغيب طاقة الأسئلة الكاشفة المكوِّنة المضيئة التي تفتح الكينونة والمخيلة على المعنى الأبعد والأعمق للوجود والحياة، وقبل كل شيء المعنى الأعمق للشعر.
في محاولة لردم هذه الفجوة، يلجأ الشاعر إلى القلق، يخاطبه كمحرك وحافز على المعرفة والتمرد، وذلك في قصيدته التالية «يخصني هذا القلق» معولاً على الذكريات حلقة وصل بين الأشياء المفتقدة المنسية، وفي الوقت نفسه، تفعيل دور القلق محفزاً لإعادة القراءة والتأمل... فيستهل هذه القصيدة قائلاً (ص 71):
«سأفعل ذكرياتي
وأدير وجهي حيث ترشدني الحواسُ
وحيث أفتنُ بالغرابة والتشظي بالخيال
وبالعيال الهاربين من القرى لمصائر مجهولة
وأمارس الأشياء كي تدنو وتصبح واقعاً يختصني
وأقود ذاكرتي لأبعد من هنا
أحتاج تذكرة إذن لبعيدة تبتلُّ بي...»
بيد أن هذه القلق يبدو عابراً، في الأغلب، لا يصنع موقفاً وجودياً، لا من الذات أو العالم، إنه مجرد قشرة على السطح، تظل كما هي، حتى لو تغيرت دفة الضمائر في القصائد، من الأنا المتكلم إلى الآخر، وتغيرت الإشارات والرموز، واكتسى بعضها مسحة سياسية عن الميدان والثورة والجنرال. لا تسلم بعض القصائد من الوقوع في النظم أحياناً، وشيوع مجاز الصور المتضادة المستهلكة، من قبيل «حين يخرج من نفسه للعراء/ تاركاً ظله في البيوت/ لها كم يضيء ولكنه لا يضاء»، وفي ختام القصيدة نفسها (ص 77): «والعيون التي أحيت طفولتها من دماه/ لم تكن غير ما شكلته يداه/ حين غادر من نفسه، لم يكن أحدٌ غيره/ إنما ظله وخطاه». أو تأتي لطشة النهاية في قصيدة «حكايات القرى الأولى» على هذا النحو: «وأنا انتزعت ملامحي مني/ وألبسني المكان ملامحاً أقوى/ وأنزلني عن السِّير القُعود».
إن الطبيعة، التي تشكل مداراً للرؤية في الديوان، تتسم في ظل هذه السلبيات الطفيفة بحضور ضعيف وفاتر، وتتحول من مجاز للوجود بالفعل إلى مجاز للوجود بالقوة شعرياً، على عكس الكثير من القصائد، التي قدمت موقفاً راقياً تنوعت فيها أشكال الخلاص بالطبيعة من قسوة العالم وجهامته... وعلى سبيل المثال قصيدة «غزالات مولعة بالركض»، فعلى مدار صفحتين فقط، وبلغة سلسلة شفيفة، وإيقاع خالص لنفسه، يبني الشاعر موقفه عاطفياً من الحبيبة والعالم والأشياء، في مشهدية شيقة، يمتزج فيها الحلم بالطبيعة، بالحرية والعدل والأمان... يقول الشاعر في هذه القصيدة (ص 53):
«أشعلُ خمسَ مجرَّاتٍ
وأسميها باسمكِ،
أرتاح قليلاً وأغني كثيراً عنك،
أضع أمامك كل الأشياء جميعاً:
أضع ملائكة وشياطين صغاراً،
وغزالاتٍ مولعة بالركض،
ونباتاتٍ يتزوَّجها الغيم»
هكذا، من دون فواصل تضع كل عنصر من عناصر هذه المشهدية بمعزل عن الآخر، يتنامى الولع بالطبيعة، ويصبح سؤالاً ممتداً في جسد الشعر والزمان والمكان.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

قافلة من الشعراء تشعل ليالي الكويت الباردة في «دورة البابطين» الثقافية

الشاعرة روضة الحاج (الشرق الأوسط)
الشاعرة روضة الحاج (الشرق الأوسط)
TT

قافلة من الشعراء تشعل ليالي الكويت الباردة في «دورة البابطين» الثقافية

الشاعرة روضة الحاج (الشرق الأوسط)
الشاعرة روضة الحاج (الشرق الأوسط)

أشعلت كتيبة من الشعراء، تقاطروا من كل أرجاء العالم العربي، لياليّ الكويت الباردة بالدفء والمشاعر الصاخبة، في توليفة من العشق والغزل والحنين والافتجاع، حيث أوقد 27 شاعراً وشاعرة عربية جمر الكلمات لتنساب قصائدهم كألسنة نار تسكب حرارة العاطفة في قوالب موسيقية تجتذب القلوب التواقة إلى الدفء والجمال.

عبر ثلاث أمسيات شعرية، توزع الشعراء الـ27 ضمن فعاليات الدورة التاسعة عشرة لمؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية للإبداع الشعري، التي خصصت أعمال هذه الدور لسيرة مؤسسها الراحل الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، الذي رحل منتصف ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أقيمت الأمسيات الثلاث في مكتبة البابطين في العاصمة الكويت، الأمسية الأولى جمعت تسعة شعراء من مختلف أنحاء العالم العربي، وأدارها الدكتور مشعل الحربي (الكويت). وشارك فيها كلٌ من: أوس الأفتيحات (العراق)، وجاسم الصحيّح (السعودية)، وجمانة الطراونة (الأردن)، وحنين عمر (الجزائر)، وخالد بودريف (المغرب)، ومحمد طه العثمان (سوريا)، ومحمد عرب صالح (مصر)، وموضي رحال (الكويت)، ووليد الصراف (العراق).

الأمسية الثانية جمعت أيضاً تسعة من الشعراء، وأدارها الدكتور عبد الله السرحان (الكويت) وشارك فيها كلٌ من: أحمد شلبي (مصر)، وجاسر البزور (الأردن)، وخالد الحسن (العراق)، وروضة الحاج (السودان)، وسمية محنش (الجزائر)، وفالح بن طفلة (الكويت)، ومحمد الجلواح (السعودية)، نبيلة حماني (المغرب)، وهبة الفقي (مصر).

وضمّت الأمسية الثالثة، تسعة شعراء آخرين، وأدارها الدكتور أحمد الفرج (الكويت)، وشارك فيها كلٌ من: إباء الخطيب (سوريا)، وأحمد بلبولة (مصر)، وإياد هاشه (العراق)، وحسام شديفات (الأردن) ودلال البارود (الكويت)، وشقراء مدخلي (السعودية) وعبد الله الفيلكاوي (الكويت)، وفارس حرّام (العراق)، ومحمد البريكي (الأمارات).

الشاعر السعودي جاسم الصحيّح (الشرق الأوسط)

جاسم الصحيّح

شارك في الأمسية الأولى الشاعر السعودي جاسم الصحيّح، الذي سبق أن فاز بجائزة أفضل ديوان شعري في مسابقة البابطين للإبداع الشعري 2012 عن ديوانه «ما وراء حنجرة المغني»، كما حاز جائزة سوق عكاظ الدولية للشعر العربي الفصيح 2018، وأخيراً جائزة المركز الأول في برنامج «المعلقة» من وزارة الثقافة السعودية في عام 2024.

وألقى الصحيّح بعضاً من نصوصه، جاء في قصيدته «لعابر في التآويل»:

نبيٌّ ولكنْ عابرٌ للشرائعِ

حدودُ سماواتي حدودُ أصابعي

إذا سال ظِلِّي بَلَّلَتْنِي غمامةٌ

من الوحيِ، تندَى بالمعاني الجوامعِ

رَعَيتُ ولكنْ في مراعي هواجسي!

تَأَمَّلتُ لكنْ في (حِرَاءِ) الشَّوَارِعِ!

يُجَلِّلُني مجدُ القصائدِ حينما

أشمُّ أريجَ الله بين (المَطالعِ)

حروفي نجومٌ أَفْلَتَتْ من مدارِها

إليَّ، وعَقَّتْ ما لها من مواقعِ!

فما حِكمتي إلا الجَمالُ، وحُجَّتي

شعوري بأنَّ الكونَ إحدى ودائعي

تَلَمَّستُ ديني داخلي فاعْتَنَقْتُهُ

وشَيَّدتُ في كلِّ الخلايا صوامعي

يسيلُ بيَ التأويلُ في كلِّ جُملةٍ

كأنِّي (مجازٌ مُرسَلٌ) للمنابعِ

بسَبعَةِ أختامٍ أُشَمِّعُ فكرتي

وأرسلُها للخلقِ دون طوابعِ

سـيَشكُونِـيَ الوُعَّاظُ مِلءَ نقيقِهِمْ

فمُستنقعُ الشكوَى كثيرُ الضفادعِ

الشاعرة روضة الحاج (الشرق الأوسط)

روضة الحاج

شاركت الشاعرة السودانية روضة الحاج في الأمسية الثانية، وسبق أن حازت لقب «شاعر سوق عكاظ» لعام 2005، وشاركت في برنامج «أمير الشعراء» بنسخته الأولى، وحازت المركز الرابع... الشاعرة روضة الحاج، حملت أحزان بلدها السودان الذي تكويه نار الحرب، ومعاناة الناس وعذاباتهم، فألقت من لهيب الحزن قصيدتها «الآن تُمطرُ في جنوبِ القاهرة!»، جاء فيها:

وأنا ومصرُ

غريبةٌ لاذت بحزنِ غريبةٍ

بينا تسيرُ القاطرة

كلُّ المحطاتِ التي مرَّت بنا

متشابهاتٌ كلُّهنَّ

فليس من بيتٍ

لكي نأوي له

والساعة العجلى تشير إلى تمام العاشرة!

لا أهلَ

لا مستقبلينَ هناك

لا معنًى أُطاردُه

فيتبعُني ويُتعِبني

فقط

وجعٌ عظيمٌ لانهمارِ الذاكرة!

الآن تُمطر في جنوبِ القاهرة

وأنا يُعاودُني شجاي المرُّ

تعبثُ بي حميَّاي القديمةُ

كلما

بكتِ السماءُ وأبرقت

فكأنَّما روحي السماءُ الماطرة

وجعٌ عتيقٌ

يستبدُّ بهذه الروحِ المطيرةِ

كلما

لمعتٌ بروقٌ كنتُ أعرفُهنَّ

هبَّ عليّ عطرُ الأرضِ

أيقظَ كلَّ ما هدهدتُه لينامَ

أوقدَ ليلي الساجي

وسافرَ بي هناك

وهل أنا

مذ جئتُ هذي الأرضَ

إلا ضيفةٌ ومسافرة!

مطرٌ

وصوتُ (حليم)

شايٌ أحمرٌ

كتبٌ مبعثرةٌ

وشوقٌ

لست أدري ما الذي أشتاقُه

ومن الذي أشتاقُه

لكنَّني أدري تلوُّي القلبِ

كالملدوغِ

حين تُحيط بي أشجانُه

أدري بسكِّينِ الحنينِ

يشقُّ هذي الخاصرة!

الآن تُمطرُ في جنوبِ القاهرة

أبكي

لأرضٍ لم تغادرني وإن غادرتُها

لأحبةٍ سأظلُّ أحملهُم معي

حتى الحياةِ الآخرة!

أو ربما أبكي مكابدتي

لأبدو مثلما أبدو

وفي روحي تمورُ عوالمٌ شتى

وكونٌ كاملٌ يغلي

وأسئلةٌ

وما من مهربٍ إلا إلى هذي القصيدةِ

وهي تُمعنُ في مراوغةٍ

أنا أدرى بها

يا للعنودِ الماكرة!

ولربما أبكي

صدوعاً كلما رممّتها

وظننتُها التأمت

أعادتها قصيدةُ شاعرٍ

أو شاعرة!

أبكي

وتنهمرُ السماءُ

وتُجهش الدنيا معي

والشوقُ يهطِلُ

والحنينُ الآنَ

يهمي من سماءِ القاهرة!

الشاعرة الجزائرية سمية محنش (الشرق الأوسط)

سمية محنّش

الشاعرة الجزائرية سمية محنّش، قرأت مجموعة من النصوص من بينها «أسئلة في العشـــقْ»، جاء فيه:

لماذا...

وفي كُلِّ حُبٍ تُعَادُ الحَكَايَا

نُعيدُ الحَكَايَا...

ونَصْبُو إلى المُسْتَحيل

الذي لا يَرُوحُ

الذي لا يجيءُ

الذي كشهابٍ

يُغِيرُ الحَنَايَا

ونَلْتَذُّ بالآهِ

نلتاعُ بالشَّوْقِ

نَبْنِي قُصُوراً مِنَ الوَهْمِ فوقَ السَّحابِ

عَلَيْها نُقِيمُ الخَطَايَا

ونقلبُ كُنْهَ الأُمُورِ على ضِفَّةٍ لِلْخَيَالِ المُخَدَّرْ

فَذا الوَهْم يغدو عبيراً وسُكَّرْ

وتَغْدُو الكَمَنْجَاتُ

في الرُّوحِ نايَا...

وإنَّا لَنَغْرَقُ في الحُبِّ غَرْقَا

كَمِثْلِ السّكارى...

كَدُوقٍ قَديمٍ...

سنختارُ موتاً بِصَحْنِ النَّبِيذِ

ونَفْرَحُ أنَّا بذا المَوْتِ عِشْنَا

وأنَّا نَدِينُ لهُ كَالرَّعايَا

وإنَّا الرَّعايا.

سَنَكْذِبُ حَتْماً

ومِنْ فَرْطِ صِدقٍ

نُقَدِّسُ كِذْبَتَنَا مُغرَمِينَ...

بِحُسْنِ النَّوَايَا

ونَصْدُقُ طَبْعاً...

إذا أجهشَ الحُبُّ فينَا

وفُرْنَا بِتَنُّورِهِ كالشَّظايا

الشاعرة الأردنية جمانة الطراونة (الشرق الأوسط)

جمانة الطراونة

الشاعرة الأردنية جمانا الطراونة، تنقلت برشاقة بين بحور القصيدة، وتنوعت مشاربها بين الغزل والحنين، تقول:

عشقتُكَ مرتينِ وما أكتفيتُ

كأنّي مِنْ نهايتِكَ أبتديتُ

لِتُصْبِحَ عالَمي غادرتُ ذاتي

إليكَ وبي على نفسي انطويتُ

«أحبّكَ» لم تَعُدْ تُشفي غليلي

كما كانتْ فعفوكَ إن بكيتُ

أحاولُ بالقصيدةِ أنْ أُوكنّي

فلا يخلوْ من التصريحِ بيتُ

على قلبي استويتَ وأنتَ أهلٌ

لتملِكَهُ فلو أنّي استويتُ

رأيتُكَ قبلَ هذا ملءَ عيني

متى قلْ لي وأين بكَ التقيتُ؟!

تآلفتِ القلوبُ وفزتُ كوني

بنارِ النظرةِ الأولى أكتويتُ

أُقيمُكَ كالصلاةِ فأنتَ فرضٌ

ونافلةٌ وأعني ما نويتُ

بوجهِكَ في المرايا يا ابنَ روحي

إذا طالعتُها دوني أحتفيتُ

يراكَ الناظرون إليّ حتّى

ظننتُ بأنّني فيكَ اختفيتُ

رميتُكَ إذْ رميتُ فدارَ سهمي

عليّ فما رميتُكَ إذْ رميتُ

لأبعدِ نَجْمةٍ سأمدُّ كفي

وأقطِفُها فبالحبِّ ارتقيتُ

ومن عينيكَ أشربُ ألفَ كأسٍ

من الشعرِ الزلالِ وما ارتويتُ

تُؤَرِقُني وموجُ الشوقِ عاتٍ

حبيبي هل بدأتُ أم انتهيتُ ؟!

أُخيفُكَ أم أخافُكَ لستُ أدري

وكيف عليّ مِنْكَ بكَ أحتميتُ؟!

فأنتَ أنا ولستَ هُنا لتأبى

تموتُ معي وتحيا إن حييتُ

الشاعر إياد هاشم يلقي قصيدته خلال الأمسية الثالثة (الشرق الأوسط)

إياد هاشم

الشاعر العراقي، المقيم في النمسا، إياد هاشم، ألقى قصيدتين، خصص الأولى لرثاء الشاعر الراحل عبد العزيز البابطين، جاء فيها:
يا رِمالَ الْكُوَيْتّ
لَوْ يَكِلُّ الْرِّثْاءُ جادَ الْوَفَاءُ
كَيْفَ لِيْ يَوْمَ غابَتِ الْجَوْزاءُ
كَيْفَ ناءَتْ عَنَا صُدُورُ الْقَوافِي
حِينَ حَلَّتْ بِرَحْلِهَا الشُّعَراءُ
كَيْفَ تَأْبَى الأَقْلامُ فِي دَوْحَةِ الْمَجْد،
وَتَأْسى فِي فَقْدِكَ الْعَلْياءُ
مَا تَحَيَّنْتُ فُرْصَةً لِلْمَراثِي
أَوْ دَعَتْنِي لِذِكْرِكَ الأَسْماءُ
بَلْ وَجَدْتُ الأَرْجَاءَ حَزْنِى لِفَقْدٍ
قَبْلَ حُزْنِي وَهَلْ سَيُجْدِي الْبُكَاءُ
يَا بَرِيقَ الْمِدادِ فِي حَضْرَةِ الْكُتْبِ،
تَمَهَّلْ فَلِلْبُدُورِ سَماءُ
حَدَّثَتْنَا الدِّيارُ عَنْ ساكِنِيها
كَصُخُورٍ يَصُفُّهَا الْبَنَّاءُ
كَيْفَ أَبْقَتْ مَعْناكَ فِي كُلِّ رُكْنٍ
فِضْتَ فِيهِ ، كَمَا يَفِيضُ الإِناءُ
ما تَخَبَّتْ بَراعِمُ الشِّعْرِ يَوْمًا
فِي مُحَيَّاكَ أَوْ تَبَدَّى الْحياءُ
أَنْتَ فِي بارِقِ النَّشِيدِ قَصِيدٌ
وَنَشِيدٌ إِذا عَلا الإِقْواءُ
يَا لَيالِيكَ كَمْ تَساهَرْتَ طُرًا
لِتَرَى الْمَجْدَ شادَهُ الأَبْنَاءُ

يَا رِمالَ الْكُوَيْتِ هَذا (أَبُو سعُودُ)
نَزِيلٌ ، وَيُكْرَمُ النُّزَلاءُ

.....

يَا رِمالَ الْكُوَيْتِ هَلْ يُسْرَقُ الْجَفْنُ
فَيَأْتِي مِنْ صَحْوَةٍ إِغْماءُ

بِي مِنَ الشَّعْرِ مَا يَحُثُّ الْقَوافِي

مُذْ أَصابَتْكَ طَعْنَةٌ نَجْلاءُ

مَا تَعَوَّدْتُ أَنْ أَلُومَ ضُلُوعِي
ذاتَ كَسْرٍ لَمَا يَشُحُّ الذَّواءُ

جِنْتُ أَسْعَىٰ فَقَدْرُ يَوْمِكَ قَدْرٌ
لا تُدانِيهِ غايَةٌ وَ عَطاءُ

يَوْمُ ذِكْرِاكَ لَمْ يَعُدْ يَوْمَ ذِكْرِى
رُبَّ مَوْتىٰ لِكِنَّهُمْ أَحْياءُ