«أهل الشام» منهكون ويستقبلون رمضان بإمكانات متواضعة

بائع خضراوات في سوق الميدان في دمشق أمس (إ.ب.أ)
بائع خضراوات في سوق الميدان في دمشق أمس (إ.ب.أ)
TT

«أهل الشام» منهكون ويستقبلون رمضان بإمكانات متواضعة

بائع خضراوات في سوق الميدان في دمشق أمس (إ.ب.أ)
بائع خضراوات في سوق الميدان في دمشق أمس (إ.ب.أ)

رغم الاستعدادات اللافتة في أسواق العاصمة السورية التي سبقت قدوم شهر رمضان المبارك والازدحام الذي شهدته، فإن العنوان الأبرز فيها هو تراجع القوة الشرائية بشكل كبير للمواطنين الذين أنهكتهم الحرب وضيقت سبل عيشهم وغيبت عادات وطقوساً كانوا يمارسونها لاستقبال الشهر الفضيل.
في سوق «باب سريجة» وسط دمشق، كان الشاب محمد، ليلة الإعلان عن قدوم الشهر الفضيل، يقف أمام محل لبيع المواد الغذائية يعمل فيه، ويطلق بشكل لبق دعوات للمارة الذين غصت بهم السوق بهدف جذبهم وإطلاعهم على تشكيلة المواد الواسعة في داخل المحل، ومن ثم إقناعهم بالشراء منها، لكن بدا واضحاً أن من يستجيبون عددهم قليل؛ ما أثار الضجر في داخله ودفعه إلى التوقف عن إطلاق دعواته والجلوس على كرسي وضع إلى جانب باب المحل.
وبعد أن يوضح الشباب، أنه يعمل في هذه السوق منذ أكثر من ثلاث سنوات، يؤكد لـ«الشرق الأوسط» أنه «لم يمر عليّ أسوأ من هذا الإقبال على الشراء. الوضع سيئ كتير وأصحاب المحال كانوا يتوقعون تراجع القوة الشرائية للناس، لكن ليس إلى هذا الحد. لقد صدموا بالأمر والبعض غادر المحل وترك العمال فقط».
واعتادت غالبية «أهل الشام» في سنوات ما قبل الحرب المستمرة منذ أكثر من ثماني سنوات، على التحضير لاستقبال رمضان قبل نحو أسبوع من قدومه، عبر تسوق كميات كبيرة من المواد الغذائية والخضراوات والعصائر من أسواق كثيرة في دمشق كان يحرص أصحاب محالها على عرض بضائعهم فيها وعلى واجهاتها في شكل مكثف وطريقة مميزة لجذب متسوقين تكتظ بهم تلك الأسواق في شكل لافت إلى درجة إيقاف حركة المركبات الآلية.
لكن خلال سنوات الحرب، تضاعفت الأسعار في عموم المناطق السورية أكثر من 12 مرة، بعد تراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار الأميركي إلى نحو 12 ضعفاً أيضاً مع بقاء مرتبات الموظفين على حالها التي كانت عليها قبل عام 2011 (الراتب الشهري لموظف الدرجة الأولى 40 ألف ليرة)؛ الأمر الذي ضيّق سبل العيش على الغالبية العظمى من الناس، وبات 87 في المائة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، بحسب أرقام البنك الدولي.
وما زاد أكثر من معاناة الناس المعيشية خلال شهر رمضان الحالي هو أزمة توفر مواد الطاقة (بنزين، مازوت، غاز منزلي) الخانقة التي عصفت بمناطق سيطرة الحكومة، وحصول تراجع جديد في سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، ووصوله إلى نحو 575 ليرة، بعد أن كان يتراوح ما بين 530 و540 قبل هذه الأزمة؛ مما تسبب في تحليق جديد بالأسعار التي تضاعفت مرتين أو ثلاث مرات عما كانت عليه قبل أشهر عدة، علماً بأن سعر صرف الدولار أمام الليرة قبل الحرب كان نحو 50 ليرة.
يصل سعر كيلوغرام البطاطا إلى 400 ليرة، والبندورة 500، والباذنجان 400، والفاصولياء الخضراء 500، والفول الأخضر البلدي 250 ليرة، والبازلاء 600، بينما يبلغ سعر كيلوغرام الفريز ما بين 500 و700، والتفاح ما بين 300 و500، والبرتقال نحو 200 ليرة.
وبينما اختفت بعض المواد الغذائية من الأسواق وبات وجودها نادراً مثل المعكرونة، وقفز سعر الكيلو غرام الواحد منها إلى 800 ليرة بعد أن كان بـ400، شهدت أسعار اللحوم تحليقاً جديداً، حيث ارتفع سعر كيلوغرام لحم «العواس» (الغنم) إلى نحو 8 آلاف ليرة، بعد أن كان نحو 7 آلاف.
ومع الإعلان عن أن يوم الاثنين هو أول أيام شهر رمضان، لوحظ إيقاف حركة المركبات الآلية القادمة إلى سوق حي الميدان الدمشقي الشهير الواقع جنوب العاصمة، ذلك أنه وبمجرد دخول المرء إلى السوق من مدخلها الشمالية يواجه سيلاً بشرياً تتزاحم أقدامه على الأرصفة لإيجاد مكان لها وتتقدم ببطء كالسلحفاة.
«أبو زياد» كان مع زوجته وأطفاله الثلاثة من ضمن المارة في سوق الميدان، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «خرجنا للترويح عن النفس، الأولاد اختنقوا في البيت. لم نخرج أبدأ لشراء حاجيات، لأنه لا توجد لدينا نقود سوى ما يمكننا من طبق فول أو شوربة أو فتة في اليوم»، ويضيف: «زمان أول تحول... وسفر (موائد) رمضان القديمة لا أعتقد أنها ستعود. لمة الناس على بعضها ومحبتهم لبعضهم أيضاً لا أظن أنها ستعود. اليوم أفراد عائلة واحدة كل واحد منهم يعيش في بلد»، ويتابع أبو زياد بحسرة ظهرت واضحة خلال حديثه «يبدو أننا مجبرون على أن نعوّد أنفسنا على الوضع الجديد وننسى الماضي».
من جانبها، «أم ياسين» وهي أم لطفلين وتعمل مدرسة بمرتب شهري لا يتجاوز 40 ألف ليرة، بينما رأت زوجها الذي يعمل في مصرف خاص نحو 60 ألف ليرة، تؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن العائلة المؤلفة من 5 أشخاص في الأشهر العادية تحتاج إلى ما بين 250 و300 ألف، فكيف في رمضان الذي يحتاج إلى مصاريف ثلاثة أو أربعة أشهر»، وتضيف: السؤال الذي يطرح نفسه كيف الناس عايشة... أكيد عايشة على الله. بقدرة قادر».
وفي مؤشر على حالة الفقر التي وصل إليها الغالبية من الناس، أطلق نشطاء حملة «سامحوا المستأجر» في شهر رمضان، ولاقت انتشاراً واسعاً على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. ونقل موقع «هاشتاغ سيريا» عن أحد المشاركين بالحملة قوله: إن الحملة تقوم على مبدأ أن يسامح كل صاحب منزل الشخص المستأجر لديه من دفع إيجار الشهر المقبل نظراً لغلاء الأسعار وكثرة متطلبات شهر رمضان.
وشهر رمضان الحالي يعد التاسع من نوعه الذي يمر على السوريين في ظل الحرب التي تشهدها البلاد، وقد غيبت أحداثها ومنعكساتها في شكل شبه كامل، عادات وطقوساً كان الدمشقيون يمارسونها لاستقبال الشهر الفضيل، وهم توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، ولطالما تفاخروا بها خلال قرون ماضية.



ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
TT

ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)

احتفل سكان دمشق بسقوط نظام بشار الأسد بعد حرب وحشية استمرت 13 عاماً، لكن أصحاب أماكن السهر في المدينة اعتراهم القلق وهم يعيدون فتح أبواب حاناتهم وملاهيهم.

فقد قادت «هيئة تحرير الشام» فصائل المعارضة التي أطاحت بنظام الأسد، وكانت هناك خشية لدى بعض الناس من أن تمنع الهيئة شرب الكحول.

ظلت حانات دمشق ومحلات بيع الخمور فيها مغلقة لأربعة أيام بعد دخول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» المدينة، دون فرضهم أي إجراءات صارمة، والآن أعيد فتح هذه الأماكن مؤقتاً.

ما يريده صافي، صاحب «بابا بار» في أزقة المدينة القديمة، من الجميع أن يهدأوا ويستمتعوا بموسم عيد الميلاد الذي يشهد إقبالاً عادة.

مخاوف بسبب وسائل التواصل

وفي حديث مع «وكالة الصحافة الفرنسية» في حانته، اشتكى صافي، الذي لم يذكر اسم عائلته حتى لا يكشف عن انتمائه الطائفي، من حالة الذعر التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي.

فبعدما انتشرت شائعات أن المسلحين المسيطرين على الحي يعتزمون شن حملة على الحانات، توجه إلى مركز الشرطة الذي بات في أيدي الفصائل في ساحة باب توما.

وقال صافي بينما كان يقف وخلفه زجاجات الخمور: «أخبرتهم أنني أملك حانة وأود أن أقيم حفلاً أقدم فيه مشروبات كحولية».

وأضاف أنهم أجابوه: «افتحوا المكان، لا مشكلة. لديكم الحق أن تعملوا وتعيشوا حياتكم الطبيعية كما كانت من قبل»، فيما كانت الموسيقى تصدح في المكان.

ولم تصدر الحكومة، التي تقودها «هيئة تحرير الشام» أي بيان رسمي بشأن الكحول، وقد أغلق العديد من الأشخاص حاناتهم ومطاعمهم بعد سقوط العاصمة.

لكن الحكومة الجديدة أكدت أيضاً أنها إدارة مؤقتة وستكون متسامحة مع كل الفئات الاجتماعية والدينية في سوريا.

وقال مصدر في «هيئة تحرير الشام»، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، طلب عدم كشف هويته، إن «الحديث عن منع الكحول غير صحيح». وبعد الإلحاح عليه بالسؤال شعر بالغضب، مشدداً على أن الحكومة لديها «قضايا أكبر للتعامل معها».

وأعيد فتح «بابا بار» وعدد قليل من الحانات القريبة، لكن العمل محدود ويأمل صافي من الحكومة أن تطمئنهم ببيان يكون أكثر وضوحاً وقوة إلى أنهم آمنون.

في ليلة إعادة الافتتاح، أقام حفلة حتى وقت متأخر حضرها نحو 20 شخصاً، ولكن في الليلة الثانية كانت الأمور أكثر هدوءاً.

وقال إن «الأشخاص الذين حضروا كانوا في حالة من الخوف، كانوا يسهرون لكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا سعداء».

وأضاف: «ولكن إذا كانت هناك تطمينات (...) ستجد الجميع قد فتحوا ويقيمون حفلات والناس مسرورون، لأننا الآن في شهر عيد الميلاد، شهر الاحتفالات».

وفي سوريا أقلية مسيحية كبيرة تحتفل بعيد الميلاد، مع تعليق الزينات في دمشق.

في مطعم العلية القريب، كان أحد المغنين يقدم عرضاً بينما يستمتع الحاضرون بأطباق من المقبلات والعرق والبيرة.

لم تكن القاعة ممتلئة، لكن الدكتور محسن أحمد، صاحب الشخصية المرحة والأنيقة، كان مصمماً على قضاء وقت ممتع.

وقال لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «كنا نتوقع فوضى عارمة في الموقف»، فيما كانت الأضواء تنعكس على ديكورات المطعم، مضيفاً: «لكننا عدنا سريعاً إلى حياتنا، حياتنا الليلية، وحقوقنا».

حفلة مع مغنٍ

وقال مدير المطعم يزن شلش إن مقاتلي «هيئة تحرير الشام» حضروا في ليلة إعادة الافتتاح ولم يغلقوا المكان.

وأضاف: «بدأنا العمل أمس. كانت الأمور جيدة جداً. كانت هناك حفلة مع مغنٍ. بدأ الناس بالتوافد، وفي وسط الحفلة حضر عناصر من (هيئة تحرير الشام)»، وأشار إلى أنهم «دخلوا بكل أدب واحترام وتركوا أسلحتهم في الخارج».

وبدلاً من مداهمة المكان، كانت عناصر الهيئة حريصين على طمأنة الجميع أن العمل يمكن أن يستمر.

وتابع: «قالوا للناس: لم نأتِ إلى هنا لنخيف أو نرهب أحداً. جئنا إلى هنا للعيش معاً في سوريا بسلام وحرية كنا ننتظرهما منذ فترة طويلة».

وتابع شلش: «عاملونا بشكل حسن البارحة، نحن حالياً مرتاحون مبدئياً لكنني أخشى أن يكون هذا الأمر آنياً ولا يستمر».

ستمارس الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا بقيادة «هيئة تحرير الشام» عملها حتى الأول من مارس (آذار). بعد ذلك، لا يعرف أصحاب الحانات ماذا يتوقعون.