«داعش» يدفع خلاياه إلى وسط أفريقيا

استهداف الكونغو الديمقراطية «مؤشر خطر»

«داعش» يتبنى استهداف كنائس في سريلانكا... من مواقع تابعة للتنظيم
«داعش» يتبنى استهداف كنائس في سريلانكا... من مواقع تابعة للتنظيم
TT

«داعش» يدفع خلاياه إلى وسط أفريقيا

«داعش» يتبنى استهداف كنائس في سريلانكا... من مواقع تابعة للتنظيم
«داعش» يتبنى استهداف كنائس في سريلانكا... من مواقع تابعة للتنظيم

في مؤشر خطير، دفع تنظيم «داعش» الإرهابي عناصره وخلاياه إلى الكونغو الديمقراطية سعياً للتمدد هناك، بحثاً عن مناطق ينتشر فيها، عقب هزائم سوريا والعراق، معتمداً في ذلك على الذراع الموالية له؛ جماعة «بوكو حرام»، وفرعه في «الصحراء الكبرى»، وعناصره في الصومال، و«أنصار السنة» في موزمبيق.
وأعلنت وكالة «أعماق» التابعة لـ«داعش» أخيراً تبني التنظيم لأول هجوم له في الكونغو الديمقراطية على معسكر للجيش بالمنطقة الحدودية مع أوغندا، أودى بحياة 3 جنود... «أعماق» بثت فيديو لمجموعة من العناصر تحمل السلاح، وتطالب المؤيدين للتنظيم بأفريقيا بأن ينضموا إلى «دولتهم الجديدة بوسط أفريقيا»، المسماة بـ«مدينة التوحيد والموحدين»، على حد زعمها، وانتشر هذا الإصدار على مواقع تابعة لـ«داعش»، تحدث فيه شخص باللغة العربية داعياً مؤيدي التنظيم للهجرة إلى أرض الكونغو الديمقراطية لـ«الجهاد».

تمدد زائف

وأكد اللواء محمد قشقوش، الخبير العسكري والاستراتيجي أستاذ الأمن القومي الزائر بأكاديمية ناصر العسكرية العليا بمصر، أن «تبني (داعش) لعملية الكونغو تأكيد زائف على أنه لم ينتهِ»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «الخطورة تكمن في (العمليات الخاطفة) التي قد تتم من عناصر تم تجنيدها إلكترونياً بهدف تنفيذ هجمات إرهابية».
وقال مراقبون إن «القارة الأفريقية تشهد، منذ منتصف عام 2018، تصاعداً في العمليات الإرهابية، وبدأت تشهد انتشاراً للكثير من التنظيمات الإرهابية... وإعلان (داعش) عن تنفيذه أول عملية في الكونغو الديمقراطية منحى خطير في أفريقيا، خصوصاً مع عودة المقاتلين الأفارقة في صفوف التنظيم».
وأكد المراقبون أن «التقديرات الأولية تشير إلى أن عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ ظهوره إلى الآن يصل إلى 6 آلاف مقاتل، وفقاً لتقارير مراكز بحثية غربية، ويمثل عودة ما تبقى منهم إلى أفريقيا مشكلة كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن الكثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت»، لافتين إلى أن «مساعي التنظيم للتمدد داخل القارة الأفريقية سوف تتواصل خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً كلما تعرّض لمزيد من الضربات العسكرية في المناطق التقليدية، التي سبق أن سيطر عليها، وما زال يوجَد فيها عبر (خلاياه النائمة)، على نحو يفرض على الدول الأفريقية رفع مستوى التنسيق الأمني فيما بينها، للتعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها الهزائم العسكرية التي مُني بها (داعش) في المنطقة».
وأكدت دراسة حديثة لمرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية أن «تنظيم (داعش) يحاول أن يتمدد عبر الكونغو الديمقراطية مستغلاً وجود بعض المناطق التي تعاني من صراعات داخلية، وهي البيئات المفضلة لمثل هذه التنظيمات، فتوجد في الكونغو الديمقراطية جماعات مسلحة... ومنذ عام 2014 سقط نتيجة صراع هذه الجماعات ما يقرب من ألف شخص».
اتسق ذلك مع دراسة أخرى لمركز «المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة» في أبوظبي، أكدت أن «(داعش) ما زال حريصاً على تبني السياسة نفسها، التي سبق أن اتبعها في العراق وسوريا، وهي العمل على استغلال تصاعد حدة الأزمات الداخلية، وتراجع قدرة الدولة على ممارسة سلطاتها بشكل كامل... وهو ما يبدو جلياً في حالة الكونغو الديمقراطية، التي تشهد انتشاراً لبعض التنظيمات المسلحة، إذ تشير تقديرات إلى أن عددها يصل إلى 12 جماعة مسلحة، مثل (ماي ماي كاتا كاتانغا) إلى جانب العصابات الإجرامية».

دعوة البغدادي

وتشير تقارير ومعلومات إلى أن «العناصر التي نفذت أول عملية في الكونغو الديمقراطية لم تتبنّ آيديولوجية (داعش) فقط، بل تلقت أموالاً من التنظيم على يد مواطن كيني يُدعى وليد أحمد زين، وهو أحد مؤيدي (داعش)، ومُدرج على قوائم الإرهاب بنشرة وزارة الخزانة الأميركية».
ودعا أبو بكر البغدادي، زعيم «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لما سماها «ولايات دولة الخلافة» في «أفغانستان، والقوقاز، وإندونيسيا، وغرب ووسط أفريقيا» للقيام بعمليات إرهابية.
في السياق ذاته، أوضحت دراسة الإفتاء أنه «عُثر على كتب تحمل آيديولوجية (داعش) في مواقع تمركز وانتشار (قوات التحالف الديمقراطية)، وهو فصيل متمرد يرفع السلاح في وجه الدولة بالكونغو الديمقراطية، وأنه وفقاً لخرائط (داعش) فإن تقسيم الولايات كان يشتمل أيضاً على ما يُسمى بـ(أرض الحبشة)، وكانت الكونغو من بين هذه الدول التي يسعى (داعش) فيها لإقامة ما يُعرف بـ(الدولة)، كما أن عناصر منشقة عن هذا الفصيل، كانت ترفع راية (داعش) في أماكن قوات التحالف الديمقراطية».
أما دراسة «مركز المستقبل»، فأكدت أن «هناك اتجاهات عديدة أبدت شكوكاً أولية في أن يكون (داعش) هو مَن نفذ هجوم الكونغو الديمقراطية، في ظل وجود عدد من الجماعات والميليشيات المسلحة هناك، إلا أن اعتبارات كثيرة ترجح أن يكون التنظيم هو الذي نفّذ تلك العملية بالفعل، خصوصاً أنه سعى خلال الفترة الأخيرة إلى تعزيز نشاطه في القارة الأفريقية».
وذكرت الدراسة أن «(داعش) حرص بالتوازي مع تنفيذ الهجوم، على إعلان تأسيس ولاية جديدة تابعة له في الكونغو الديمقراطية، على خلاف الهجمات الأخرى التي نفذها في بعض الدول، مثل الفلبين وغيرها، حيث غالباً ما كان يكتفى بإعلان مسؤوليته فقط من دون تأسيس ولاية جديدة».
وكان لافتاً أن الهجوم الأخير وقع بعد فترة وجيزة من سقوط الباغوز، آخر معاقله في سوريا، بشكل يطرح دلالة مهمة تتمثل في أن التنظيم قد يحاول توجيه رسائل متعددة تفيد بقدرته على تنفيذ عمليات في مناطق جديدة، بعد تراجع نشاطه ونفوذه في المناطق الرئيسية التي كان قد سيطر عليها في الأعوام الأربعة الماضية.

تنظيمات متنافسة

في السياق ذاته، أشار مؤشر لدار الإفتاء المصرية إلى أن «القارة الأفريقية شهدت، في الأسبوع الأخير من أبريل (نيسان) الماضي، 14 عملية إرهابية من إجمالي 24 عملية هزّت العالم، بنسبة 58 في المائة من عدد العمليات الإرهابية، حيث ضرب الإرهاب 9 دول أفريقية هي (الصومال، والنيجر، وتشاد، وبوركينا فاسو، وليبيا، وتونس، والكاميرون، ومالي، والكونغو الديمقراطية)». وأفاد المؤشر بأنه «لا تزال أفريقيا مهددة بانتشار التنظيمات الإرهابية، وهناك تنافس قوى بين كل من التنظيمات المُبايعة لـ(داعش) في غرب القارة، والمبايعة لـ(القاعدة)، وانتقل هذا التنافس أخيراً إلى وسط القارة، من خلال فرع (داعش) في الصحراء الكبرى، وجماعة (نصرة الإسلام والمسلمين) الموالية لـ(القاعدة)».
وقال الدكتور علي محمد الأزهري، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر، لـ«الشرق الأوسط»: «شهدت الساحة الأفريقية أخيراً حالة من التنافس الجهادي بين التنظيمات القاعدية، وعلى رأسها (حركة الشباب)، والتنظيمات الداعشية، وعلى رأسها (بوكو حرام)»، مضيفاً أن «العلاقة بين التنظيمات الجهادية علاقة تنافسية صراعية، فقد تراجعت (القاعدة) لصالح (داعش) في مرحلة من المراحل، والآن حدث العكس»، لافتاً إلى أن «ما قام به (داعش) في الكونغو هو محاولة لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه تنظيم (عابر للحدود)».
وسبق أن حذر رئيس الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدي «من احتمال قيام (داعش) بمحاولات لتعزيز وجوده في القارة الأفريقية، بعد هزيمته عسكرياً في سوريا والعراق». وقال المراقبون إن «بعض دول أفريقيا ربما رصدت تحركات كثيرة دعمت احتمال اتجاه التنظيم لمحاولة دعم نشاطه داخلها».
وقالت دراسة «مركز المستقبل» إن «الهزائم العسكرية التي تعرض لها (داعش) في سوريا والعراق فرضت ضغوطاً قوية عليه، لدرجة أضفت مزيداً من الشكوك إزاء قدرته على الاستمرار كتنظيم رئيسي على خريطة التنظيمات الإرهابية في العالم، بل إن الشعارات نفسها التي سبق أن تبناها، على غرار (باقٍ ويتمدد)، أصبحت موضع تساؤلات كثيرة بعد التطورات الميدانية التي قلصت من القدرات العسكرية والبشرية التي امتلكها (داعش) في الأعوام الأخيرة»، مؤكدة: «لذا بدأ التنظيم في الإعلان عن تنفيذ عمليات إرهابية في مناطق بعيدة عن معاقله الرئيسية، ليس فقط لتأكيد قدرته على البقاء، وإنما لإثبات قدرته على التمدد في مناطق متفرقة، وفي وقت واحد، في إطار ما يُمكن تسميته بـ(الانتشار أفقياً)، الذي انعكس في ظهور خلايا وأفرع تابعة له في أفغانستان، والفلبين، وشمال أفريقيا، إلى جانب الكونغو الديمقراطية».
ويُشار إلى أن الهجوم الأخير الذي وقع في الكونغو الديمقراطية، سبق، بفترة وجيزة، العمليات الإرهابية المتزامنة التي وقعت في سريلانكا، واستهدفت ثلاث كنائس وفنادق، وراح ضحيتها أكثر من 300 قتيل و500 جريح... وأعلن «داعش» مسؤوليته عن هذه العمليات.
وأكدت دارسة «مركز المستقبل» أن «العمليات الإرهابية النوعية الأخيرة قد تعكس مستوى الضغوط التي بات يتعرض لها (داعش) في الفترة الحالية، خصوصاً بعد أن ساهمت الهزائم العسكرية التي مُني بها في تضييق الخناق على قياداته، لا سيما زعيمه البغدادي، على نحو يزيد من احتمال اعتقاله أو قتله، في مرحلة لاحقة، وهو ما يبدو أن التنظيم يحاول الاستعداد له مُسبقاً من خلال تنفيذ عمليات إرهابية، والإعلان عن تأسيس أفرع جديدة له في دول ومناطق مختلفة».


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.