بروفايل: أكرم إمام أوغلو... سياسي صاعد يحمل آمال الأتراك بالتغيير

بات أكبر تهديد لنفوذ إردوغان بعد فوزه برئاسة بلدية إسطنبول

بروفايل: أكرم إمام أوغلو... سياسي صاعد يحمل آمال الأتراك بالتغيير
TT

بروفايل: أكرم إمام أوغلو... سياسي صاعد يحمل آمال الأتراك بالتغيير

بروفايل: أكرم إمام أوغلو... سياسي صاعد يحمل آمال الأتراك بالتغيير

يطلق على نفسه لقب «الأمل للباحثين عن أمل». ويعد بـ«ثورة من أجل الديمقراطية»، بعدما انتزع رئاسية بلدية إسطنبول، التي بقيت حكراً على الأحزاب الإسلامية لربع قرن من الزمان، قبل أن تُنتزع منه قبل أيام بقرار من اللجنة العليا للانتخابات.
اللجنة انتزعت المنصب من السياسي الشاب أكرم إمام أوغلو بعد 19 يوماً فقط من فوزه به في واحد من أغرب المشاهد التي عايشتها تركيا في تاريخها الحديث.
غير أن إمام أوغلو لم ييأس... بل أطلق عبارته التي أصبحت مقولة يردّدها الناس في أنحاء كبريات مدن تركيا: «كل شيء سيكون على ما يرام»، متوقعاً أنه سيفوز في جولة الإعادة في 23 يونيو (حزيران) المقبل بالمنصب من جديد «لا لشيء إلا لأن الناس أحبوه»، كما يؤكد.

عرفت تركيا، على مدى تاريخها، ظهور سياسيين من نوعية الزعماء الشباب بعد فترات تعتري فيها البلاد شيخوخة سياسية تدفع الناس إلى الحديث الجادّ عن «الدم الجديد».
هؤلاء الشباب يأتون دائماً لقلب المعايير وتغيير مسار السياسة وثبات الحكم... فيما يشبه العاصفة أو الثورة التي تندلع فجأة.
في الانتخابات المحلية التي شهدتها تركيا يوم 31 مارس (آذار) الماضي لم يكن أكثر المتفائلين في صفوف المعارضة، ولا أكثر المتشائمين في صفوف حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) الحاكم، يتوقع أن يفوز مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول متفوقاً على السياسي المخضرم رئيس الوزراء والبرلمان السابق بن علي يلدريم.
ما كان هذا في الحساب على الرغم من أن استطلاعات الرأي كانت تشير إلى احتمال حدوث ذلك. أما الرئيس رجب طيب إردوغان، لفرط ثقته في حسم الانتخابات لصالح يلدريم، فرفض أن يصدّق استطلاعات الرأي التي اعتبر أنه يجري التلاعب بها، وهو الذي طالما اعتمد عليها، وحزبه، على مدى 17 سنة.

- صعود قوي
لم يتمكن إمام أوغلو من تسلّم منصبه كرئيس لبلدية إسطنبول، رغم إعلان فوزه به، إلا بعد 17 يوماً وإعادة فرز كل الأصوات الباطلة في جميع دوائر إسطنبول (39 دائرة). أيضاً، بعد التدقيق والبحث في مناطق وأحياء بعينها، مثل بويوك تشكمجه ومالتبه، وفي أعقاب فحص الطعون وطلبات الإعادة والتشكيك في نزاهة العملية الانتخابية من جانب حزب العدالة والتنمية الحاكم. بعد كل ذلك، أعلنت لجنة الانتخابات فوز أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية المدينة، في ضربة قوية لإردوغان الذي يولي أهمية خاصة لإسطنبول، أي المدينة - المعقل التي شهدت لمعان نجمه في بداية مشواره السياسي، ومن رئاسة بلديتها انتقل ليصبح رئيساً للوزراء ثم رئيساً للجمهورية. ولكن بعد 19 يوماً فقط، وتحت ضغط حزب إردوغان، قررت لجنة الانتخابات إعادة الاقتراع على منصبه فقط، من دون إعادة الانتخابات في إسطنبول بالكامل.
يُعد أكرم إمام أوغلو من الوجوه الجديدة الصاعدة في عالم السياسة التركية. وينتمي إلى جيل الشباب نسبياً، بعكس قيادة حزب الشعب الجمهوري الذي ينتمي إليه ويتزعّمه كمال كليتشدار أوغلو البالغ من العمر 71 سنة.

- النشأة والبداية السياسة
وُلد إمام أوغلو في مدينة أقشى آباد الصغيرة التي تقع إلى الغرب من مدينة طرابزون، المطلة على البحر الأسود شمال شرقي تركيا، عام 1970. ويتحدر من أسرة محافظة متدينة لها تاريخ طويل في العمل السياسي، فوالده حسن إمام أوغلو هو مؤسس فرع حزب «الوطن الأم»، الذي تزعمه رئيس وزراء تركيا الراحل تورغوت أوزال، في منطقة طرابزون. وبعد إنهاء أكرم دراسته الابتدائية والثانوية في طرابزون، تخرج في كلية إدارة الأعمال بجامعة إسطنبول.
إمام أوغلو اعترف بأنه ينحدر من أسرة محافظة، إلا أنه قال إنه أصبح أكثر تحرراً وتبنى القيم الديمقراطية الاجتماعية إبان مرحلة دراسته الجامعية، مع أنه لم ينخرط في العمل السياسي حتى عام 2008، عندما انضم إلى حزب الشعب الجمهوري.
بعدها بعام فقط، أي عام 2009، انتزع رئاسة بلدية حي بيليكدوزو في الشطر الأوروبي من إسطنبول من حزب العدالة والتنمية. وفي انتخابات عام 2014، سيطر إمام أوغلو وحزبه على البلدية ورئاستها وأقصى حزب العدالة والتنمية تماماً منها. وبفضل هذا الأداء الجيد تنبه حزب الشعب الجمهوري لما أنجزه إمام أوغلو في إدارة حي بيليكدوزو خلال السنوات الخمس الماضية، فرشحه في الانتخابات الأخيرة لرئاسة بلدية إسطنبول التي تضم 8.5 مليون ناخب من بين عدد سكانها البالغ 16 مليون نسمة.

- خطاب حصيف عاقل
خاض إمام أوغلو حملته الانتخابية بحصافة وتعقّل، متفادياً إثارة الانقسام واستفزاز الناخبين. ولجأ إلى خطب ود مختلف قطاعات الناخبين من دون تفرقة على أساس الانتماءين السياسي أو الحزبي. واستعاض عن وسائل الإعلام التقليدية الخاضعة تماماً لسيطرة حزب إردوغان بوسائل التواصل الاجتماعي التي قدمته إلى مختلف شرائح المجتمع، خصوصاً الشباب.
بهدوء تام، توجه أكرم إمام أوغلو إلى الناخبين القاطنين في الأحياء التي تُعد معاقل لحزب العدالة والتنمية، وتجول في شوارعها، وتحدث إلى الناس، في مسعى لكسب ود المواطنين العاديين. في المقابل، كان إردوغان يخوض الحملة الانتخابية شخصياً نيابة عن حزبه، لدرجة أنه ألقى 8 خطابات أمام الناخبين بإسطنبول في آخر يوم من الحملة الانتخابية. وحقاً، أثار هذا التصرف تساؤلات عن السبب الذي يدفع رئيس الجمهورية لخوض حملة الانتخابات المحلية، مع أنها ليست انتخابات مفصلية، ولا هي انتخابات برلمانية أو رئاسية، بينما لا يظهر المرشحون أنفسهم مثل بن علي يلدريم في إسطنبول.
وبعكس خطاب إردوغان، الحماسي والصدامي، اتسم خطاب إمام أوغلو بالهدوء والمنطقية والود، وركّز على احتياجات الناس والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب تركيا ويكتوي بها الشعب التركي، مُبرزاً عجز الحكومة عن التوصّل إلى حلول لها.
وحتى بعد إعلان نتائج الانتخابات، تحدث إمام أوغلو أمام أنصار حزبه في المدينة موجهاً كلامه لأنصار إردوغان، في أعقاب تبيان لجنة الانتخابات تقدمه بفارق بسيط على مرشح إردوغان من «العيار الثقيل» مثل بن علي يلدريم. وقال إن العملية «يجب أن تجري باحترام وتفاهم وبالحوار متبادل، وأدعو رئيسي رجب طيب إردوغان إلى إبداء منتهى الحرص في هذا المجال، وتخفيف التوتر، خدمةً لمصلحة الوطن والمنطقة. وأرجو التوصل إلى حل عادل بأسرع وقت ممكن، وتلافي إلحاق الضرر بسمعة تركيا دولياً».
لقد نجح إمام أوغلو في أن يقدّم وجهاً جديداً للعلمانيين الأتراك، لا يتصادم مع الدين ولا يستغله، أو يوظفه أيضاً لأهداف سياسية، إذ حضر إمام أوغلو صلاة الغائب على أرواح ضحايا هجوم كرايستشيرتش في نيوزيلندا قبل الانتخابات، وقرأ بعض الآيات القرآنية. وكانت هذه لفتة تناقضت مع الصورة النمطية عن حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي، بينما كان إردوغان يستخدم الفيديو الصادم للمذبحة للهجوم على الغرب واتهامه بالعداء للإسلام.

- كسب الناخبين الأكراد
وللمرة الأولى أيضاً، نجح إمام أوغلو من خلال نهجه الهادئ والتصالحي في اجتذاب تأييد الأكراد. ورغم تفادي إردوغان وحزبه، المتحالف مع حزب الحركة القومية التركي اليميني المتشدد، استفزاز الناخبين الأكراد خلال الحمة الانتخابية، فإن هذا التحالف كان كفيلاً بإبعاد أصوات الأكراد عن مرشح العدالة والتنمية وتوجيهها إلى إمام أوغلو بكثافة. وبالنتيجة، امتنع حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد عن تقديم مرشحين له في إسطنبول وأنقرة وغيرها من المدن الكبرى، حيث لا يشكّل الأكراد غالبية السكان، ووجه أصواته فيها إلى مرشحي «تحالف الأمة» المكون من حزبي الشعب الجمهوري والحزب الجيد.

- منافس إردوغان
من جهة ثانية، على الرغم من أن إمام أوغلو لم يكن ينافس في انتخابات برلمانية أو رئاسية فإنه قدم نفسه على الساحة كمنافس مستقبلي للرئيس إردوغان، الذي استهدفته خطاباته، أثناء الجملة الانتخابية وبعد فوزه، من خلال التشكيك في نتائج الانتخابات.
وبالتالي، دفع النجاح الذي حققه إمام أوغلو في إسطنبول على الرغم من الضغوط الشديدة ضده وغياب الدعم الإعلامي، كثيرين من السياسيين والمراقبين إلى النظر إليه كمنافس محتمل يصلح لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة في 2023. بل إن رئيس البرلمان نائب رئيس الوزراء الأسبق بولنت آرينج، أحد القيادات التاريخية لحزب العدالة والتنمية، عبّر عن ذلك بقوله إنه كلما هاجم إردوغان إمام أوغلو، زاد من وزنه السياسي على الساحة... وفتح أمامه الطريق إلى المنافسة على رئاسة الجمهورية بعد أقل من 5 سنوات.
إذن، يظهر الآن على الساحة المنافس الذي يهدد نفوذ إردوغان في المستقبل. وهو يتمتع بحظوظ كبيرة للفوز بنسبة أعلى من المرة الماضية في معركة الإعادة بإسطنبول. وهذا (على الأقل) ما تعكسه أرقام معجبيه على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل «تويتر» و«إنستغرام»، بعدما تخطى عدد متابعيه شخصيات كبيرة من حزب العدالة والتنمية، مثل وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو أو وزير الخزانة والمالية، صهر إردوغان برات البيراق، بل حتى منافسه المخضرم بن علي يلدريم.
أيضاً، أعاد الحضور اللافت لإمام أوغلو صورة الزعيم الكردي صلاح الدين دميرطاش، الذي لمع نجمه على الساحة السياسية عام 2015، وهو في الـ45 من العمر. دميرطاش قاد حزب الشعوب الديمقراطي إلى البرلمان للمرة الأولى التي يدخل فيها حزب كردي إلى البرلمان، ويشكل مجموعة برلمانية بعد تخطي الحاجز النسبي (10 في المائة من أصوات الناخبين الأتراك) في انتخابات 7 يونيو 2015. ولقد أحرج هذا الحزب حزب العدالة والتنمية الحاكم وحرمه للمرة الأولى منذ عام 2002 من الحصول على الغالبية وتشكيل الحكومة منفرداً في الانتخابات المبكرة التي أجريت في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه. يومذاك، لجأ إردوغان لتلك الانتخابات لنفوره من فكرة أن تشهد تركيا حكومة ائتلافية وجد رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو صعوبة في تشكيلها مع أحزاب المعارضة الممثلة في البرلمان. ومن ثم، اختار إردوغان الانتخابات المبكرة بدلاً من تسليم الحكومة إلى حزب الشعب الجمهوري، ثاني أكبر الأحزاب في البرلمان، كما يقضي القانون.

- تكرار الفوز
يرى مراقبون أن معركة الإعادة في إسطنبول بين إمام أوغلو ويلدريم «خطوة غير محسوبة من إردوغان»، الذي بدا همه الوحيد منصرفاً لاستعادة نفوذه على المدينة التي تشكل القلب النابض اقتصادياً وثقافياً في تركيا، دون حساب لنتائج هذه الخطوة على صورة البلاد في الخارج.
فضلاً عن ذلك، فإن الحزب الحاكم تخلى عن ميثاق غير مكتوب بين الدولة ومواطنيها يقوم على احترام نتائج صناديق الاقتراع من الجانبين. ولذا يُخشى أن يكون التحايل الذي تعرّض له إمام أوغلو لنزع مقعد رئاسة البلدية منه مؤشراً على نهاية العملية الانتخابية الشفافة والنزيهة في تركيا.
اليوم يدرك إمام أوغلو حقيقة توق الشارع التركي إلى التغيير، والحديث المتصاعد عن الحاجة إلى دم جديد. ولذا كان خطابه الأول بعد قرار اللجنة العليا للانتخابات يوم الاثنين الماضي، الذي ألقاه في تجمع جماهيري مساء اليوم ذاته، موحياً بذلك؛ إذ قال مخاطباً الجماهير ومواطني إسطنبول: «تريدون الأمل...؟ الأمل هنا»، وأشار إلى نفسه.
ثم تعهد بأن «كل شيء سيكون على ما يرام»... وهي الجملة التي تحولت إلى «التريند» الأعلى تداولاً في تركيا، حتى الآن وأصبحت تتردد على الألسن في إسطنبول ومختلف أنحاء تركيا، في ظل استياء واسع من الضغوط التي مارسها حزب إردوغان لإزاحة إمام أوغلو من منصبه، بعد أن قال الناخبون كلمتهم واختاروه.
وفي لقاء مع قناة «فوكس التركية»، في اليوم التالي لقرار اللجنة، بدا إمام أوغلو واثقاً من تحقيق فوز أعرض في الإعادة، إذ قال: «لقد شككوا بفوزي في الانتخابات وقرروا الإعادة. ومع أن أظرف التصويت تحتوي 4 بطاقات انتخابية لرؤساء البلديات والأقضية والمخاتير وأعضاء مجالس البلديات... فإنهم شككوا فقط في نتيجة بطاقة واحدة هي بطاقة رئيس البلدية... لكنني واثق من الفوز. أقول هذا لأنني أدرك أن الناس تحبني. نعم لقد أحبني الناس في إسطنبول؛ الشباب والسيدات الكبار... فوزنا كان حلالاً، لكنهم بذلوا كل ما في وسعهم ليسرقوه في أول أيام رمضان».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.