ليست اليابان سهلة المنال على من يقاربها، ويرغب في سبر أغوار حضارتها وثقافتها، والتكيّف مع عاداتها وتقاليدها. لكن اليابانيين عموماً لا يألون جهداً في مساعدة الغريب بلغتهم، ويحيطونه بتهذيبهم الأسطوري الذي أصبح مضرب مثل وعلامة فارقة في شخصيتهم وسلوكهم.
وإذا كانت طوكيو، أكبر عواصم العالم بغاباتها الإسمنتية التي يحمل كثير من مبانيها تواقيع مشاهير الهندسة المعمارية، هي رمز الحداثة والإدارة المدنية في أتقن تجلياتها وأرفع أدائها، فإن كيوتو التي كانت عاصمة الإمبراطورية اليابانية على مدى 1100 عام، وما تزال عاصمة فنون العيش الياباني، هي مهد التقاليد وموئل الطقوس العريقة التي تطالعك حيثما تجوّلت في شوارعها وتنقّلت بين معابدها وحدائقها.
ساعة ودقائق معدودات تستغرق الرحلة بالقطار السريع إلى كيوتو من أوساكا التي بنت مطارها الحديث فوق أرض ردمت في البحر، أو تسع ساعات من طوكيو لمن يعشق السفر بالقطارات التي بلغت في هذه البلاد أرقى درجات الراحة والتطور. وبمجرّد مغادرة محطة القطار المحاذية لمجرى نهر «كامو» الهادئ الذي يعبر المدينة متهادياً بين أحيائها التقليدية الجميلة، تطالعك المعابد الشهيرة التي طالما شاهدت صورها في الإعلانات السياحية والأفلام السينمائية، أو تلك التي دارت فيها أحداث تاريخية وروائية، كمعبد «كينكاكوجي» الذي شهدت قاعاته وأروقته الساحرة مكائد ومغامرات «الجناح الذهبي» للكاتب الشاعر الشهير «يوكيو ميشيما» الذي عاش حياة تجاوزت خيال رواياته، وقضى في ظروف مأساوية، وفقاً لطقوس «سيبّوكو».
صالونات الشاي التي تُعَدُّ بالمئات في كيوتو هي من الزيارات اللازمة للعبور إلى أجواء هذه المدينة التي تختصر روح اليابان الموغلة في التاريخ التي عاشت قروناً مديدة منغلقة على ذاتها، منعزلة عمّا كان يدور حولها في المحيط الآسيوي، وفي العالم. هندسة تقليدية قوامها الخشب والقصب والحرائر، وطاولات واطئة تدور عليها أوعية الخزف الجميل وأدوات تحضير الشاي، تقدّمها آنسات بالكيمونو الذي ليس مستغرباً أن تخرج به النساء إلى الشارع في هذه المدينة.
طقوس الشاي هي أيضاً جزء أساسي من ضيافة الفنادق اليابانية التقليدية (Ryokan) التي كانت مخصصة لاستقبال المسافرين فترات قصيرة، ثم أصبحت اليوم دوراً فخمة لاستضافة السيّاح الأجانب. وهي مجهّزة بحمّامات طبيعية، وفيها حدائق خاصة على الطراز الياباني، ومطبخ يقدّم أشهى الأطباق والوجبات القديمة التي تحاول هذه الفنادق أحياءها. الإقامة في هذه الفنادق، ولو ليلة واحدة، تجربة لا تنسى، ومدخل إلى هذا المجتمع الذي ما زال مستعصياً على الأجانب.
في كيوتو، لا يكتفي الزائر بمعاينة التاريخ، ومشاهدة الطقوس والعادات القديمة، بل هو يعيشها في تجواله على المعابد التي يرتادها الناس من كل الأعمار، وفي كل الأوقات. يطلبون الحظ في الحب، والشفاء من المرض، أو الفوز بوظيفة.
أكثر من عشرة آلاف منزل تقليدي قديم تشكّل إحدى مفاخر كيوتو، وتخصص بلديتها إدارة للإشراف على صيانتها والعناية بها، لا سيّما أن عددها الإجمالي في اليابان لا يتجاوز العشرين ألفاً. شوارع مرصوفة بالحجارة المصقولة، تنيرها مصابيح من ورق الأرز، وتأخذك إلى عالم كأنه خارج هذا العالم. رجال ونساء يخرجون بالكيمونو بعد المغيب، يرتادون المقاهي والمطاعم الشعبية النظيفة، أو يتسامرون في الحدائق حتى ساعة متأخرة، منذ بداية الربيع حتى مطالع الخريف، عندما تكون الحرارة معتدلة.
أكثر من ثلاثة أرباع هذه المدينة التي تضمّ مليوناً ونصف المليون ساكن مصنّف تاريخياً، وفيها ما لا يقلّ عن 200 من الكنوز الوطنية اليابانية، بعضها على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي. ومن بين المتاحف الكثيرة التي تفخر بها المدينة، كمتحف الفن المعاصر والمتحف الوطني ومتحف المانغا، نقترح زيارة إلى متحف الحرف التقليدية المصنف كواحد من أجمل وأهم المتاحف العالمية في هذا المجال، إن لم يكن أجملها. يقوم هذا المتحف على مقربة من القصر الإمبراطوري القديم، محاطاً بثلاثة معابد، ويضم قاعات فسيحة مخصصة لمعلمين حرفيين يمارسون فنونهم يومياً أمام الزوار، ويجيبون عن أسئلتهم بمساعدة مترجمين مخصصين لهذه الغاية.
أماكن لا بد من زيارتها
- إذا كان الزائر يقع في حيرة من أمره عند اختيار المعابد التي يرغب في زيارتها، لكثرتها وجمالها وأهميتها التاريخية، فهو أمام خيار واحد لا غير، عندما يريد الوقوف على نبض الحياة اليومية، والتبضع في الأسواق الشعبية في هذه المدينة العريقة: لا بديل عن سوق «نيشيكي» الشعبي الذي يعود تاريخه للقرن الثامن الميلادي. في تلك الفترة، كان الصيادون يستخدمون المياه الجوفية الوفيرة المحيطة بالسوق لحفظ الأسماك التي كانوا يزودون بها البلاط الإمبراطوري، ثم أصبحت سوقاً للسمك حتى أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفي عام 1927، عندما افتتحت سوق المدينة المركزية، وانتقلت إليها مسامك كثيرة، استقرّت في السوق القديمة متاجر للخضراوات والفاكهة والحلوى وغيرها، يرتادها اليوم آلاف السكّان والسيّاح، يتبضّعون منها ويندهشون لنظافتها وترتيبها وأجوائها الملونة.
- من سوق «نيشيكي»، نقترح زيارة إلى حي «إيغاشياما»، بشوارعه المرصوفة الضيقة المقصورة على المشاة، ومبانيه ومتاجره الخشبية التقليدية التي تبدو عند نهايتها أعمدة المدخل إلى معبد «سانجوسانجندو»، أحد أجمل المعابد البوذية في كيوتو واليابان وأكبرها.
- لعلّ أجمل ختام لهذه الجولة على العاصمة القديمة لبلاد الشمس الطالعة، ومهد حضارتها وتقاليدها العريقة، زيارة إلى بلدة «نارا» التي تقع في ضواحي كيوتو، حيث يوجد معبد «توداي جي» الشهير الذي يعتبر مرجعاً تاريخياً ودينياً في اليابان، والمدرج على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي. ويعود بناؤه للقرن الثامن ميلادي، ويرتفع على علو 750 متراً، في وسط حديقة تبلغ مساحتها 660 هكتاراً، وفي داخله تمثال هائل لبوذا من البرونز، ويحيط به 150 مبنى من أجمل المباني الدينية في آسيا.
ومعظم السياح الدين يزورون «نارا» يأتونها من كيوتو، ويعودون قبل المساء، لكن هدأة الصباح في هذه البلدة الجميلة، وعذوبة التجوال في حدائقها التي تسرح فيها مئات الغزلان بحرية، تستحق تمضية الليل داخل جدرانها... ربما في الفندق الذي نزل فيه ألبرت أينشتاين، وكان يعزف البيانو كل مساء، مطلع عشرينات القرن الماضي.