أعاد إعلان «الجمهورية الإسلامية» تجميدها التزامات بعينها فيما يطلق عليه «الاتفاق النووي»، القضية برمتها إلى عناوين الأخبار. إلا أن التساؤل يبقى: ما الذي تعنيه الخطوة الإيرانية على أرض الواقع؟ وما التأثير المحتمل لها على ما يبدو أنه توتر متصاعد مع الولايات المتحدة؟
يتعلق قرار التجميد الذي أعلنه الرئيس حسن روحاني بالأيام الـ60 التي من المفترض أن ينفذ الثلاثي الأوروبي المشارك في اتفاق مجموعة «5+1» خلالها وعوده غير المحددة لـ«الجمهورية الإسلامية».
ولم يجر اختيار فترة الـ60 يوماً عشوائياً، وإنما تغطي الفترة الممتدة حتى 3 أغسطس (آب)، حيث من المقرر أن تنعقد قمة «مجموعة الـ7» في فرنسا، والتي على رأس القضايا التي ستناقشها «كيفية التعامل مع إيران».
في الوقت الحالي، يبدو أن بريطانيا وفرنسا وألمانيا تميل باتجاه الموقف الأميركي تجاه إيران، والساعي لتوسيع نطاق أي تعاون مستقبلي مع إيران، ليشمل البرنامج الصاروخي لطهران، ومشاركتها في صراعات إقليمية، ودعمها المزعوم لتنظيمات إرهابية.
وعليه، تأمل إيران في أن يصبح أقل ما يمكنها إنجازه، إقناع - إن لم يكن تهديد - الأوروبيين بالامتناع عن دعم الموقف الأميركي على نحو كامل.
ومن شأن ذلك، منح إيران فرصة خروج قمة مجموعة الـ7 القادمة بالنتيجة التي تأملها. في الواقع، أقل مؤشر على تردد أوروبا إزاء إقرار أجندة ترمب، من الممكن تفسيره كانتصار لـ«الجمهورية الإسلامية»، وبالتالي كمبرر لقرار عدم التخلي عن «الاتفاق النووي».
أيضاً، ترمي الخطوة التي اتخذتها إيران لتحقيق ما يطلق عليه الدبلوماسيون «تزيين الفراغ»، بمعنى فعل شيء لإظهار أنك لا تزال تملك زمام المبادرة، في وقت لا يكون هذا صحيحاً في الواقع. ويعد هذا أمراً مهماً فيما يتعلق بالصعيد السياسي الإيراني الداخلي، ذلك أن خصوم روحاني داخل العصبة الحاكمة يدعون علانية لعزله، على أساس افتقاره للكفاءة في التعامل مع الأزمة الراهنة.
بجانب ذلك، تسهم هذه الخطوة في تخليص «المرشد الأعلى» علي خامنئي من المأزق الذي يعايشه اليوم، فقد توعد بحرق «الاتفاق النووي» إذا انسحبت الولايات المتحدة منه. وبعد عام، لم يحدث أي حرق ولم نر أي دخان. ومن الممكن أن تثير مغامرة «التجميد» الانطباع بأن خامنئي لم يحنث في تعهده.
من ناحية أخرى، ربما تسعد الولايات المتحدة والثلاثي الأوروبي بالخطوة الإيرانية؛ لأنها تبقي على المهمة المحورية لـ«خطة العمل الشاملة المشتركة»، وهي تجميد المشروع النووي الإيراني لما تحت ما يطلق عليه «عتبة» التحول إلى التسليح.
على جانب آخر، فإن قرارات التجميد الثلاثة المعلنة، لا تحمل معنى حقيقياً من الناحية العملية.
يتعلق القرار الأول بتجميد جهود التخلص من مخزونات طهران من الماء الثقيل (البلوتونيوم). جدير بالذكر أن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، تعهد بالمعاونة في تسويق هذا المخزون، ودخلت شركة «ويستنغهاوس» الأميركية في محادثات مبدئية لشرائه؛ لكن الكونغرس قطع الطريق عليه، قبل دخول ترمب البيت الأبيض. الحقيقة أن لا أحد يرغب حقاً في مخزونات الماء الثقيل الإيرانية بأي سعر، خصوصاً أن بناء مفاعلات للطاقة النووية تعتمد على البلوتونيوم أصبح أمراً ولّى عهده وانقضى.
أما قرار التعليق الثاني، فيرتبط بمخزونات إيران من اليورانيوم المخصب، والتي تقدر بنحو ألفي كيلوغرام، وذلك للالتزام بالحد المسموح به من جانب «خطة العمل الشاملة المشتركة» والبالغ 300 كيلوغرام.
في البداية، كان من المفترض أن روسيا ستشتري الجزء الأكبر من هذا المخزون. ومع ذلك، ذكرت مصادر إيرانية أن موسكو لم تشتر أكثر من الثلث، وأبدت ترددها منذ ذلك الحين إزاء شراء المزيد.
الحقيقة أن السوق العالمية لليورانيوم المخصب في أسوأ فتراتها. على سبيل المثال، تملك بريطانيا أكثر من 10 آلاف كيلوغرام مخزنة في كامبريا، وعاجزة حتى اليوم عن إيجاد مشتر لها. وعليه، فإن قرار «التجميد» الذي أعلنته طهران يأتي بمثابة اعتراف وتحصيل حاصل لواقع السوق. ويأتي قرار «التجميد» الثالث ليرفع الحظر عن تخصيب إيران لليورانيوم، لما وراء الـ3.67 درجة المسموح بها من جانب «خطة العمل الشاملة المشتركة». ورغم ذلك، يخلو هذا القرار هو الآخر من أي معنى حقيقي؛ لأن إيران لا تحصد أي مكاسب من تخصيب يورانيوم لا يمكنها استخدامه في أي غرض، سواء كان مدنياً أو عسكرياً.
جدير بالذكر، أن صنع رأس حربي يحتاج إلى يورانيوم مخصب لما يتجاوز 90 في المائة، الأمر الذي يعني تمزيق «خطة العمل الشاملة المشتركة» إرباً. أما اليورانيوم المخصب بمستويات أقل، فتحتاجه إيران من أجل محطة الطاقة النووية الوحيدة لديها في هليه، وقد ضمنت الحصول عليه بالفعل على امتداد الأعوام الـ38 القادمة، من جانب مقاولين روس، وهي فترة حياة المفاعل.
علاوة على ذلك، فإن اليورانيوم المخصب الإيراني، لا يمكن استخدامه في هذا المفاعل، كما أن اليورانيوم المخصب اللازم لمفاعل أمير آباد المدني بطهران، توفره بصورة روتينية الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ومع ذلك، تسهم الخطوة الإيرانية الأخيرة في حفظ ماء وجه قيادات البلاد، وشراء بعض الوقت لمحاولة تسوية الخلافات القائمة في صفوفها، حول الاستراتيجية الواجب اتباعها على هذا الصعيد.
من ناحية أخرى، يأمل الفريق الساعي نحو التعاون، ويقوده الرئيس حسن روحاني، في أن يصدر الأوروبيون أي إشارة، أو ربما إدارة ترمب، وهو أمر أقل احتمالاً بكثير، لتجنب تعرض الجانب الإيراني لمذلة كاملة. وتقوم استراتيجيتهم على ممارسة مناورات دبلوماسية حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، على أمل انتخاب رئيس من الحزب الديمقراطي صديق، يعيد إحياء سياسة التعاون التي انتهجها أوباما تجاه «الجمهورية الإسلامية».
ومع إقدام طهران على خطوتها الأخيرة، يتنفس الأوروبيون الصعداء، فلا يزال المشروع النووي الإيراني مجمداً، ما يمنح الدول الأوروبية الثلاث وقتاً لتحديد كيفية تجنب الانحياز إلى صف بعينه، في خضم التوتر المتفاقم بين طهران وواشنطن.
بعد خطوة طهران... أوروبا تتنفس الصعداء
بعد خطوة طهران... أوروبا تتنفس الصعداء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة