رياح التغيير تهب على «شانيل»

من المستحيل ألا يكون اسم «شانيل» على البال في موسم عروض الـ«كروز» الذي تشهده الكثير من الوجهات العالمية. الأسباب كثيرة، منها أن «شانيل» هي التي بدأت هذا التقليد من الأساس، وكانت سباقة بأخذنا إلى أماكن بعيدة نعيش فيها الحلم بكل حذافيره. وحتى في الحالات التي تختار فيها البقاء في باريس، فإنها تخلق أجواء سفر تنقلنا إلى اليونان أو إلى سانت تروبيه وما شابه من وجهات. وليس أدل على هذا من يخت «لابوزا» الذي أرسته في «لوغران باليه» في العام الماضي. من هذه الأسباب أيضا، وربما كان هذا هو الذي ألح على البال أكثر هذا الأسبوع، أنها أول تشكيلة تصممها فيرجيني فيار، بالكامل من دون إشراف كارل لاغرفيلد بعد أن غيبه الموت. ومع أنها كانت يده اليمنى لـ30 عاما، ما يجعلها تفهم رموز الدار مثله، وأكثر من له القدرة على المحافظة على هذه الرموز ومن تم الدفع بالدار إلى الأمام، كان هناك إحساس بالترقب. هل ستبقى تحت عباءة لاغرفيلد أم أنها ستخرج عنه؟ وكيف ستقود دفة التغيير؟ هذه وأسئلة كثيرة أخرى كانت تُلح على متابعي الموضة.
فالكل يعرف أن كارل لاغرفيد كان قوة لا يستهان بها، بل كان فلتة لم يجُد التاريخ بمثلها بعد. استطاع أن يُنعش دارا كان مصيرها النسيان عندما تسلم مقاليدها، بأن منحها قُبلة الحياة لتُصبح من أهم بيوت الأزياء في العالم. طوال مسيرته فيها، كان يؤمن بأهمية السفر والحركة، حيث كان يقول دائما إنه «علينا أن نتحرك، نسافر وأن نفاجئ»، وفي عهده بدأ تقليد عروض الـ«كروز» إلى وجهات بعيدة مثل كوبا وشانغهاي واليابان وغيرها. وحتى في الحالات التي لم يكن قادرا فيها على السفر بعيدا، لم يتخل عن عُنصر المفاجأة. في كل موسم كان يحملنا في الخيال إلى وجهات قد لا نحلم بزيارتها، وليس أدل على هذا عندما نصب في «لوغران باليه» صاروخا أو يختا ضخما.
يوم الجمعة الماضي، كان الجواب الذي قدمته فيرجيني فيار أنها المعادلة الصعبة، بأن حافظت على رموز الدار وإرث كارل لاغرفيلد من جهة، من دون أن تنسى التعبير عن جانب أنثوي خفيف كان مدفونا في عهد سلفها من جهة ثانية. هذه الأنوثة الناعمة غلبت على الخطوط المستقيمة والتفاصيل الهندسية التي كانت تطبع تصاميم الدار في السابق. فلاغرفيلد كان يترجم وجهة نظر غابرييل شانيل فيما يتعلق بمزجها الذكوري بالأنثوي، بأسلوبه. هذا لا يعني أن فيرجيني خرجت عن النص تماما، بل يعني فقط أنها ضخت في هذه التشكيلة جرعة أنثوية أقوى من المعتاد. الجميل في هذه الأنوثة أنها لا تعتمد على الإثارة بقدر ما تعتمد على الخفة وهو ما تجلى في الأكتاف الناعمة والصدور التي تزينت في بعض الإطلالات بفيونكات ضخمة، كما في الأقمشة التي لم تكن مبطنة الأمر الذي زادها خفة وحركة. لحد الآن أكدت المصممة الجديدة أنها لا تغازل الأضواء، بحيث لم تُعط أي مقابلة صحافية بعد، إلا أن عرضها يوم الجمعة الماضي أكد أنها امرأة قوية لها رؤية واضحة. كان من الممكن أن تلعب على مفهوم الإبهار وتسبح مع التيار، لكنها ارتأت العكس. عادت بنا إلى زمن كانت فيه الأزياء هي البطل الذي لا يحتاج إلى الكثير من البهارات. تشعر بأنها عادت إلى رموز غابرييل شانيل أكثر من رموز كارل لاغرفيلد الذي عملت معه لـ30 عاما وتربطها بها علاقة وطيدة مبنية على الاحترام. تجلى هذا في طول التنورات التي تلامس الركبة، كما في جاكيتات التويد وقطع أخرى غلبت عليها نكهة «فينتاج» لذيذة. فما تعرفه فيرجيني أنها لا يمكن أن تستكين لأمجاد الماضي مهما كانت الدار تحقق من أرباح. فرياح التغيير تعصف بالعالم من كل الجهات، وعشاق الموضة يريدون منتجات جديدة ومبتكرة في كل موسم.
برونو بافلوفسكي، الرئيس التنفيذي للدار وصف أسلوبها قائلا إنه «نفسه لكن مختلف»، مضيفا أن الأمر طبيعي لأنها كانت يد كارل اليمنى، وبالتالي تعرف كل صغيرة وكبيرة عن الدار. وهذا وحده يجعلها أفضل خلف له لضمان استمرارية دار تحقق الكثير من النجاح. لكن التغيير لا بد منه إن عاجلا أم آجلا.
قد يبقى شبح الراحل كارل لاغرفيلد يحوم لفترة كما سيبقى اسمه لصيقا باسم «شانيل» في المستقبل القريب، وهو ما قد يؤدي إلى عقد مقارنات بينه وبين كل من يخلفه إلا أن الموضة تقوم على التغيير والولاءات تبقى فقط للإبداع. مما ذُكر هذا الأسبوع أن التشكيلة التي قدمتها فيرجيني فيار، من الأزياء إلى الإكسسوارات من بنات أفكارها، لكن الديكور كان فكرة المصمم الراحل قبل أن يُغيبه الموت. كان يريد أن يأخذ الحضور على متن القطار إلى وجهات كانت الآنسة شانيل تعشقها وتستلهم منها، مثل سانت تروبيه، البندقية، روما وإسطنبول وغيرها. وفاء له، بُنيت محطة قطار من الحقبة الجميلة «لابيل إيبوك». اللافت فيها أنها لا تُعطيك الانطباع بأنه رسم كل تفاصيلها. فأول ما تدخل «لوغران باليه» ولأول مرة، لا ينتابك ذلك الإحساس بالإبهار والانبهار، الذي يجعلك تريد التقاط صور مثيرة تنشرها على الإنستغرام كما جرت العادة في عروض الدار السابقة، رغم أن كل التفاصيل كانت موجودة، من السكك الحديدية التي تخترق الجنبات، والكراسي الخشبية الطويلة المترامية على طوله إلى الأرضية الإسمنتية والأفيشات. مجازيا كانت المحطة ترمز إلى التغيير والرغبة في الجديد. أما حرفيا، فهي مجرد وسيلة وظيفية تأخذنا من نقطة إلى أخرى. ويبدو أن دار «شانيل» اعتمدتها مجازيا وحرفيا على حد سواء لتعبر عن توقها إلى التغيير وخلق عنصر المفاجأة كما إلى حاجتها إلى خلفية تؤدي مهمة وظيفية.
بدا المكان لأول مرة واسعا أكثر من ذي قبل، ورغم هذه المساحة الشاسعة، اضطرت الدار إلى تنظيم عرضين في نفس اليوم لكي تستوعب كل ضيوفها. الأول كان على الساعة الـ9 صباحا بعد وجبة إفطار في مطعم مُرتجل في «المحطة» أطلقت عليها «ريفاج» صممته على شكل قطار الشرق الأوسط السريع بكل فخامته، والعرض الثاني كان على الساعة الـ12. أتبعته بوجبة غذاء في المطعم نفسه.
في كلا العرضين، تهادت 80 عارضة بعد إطلاق صفارة الانطلاق على الأرضية الإسمنتية، ومع كل إطلالة كانت الصورة تتوضح بالتدريج، ومعها تنفرج الأسارير وتتعالى شهقات الإعجاب. إذا كانت فكرة فيرجيني أن ينصب كل الانتباه على الأزياء والإكسسوارات، أولا وأخيرا، فقد حققت هدفها.
محطات زمنية كثيرة توقف عندها قطار «شانيل» عبر تصاميم تستحضر الحقب الزمنية المختلفة بما فيها العصر الفكتوري الذي جسدته قمصان بيضاء بفيونكات كبيرة، أو حقبة الثلاثينات من خلال تايورات بتنورات وما شابه. كان هناك أيضا كم من الفساتين المصنوعة من الموسلين، منسدلة برومانسية تارة ومزينة بطبقات من الكشاكش بوهيمية تارة أخرى، تتراقص كلها على ألوان تتباين بين درجات الباستيل أو الدرجات المتوهجة مثل الفوشيا من دون تغييب للون الأسود. الجاكيتات جاءت مفصلة، وأحيانا من التويد، بينما جاءت التنورات بطول يغطي الركبة كما رسمتها غابرييل شانيل تماما في الثلاثينات من القرن الماضي. كانت هناك أيضا بنطلونات ضيقة وأخرى واسعة وقطع «جامبسوت» من الجلد تشير إلى أن النية كانت تقديم خيارات لكل الأذواق. لكن لا بأس من الإشارة إلى أنه ضمن هذا التنوع الكبير كان هناك قاسم مشترك ألا وهو الراحة، حتى فيما يتعلق بالجاكيتات المفصلة التي أوحت أكتافها وخصورها وجيوبها بالانطلاق والحركة.
ولم تستثن المصممة الإكسسوارات من هذا التنوع. فقد جاءت تنافس الأزياء بتصاميم يسيل لها اللعاب سواء تعلق الأمر بالأحزمة أو دبابيس الشعر أو الأحذية والحقائب. هذه الأخيرة تحديدا تميزت بجيوب متعددة على شكل حقائب صغيرة متراصة فوق بعض لتزيد من تسارع دقات القلب، وحتما ستزيد حركة البيع. هذه الاستراتيجية تذكرنا نوعا ما بمصمم شاب اسمه أليساندرو ميكيلي، كان جنديا مجهولا عندما تسلم مقاليد «غوتشي»، وبين ليلة وضحاها غير كل حسابات الدار الفنية والتجارية، بخلقه ما أصبح يعرف بأسلوب «الماكسيماليزم». فيرجيني في المقابل، قد تحقق نفس التأثير، إلا أنها تختلف عنه تماما، كونها تتمتع بحس امرأة وتعمل في دار أسستها امرأة تعرف بحسها الأنثوي ما تريده بنات جنسها، بغض النظر عن أعمارهن وثقافتهن. لا تشعر بأن أي شيء في هذه التشكيلة مبالغ فيه، بما في ذلك الإكسسوارات المشبعة باللوغوهات واسم الدار. كان من الممكن أن تبدو دخيلة على الإطلالة ومبالغ فيها، لكنها بدت في مكانها الطبيعي على الشعر أو على الأذن أو المعصم أو الخصر. بلعبها على السهل الممتنع وعلى الترف الديمقراطي، قدمت فيرجيني تشكيلة مُفعمة بترف متاح للكل.
لكنها لم تنس الرجل الذي عملت معه منذ عام 1987 فقد قدمت له تحية من خلال إطلالات مفصلة بالمسطرة في آخر العرض، كما من خلال فستان أسود ظهر في آخر العرض، تزينه ياقة بيضاء عالية جدا، مثل تلك التي كان يلبسها دائما، وأصبحت لصيقة بصورته. كان هناك شعور غامر يشير إلى أن شبح كارل لم يفارق الدار تماما رغم أن رياح التغيير جارية تدفعها باتجاه جديد.