حرية الصحافة... بين التقنين والانفلات

ضرورة ملحة لإعادة النظر في قوانين الإعلام بالدول العربية

حرية الصحافة... بين التقنين والانفلات
TT

حرية الصحافة... بين التقنين والانفلات

حرية الصحافة... بين التقنين والانفلات

«الصحافة»... هذه المهنة التي طالما كان لها وقع خاص ومميز بين المهن. إنها مغامرة لكشف الغموض، وخوض رحلات بحث محفوفة بالمخاطر، لا تقف عند حدود أرض أو زمن أو شعب. هي «أكسجين الديمقراطية» كما وصفتها منظمة حقوق الإنسان الدولية غير الحكومية، باعتبارها العنصر الأساس للديمقراطية التي تتعلق بقدرة الأفراد على المشاركة بشكل فعال في عملية صنع القرارات التي تؤثر عليهم.
الصحافي ليس رئيس دولة، ولا يجلس على كرسي من ذهب، لكنه يستطيع أن يهزّ بكلمةٍ الأرضَ تحت زعيم أو رئيس، وبكلمةٍ قد يكشف فساداً مرعباً، وهذا ما فعله كثيرون عبر التاريخ، بأقلامهم فقط، ولا يزالون، لكن الثمن كان حياتهم. ومن أجل التغيير والوصول إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي، لا بد من حماية حياة العاملين في هذا المجال.
في كل عام يحتفل العالم في 3 مايو (أيار)، بالمبادئ الأساسية لحرية الصحافة بهدف تقييمها في شتى أنحاء العالم، والأهم حماية العاملين فيها والدفاع عنها والوقوف في وجه من يتعرض لها من هجمات تهدد استقلالها والإشادة بالصحافيين الذين ضحوا بحياتهم أثناء تأدية واجبهم المهني.
في صلب اليونيسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)، تتربع حرية الصحافة وحرية التعبير. هذا اليوم، هو مناسبة لإعلام الجمهور بكل الانتهاكات التي تتعرض لها الصحافة، وللتذكير بأن المطبوعات في عشرات البلدان حول العالم، تخضع للرقابة والغرامة والتوقف المؤقت والدائم، وما يتعرض له الصحافيون والمحررون والناشرون من مضايقات واعتداءات، واعتقالات وقتل أحياناً، ولتذكير الحكومات بحاجتها للوفاء بالتزاماتها تجاه حرية الصحافة، كما للتفكير مع المهنيين في مجال الإعلام حول موضوعات تتعلق بحرية الصحافة والأخلاقيات المهنية.
الإعلام والديمقراطية:
- الصحافة في أوقات التضليل
عنوان العام الحالي لحرية الصحافة. وكما كثير من عواصم العالم، نظّم مكتب اليونيسكو في بيروت بالشراكة مع وزارة الإعلام، وبالتعاون مع كل من مركز الأمم المتحدة للإعلام في بيروت، ومؤسسة «جوستيسيا» للتنمية وحقوق الإنسان، ومنظمة إعلام للسلام (ماب) - لقاء للمناسبة، برعاية رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، ممثلاً بوزير الإعلام جمال الجراح، حضرته «الشرق الأوسط».
إعلاميون وحقوقيون تحدثوا عن أهمية الإعلام، بصفته منبراً حراً لإيصال كلمة حق ونبذ العنصرية وبثّ الكراهية وكيفية التعامل مع نقل الخبر بكل مصداقية، من دون استخدام تعابير تؤجج الحقد بين أفراد المجتمع الواحد، كما تطرق المؤتمر لأهمية استحداث قوانين جديدة تساهم في إعطاء مساحة حرية أكبر للإعلام.
- انتقاء التعابير
عن «الفلتان وسوء استخدام حرية التعبير»، تحديداً في وسائل التواصل الاجتماعي، الذي بات منبراً يستخدم من البعض لسبّ وشتم الآخر، بسبب عدم القدرة على السيطرة على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، تحدث داوود إبراهيم، الصحافي والأكاديمي والأستاذ الجامعي، متناولاً أهمية اختيار الأسلوب المناسب في نقل الصحافي لخبر ما، مهما كان بشعاً. وحسب تعبيره، الصحافي «ليس ناشط سلام»، ولا بد أن يخبر العالم بحقيقة حدثت، قد تكون مجزرة أو إبادة جماعية. ولكن الأهمية تكمن في كيفية تناوله الخبر بأسلوب خالٍ من بثّ الكراهية، وأن يتجنب التعميم والاتهام والتحريض طائفياً أو حزبياً أو عرقياً. متناولاً «جدار بلفاست أو خط السلام» كمثال على انتقاء التعابير. «مهمته الفصل بين الأحياء الكاثوليكية والبروتستانتية في بلفاست، عاصمة آيرلندا الشمالية خلال الحرب الدينية بين الطرفين.
وفي الحقيقة هو ستار عازل وأسلاك شائكة تفصل بين الأطراف المتخاصمة».
يقول: «الإعلام هنا يفكر بمجتمع، ويسعى للبناء وليس للتعطيل». لم يتناول المؤتمر حماية حياة الصحافيين وعدم التعرض لهم فقط، بل تحدث عن المسؤولية الموكلة إليهم، وكيف يكون الإعلام صحياً أو محرضاً، وكيف يبني أو يهدم، وذلك من خلال استخدام حرفية العمل بحيادية، وتجنب الوقوع في تسويق الأخبار لحساب طرف أو آخر. وفي ذلك، يؤكد إبراهيم، على أهمية أن يفتح الصحافي في نقله للأحداث، المجال لجميع الناس للتعبير عن آرائهم ودفعهم من خلال كلماته إلى الاستنتاج من دون وصف طائفة أو عرق بالدموية.
- «الإعلام المسيس والتضليل»
في لبنان تحديداً ظاهرة، يعتبرها البعض حرية التعبير الديمقراطي، فيما يعتبرها آخرون فوضى مدمرة، قد يعود السبب للتركيبة السياسية الطائفية في السلطة، فلكل حزب أدواته الإعلامية التي تروج لسياسته.
وعن هذا الأمر، تحدث الإعلامي عباس ضاهر، متناولاً أهمية حرية الإعلام وحرية الصحافي في التعبير عن فكرة معينة وكتابة رأي معين، من دون التعرض لأي تهديد أو قمع بسبب رأي ما. والأمثلة في لبنان كثيرة، وقد دفع صحافيون حياتهم ثمن رأي أو كلمة. وتابع أن في لبنان تحديداً «الإعلام مسيس، فلكل حزب قناته وبوقه الإعلامي، يهاجم ويشتم ويُخون، وليس من حسيب ولا رقيب ولا رادع».
ومهما اختلفت الآراء والمواقف، اعتبر ضاهر، أنه من الأهمية أن يتضامن الإعلاميون لمواجهة أي تحدٍ قد يطالهم أو يقف في وجههم. وهذا ما يفتقده لبنان، بسبب التزامات غالبية إعلاميّيه الحزبية التي تطغى على احترام المهنية في العمل.
من الأمثلة التي قدّمها ضاهر، على التضليل الإعلامي، نتائج بحث سيكون في متناول الجميع بعد أيام، تحدث عن سقوط الطائرة الإثيوبية في بيروت. وجّهت وقتها الدولة الإثيوبية الاتهامات إلى الدولة اللبنانية وطالبتها بدفع التعويضات، وقد استندت آنذاك على الخطاب الإعلامي للمؤسسات اللبنانية التي كانت تفتقر للخطاب الموحد أو الموضوعي. هذا التخبط الإعلامي واللامسؤولية حمّل الحكومة اللبنانية مسؤولية سقوط الطائرة، فيما كشفت نتائج التحقيقات أن كابتن الطائرة هو المسؤول.
- قوانين الإعلام
عن هذا الموضوع، تحدث القاضي بول مرقص رئيس مؤسسة «جوستيسيا» للإنماء وحقوق الإنسان في لبنان، عن القانون والإعلام، وضرورة مراجعة القوانين المتعلقة بالصحافة في لبنان. ومن الجدير ذكره أن أحدث قانون يعود للعام 1962، فلا بدّ من ضرورة استحداث قوانين جديدة، لا تسمح لمتولي السلطة باستخدامها ضد الإعلاميين بكل إجحاف. وعلى العاملين في الإعلام الاطّلاع على القوانين الجديدة، وهي 3 أو 4 فقط، للتعرف على مضامينها، منها قانون الوصول إلى المعلومات، وقانون حماية كاشفي الفساد، ولا بد لكل صحافي وإعلامي وناشط حقوقي واجتماعي أن يقرأها، وهي متاحة للجميع على مواقع الإنترنت.
كيف تكون حدود حرية التعبير والرأي والحق؟ يقول مرقص: «عبر أخلاقيات المهنة للإعلاميين. هذه الأخلاقيات هي التي تضمن حقوق الغير وعدم التعرض لها، والمصلحة الوطنية التي لا يجب أن تمس».
وتحت عنوان «الاحتفال السنوي السادس والعشرين باليوم العالمي لحرية الصحافة»، بُحث هذا الموضوع في المؤتمر الدولي، الذي اشتركت في تنظيمه اليونيسكو وحكومة جمهورية إثيوبيا الديمقراطية الاتحادية والاتحاد الأفريقي، وعقد في مدينة أديس أبابا يومي 2 و3 مايو.
بالمناسبة أيضاً، رأى أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، في كلمته، أن حرية الصحافة أساسية لتحقيق السلام والعدالة والتنمية المستدامة وحقوق الإنسان، وأن «أي ديمقراطية لا تكون مكتملة من دون توفر إمكانية الحصول على معلومات شفافة وموثوقة». وسلّط الضوء على دور الصحافة في مواسم الانتخابات حين ينبغي أن يهتدي الناس بالحقائق، وليس بالأكاذيب، عند اختيار ممثليهم، حسب تعبيره. وتحدث عن التكنولوجيا وما أحدثته من تحول كبير في وصول الناس إلى المعلومات وتبادلها، محذراً من استخدامها أحياناً لتضليل الرأي العام أو لتأجيج العنف وتغذية الكراهية.
من جانبها، ربطت المديرة العامة لليونيسكو أودري أزولاي، في رسالتها، بين حرية الصحافة والديمقراطية، قائلة: «تعد الصحافة الركن الأساس للمجتمعات الديمقراطية، ولا بد من ضمان حرية الرأي عن طريق إتاحة التبادل الحرّ للأفكار والمعلومات القائمة على بينات ووقائع حقيقية، في زمن تعلو وتشتد نبرة الخطاب القائم على الارتياب وإساءة الظن بالصحافة وبالعمل الصحافي الرامي إلى نزع الشرعية عنهما».
وأشارت أزولاي إلى أن «مرصد اليونيسكو لجرائم قتل الصحافيين أحصى 99 جريمة قتل في العام 2018. وبلغ مجموع جرائم قتل الصحافيين التي أحصاها المرصد 1307 جرائم للفترة الممتدة من عام 1994 إلى عام 2018»، مضيفة: «يشكل الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة بحقهم تهديداً لكل المجتمعات، ويفرض علينا توخي الحيطة والحذر في جميع الأحوال والأوقات».
وحسب موقع «اليونيسكو»، قُتل خلال العام 2019 ثمانية صحافيين، ومواطن إلكتروني معاون، فيما سجن منذ مطلع العام 175 صحافياً، وبلغ عدد السجناء في أوساط المواطنين الإلكترونيين 150 شخصاً، و17 من المعاونين. ففي أفغانستان قتل 3 صحافيين، وصحافي في غانا، و3 في المكسيك، وصحافية في المملكة المتحدة، قتلت قبل أيام قليلة من التقرير.
- جائزة العام
حصل وا لون، وكياو سوي أوو، الصحافيان في وكالة «رويترز» للأنباء، الذين يقضيان عقوبة السجن لمدة 7 سنوات في ميانمار، على جائزة رئيسية في حرية الصحافة من الأمم المتحدة. وقدمت «يونيسكو» جائزة جيليرمو كانو العالمية لحرية الصحافة إلى ثورا أونج، أحد أشقاء وا لون، خلال حفل استُضيف في أديس أبابا.
- تضحيات تواجه آلة الخوف مع تصاعد وتيرة الكراهية ضد الصحافيين
> تُبيّن النسخة 2019 من التصنيف العالمي لحرية الصحافة، تصاعد وتيرة الكراهية ضد الصحافيين لتبلغ حد العنف، حسب منظّمة «مراسلون بلا حدود»، ما أدّى إلى تنامي الشعور بالخوف، وتقلّص دائرة البلدان التي تُعتبر آمنة، ليتمكّن الصّحافيون من ممارسة مهنتهم. في حين تشدّد الأنظمة الاستبدادية قبضتها على وسائل الإعلام أكثر فأكثر.
ويُبيّن تصنيف المنظمة الذي يُقيِم سنوياً حالة الصحافة في 180 بلداً، أنّ آلة الخوف تعمل بأقصى طاقتها، ما يقوض بشدة ممارسة الصحافة في ظروف هادئة.
ويتميز تصنيف 2019 بتربع النرويج على الصدارة للسنة الثالثة على التوالي، واستعادت فنلندا المركز الثاني، على حساب هولندا. في المقابل تراجعت السويد مرتبة واحدة لتحتل المركز الثالث. وعلى صعيد القارة الأفريقية، حققت كل من إثيوبيا وغامبيا تقدماً ملحوظاً.
ويواصل كثير من الدول الخاضعة لحكم أنظمة استبدادية التراجع على جدول في التصنيف، كما الحال في فنزويلا وروسيا وفيتنام والصين.
ولا تزال منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، رغم تدهور مؤشرها الإقليمي بشكل أقل حدة هذا العام، المنطقة الأصعب والأخطر على سلامة الصحافيين. فبينما انخفض بشكل طفيف عدد الصحافيين القتلى في سوريا خلال عام 2018، فإن ممارسة العمل الصحافي لا تزال خطيرة للغاية في بعض البلدان، مثل اليمن، والحال نفسها في ليبيا، ولا تزال إيران أكبر سجن للصّحافيين على الصعيد العالمي. أما منطقة أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، فلا تزال تُراوح مكانها سنة بعد أخرى في المرتبة قبل الأخيرة في التصنيف، وذلك رغم التباين غير المعتاد بين التطورات الوطنية والتحسّن الطفيف في مؤشرها الإقليمي.


مقالات ذات صلة

200 خبير يناقشون تحولات الإعلام في الرياض الأربعاء

إعلام إقبال الجمهور (بشير صالح)

200 خبير يناقشون تحولات الإعلام في الرياض الأربعاء

ينطلق بعد غدٍ (الأربعاء) في الرياض، «المنتدى السعودي للإعلام» في نسخته الرابعة، التي تجمع على مدى 3 أيام، قادة وصُنَّاع القرار والمبتكرين من جميع أنحاء العالم.

عمر البدري (الرياض)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث إلى وسائل الإعلام أثناء توقيعه على الأوامر التنفيذية في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض (إ.ب.أ)

منع «أسوشييتد برس» نهائياً من دخول «المكتب البيضاوي» والطائرة الرئاسية الأميركية

أعلنت الرئاسة الأميركية أمس (الجمعة) أن وكالة «أسوشييتد برس» مُنعت من دخول المكتب البيضاوي وطائرة الرئيس دونالد ترمب «إير فورس وان».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ خلال إحاطة إعلامية في البيت الأبيض بالعاصمة الأميركية واشنطن في 12 فبراير 2025 (رويترز) play-circle

لليوم الثالث تواليًا... مَنْع مراسل «أسوشييتد برس» من دخول البيت الأبيض

مُنعَ أحد صحافيي وكالة «أسوشييتد برس» من الدخول إلى حدث بالبيت الأبيض؛ بسبب استمرار الوكالة بتسمية «خليج المكسيك» بدل تسمية «خليج أميركا» التي أطلقها ترمب.

يوميات الشرق يرى في التعرُّف إلى الآخر وتقبّله تعرُّفاً إلى النفس وصَقْلها (صور جعفر عبد الكريم)

جعفر عبد الكريم همُّه حقيقة الإنسان في 3 برامج يُطلقها

تحوم برامج جعفر عبد الكريم الثلاثة حول إشكالية كيفية التعايش رغم الاختلاف والتنوّع؛ وتنضمّ إلى ما سبق أن قدّمه، خصوصاً في «شباب توك» و«جعفر توك».

فاطمة عبد الله (بيروت)
المشرق العربي فلسطينيون يسيرون وسط الدمار الذي خلفته الغارات الجوية والبريّة الإسرائيليّة على جباليا قطاع غزة (أ.ب) play-circle

ثلثهم في غزة... مقتل عدد قياسي من الصحافيين عام 2024

أظهر تقرير صادر يوم (الأربعاء) عن «لجنة حماية الصحافيين» غير الربحية في الولايات المتحدة أن عام 2024 شهد أعلى عدد من الصحافيين الذين قتلوا على الإطلاق.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

الإعلام اللبناني الموروث أباً عن جد... أهو نقمة أم نعمة؟

النقيب جوزيف القصيفي (الشرق الأوسط)
النقيب جوزيف القصيفي (الشرق الأوسط)
TT

الإعلام اللبناني الموروث أباً عن جد... أهو نقمة أم نعمة؟

النقيب جوزيف القصيفي (الشرق الأوسط)
النقيب جوزيف القصيفي (الشرق الأوسط)

يعود تاريخ الإعلام الموروث أباً عن جد في لبنان إلى منتصف القرن الـ19 الميلادي، وجرت العادة توريث هذه الحرفة، النابعة من حب صاحبها لها، إلى البنين والأحفاد... من جيل إلى آخر.

وصحيح أن من الصعوبة بمكان توريث «مهنة المتاعب»، لكونها تتطلّب عامل الشغف في ممارستها، ولكن، في بعض الأحيان، نجح الأجداد في توريث حتى هذه المشاعر إلى الأبناء.

لائحة المؤسسات الصحافية التي تحولت إلى «بيزنس» عائلي تتوارثه الأجيال في لبنان طويلة. وفي الغالب، كان مؤسسوها أدباء وشعراء ومفكرين، مارسوا الصحافة ضمن المؤسسة لتغدو منابر إعلامية يسوقون عبرها مبادئهم وأفكارهم السياسية.

من جهة ثانية، اعتاد أولاد أصحاب هذه المؤسسات معاونة آبائهم في مجالات مختلفة. فكانوا يساعدون في تحرير المواد وتدبيج المقالات والتسويق للصحيفة. وإذا ما قمنا بجولة سريعة على تلك المؤسسات، يستوقفنا مثال صحيفة «النهار» والدار التي تصدرها. أُسّست «النهار» على يد جبران تويني عام 1933. وتابع نشرها بعده ابنه غسان، الذي أورثها وهو لا يزال حياً، إلى ابنه جبران. ومن ثم، بعد اغتيال جبران في عملية تفجير طالت سيارته خلال عام 2005، تولت ابنتاه نايلة وميشيل إكمال مشواره.

عماد الخازن (الشرق الأوسط)

الخلافات العائلية والخسائر المادية

وكما «النهار» نذكر «دار الصياد» التي أسّسها سعيد فريحة عام 1943. وانتمت إلى هذه الدار بعض أشهر المطبوعات في لبنان حتى منتصف الألفية الثانية. وبعد وفاة المؤسس تولى أولاده إلهام وعصام وبسام إكمال مشوار والدهم. ولكن، بدءاً من أواخر عام 2018، توقفت معظم إصدارات الدار الورقية لأسباب مختلفة، وأرجعت الدار قرار إغلاقها بعد 75 سنة على تأسيسها إلى خسائر مالية، وعزوف الجيل الجديد في إكمال المشوار.

أيضاً، من المؤسسات الصحافية التي لاقت شهرة واسعة في لبنان لفترة غير قصيرة «دار ألف ليلة وليلة» التي أسّسها الأديب والصحافي كرم ملحم كرم في منتصف العشرينات. وبعده أكمل المشوار نجله نقيب المحررين الراحل ملحم كرم، الذي تُوفي عام 1995. ولكن خلافات عائلية حصلت بين أولاده أدت إلى إغلاق الدار.

ومثل آل كرم، برز آل مروة، مع تأسيس الناشر والصحافي الكبير كامل مروة جريدتَي «الحياة» (بالعربية) و«ديلي ستار» (بالإنجليزية)، وسمعان فرح سيف صاحب مطبوعة «الأحوال»، وأكمل مشواره لفترة أولاده وفي مقدمهم أنطوان. أما جريدة «الهدى» لصاحبها أحمد السبع، فتسلمها ابنه الصحافي والوزير الأسبق باسم السبع. وهنا، يتمحور السؤال الأهم حول التوريث الإعلامي... وهل يمكن لهذه المهنة أن تُورّث؟

ميشيل تويني (الشرق الأوسط)

يستحيل توريث الصحافة

يتمتع جوزيف القصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، بتاريخ طويل مع المهنة؛ إذ عايش عدة عهود إعلامية في مؤسساتها. وكانت النتيجة خبرة متراكمة مع الصحافة تعزّزت بمرافقة أهم رجالها والتعرف إليهم عن قرب.

يرى النقيب القصيفي في لقاء مع «الشرق الأوسط»، بحزم، «أن مهنة الصحافة لا يمكن توريثها. وهذا الأمر يكون متاحاً فقط عند الأبناء الذين يملكون شغف آبائهم نفسه». ويضيف: «هناك أمثلة كثيرة عن أبناء صحافيين عمالقة رفضوا دخول عالم الصحافة، فلم يكملوا ما بدأه أسلافهم؛ لأنهم لا يكترثون لهذه المهنة. كذلك فإن المهنة تبدلت كثيراً مع الوقت، وتسبّب ذلك في تراجع كبير للصحف بطبعتها الورقية؛ مما اضطر أصحابها إلى إقفال أبوابها، تحت وطأة الخسائر المادية الكبيرة».

حالة «دار النهار»

قد تكون «دار النهار» من المؤسسات الإعلامية الوحيدة، الموروثة أباً عن جد، التي استطاعت إكمال مشوار مؤسسيها. فبعد اغتيال مديرها جبران تويني في عام 2005 تسلّمت ابنتاه نايلة وميشيل الدفة. وصارت نايلة بعد اغتيال والدها تعمل في إدارتها. أما ميشيل، التي ورثت حب الصحافة عن والدها جبران وجدها غسان، فتقدّم اليوم على شاشة تلفزيون «الجديد» برنامجها «بيت الشاعر»، وتستقبل فيه ضيوفها داخل منزل جدها الإعلامي والسياسي اللامع الراحل.

قد يعتقد البعض أن الإرث الإعلامي هو نوع من الـ«بيزنس» يخوضه الأبناء وفقاً لهذه الفكرة، كما يعدّه آخرون تجربة تستأهل منهم خوضها، لتنتهي عندما يملون منها. لكن نسبة أخرى تدافع عن إرثها وتعد أنه يسري في جيناتها منذ الولادة.

مبنى دار الصياد (الشرق الأوسط)

ليست «بيزنس»

ترفض ميشيل جبران تويني أن تعدّ انتماءها إلى عالم الصحافة أتى من باب الـ«بيزنس» العائلي. وتوضح لـ«الشرق الأوسط» قائلة: «هذه المهنة لا يمكن عدّها كذلك، كونها لا توفّر الملايين لصاحبها، بل ممارسة الصحافة في رأيي لا تنبع إلا من شغف صاحبها. وأنا شخصياً، تأثرت بمسيرتي الراحلَيْن والدي جبران وجدي غسان من دون شك. لكنني كنت منذ صغري أحب الكتابة. كنت أمسك بقلمي وأعبر عن مشاعري، وأذكر عندما اغتيل والدي أقفلت باب غرفتي، ورحت أفرغ مشاعري الحزينة على الورق».

ميشيل تويني تؤكد أنها من خلال برنامجها اكتشفت مدى تأثر ضيوفها بأجواء عائلاتهم، «فالفنان كما الموسيقي والشاعر يرث حب هذه الفنون من أحد والديه». وتختم: «كنت أطرح على نفسي مرات ومرات السؤال حول المجال المهني الذي بإمكاني العمل فيه لولا قدَري الصحافي. وصرت أتأكد يوماً بعد يوم، أنني وُلدت من أجل ممارسة هذه المهنة. أنا أعدّها نعمة ورثتها عن عائلتي، واليوم أعيش أجمل لحظات حياتي المهنية من خلال تقديمي برنامجي التلفزيوني (بيت الشاعر)».

المرئي والمسموع والإرث

مثل حال الإعلام المكتوب، الإعلامان المرئي والمسموع. إذ يميل أصحاب مؤسساتهما إلى توريثها لأبنائهم وهم على قيد الحياة. ونختصر هذه النماذج بمحطات تلفزيونية محلية. فقناة «إم تي في» التي أسّسها غبريال المر ورثها عنه ابنه ميشال. وبعد خلافات عدة ودعاوى قضائية بينهما، ثبت الابن رئاسة مجلس إدارتها له. أما المؤسسة اللبنانية للإرسال «إل بي سي آي» فقد عمد رئيس مجلس إدارتها بيار الضاهر إلى تسليم قيادتها إلى ابنه جوي. ووضع تحسين خياط، صاحب تلفزيون «الجديد»، ابنته كرمى في واجهة المحطة.

وفي مجال الإعلام المسموع، يُعدّ عماد الخازن من أهم النماذج الناجحة فيه. فهو أكمل مشوار والده الراحل سيمون الخازن في إدارة إذاعة «صوت لبنان». وأصبح اسمها في عام 2020 «صوت كل لبنان»، وهي اليوم تابعة للشركة العصرية للإعلام.

«والدي لم يشجعني»

يدير عماد الخازن إذاعة «صوت كل لبنان» بنجاح رغم تحديات كثيرة واجهها في أثناء أزمات شهدها لبنان، وكان الإرث الإعلامي بالنسبة إليه نعمة حضّته على التطوير والتوسع.

رافق عماد والده الراحل سيمون لنحو 6 سنوات متتالية، وتعلّم منه الكثير ما صقل شغفه للإعلام. وعلى هذا يعلّق: «لطالما أحببت هذه المهنة ولا سيما المتعلقة بالمسموع. حاول والدي أكثر من مرة إقناعي بالابتعاد عنها، لكنني في أعماقي كنت أدرك مدى حبي لها. كان عليّ بعد رحيله إيجاد رؤية مستقبلية توفّر لي الاستمرارية، فاتجهت نحو التعاون مع الإذاعات الأجنبية. الإعلام المرئي تبدّلت ملامحه اليوم، كما أنه لا يُعد (بيزنس) مربحاً... فليس هناك من مؤسسة لا تواجه المشكلات، ولكن الأهم عندي المواجهة بإرادة صلبة».