خفايا دور الإعلام في تجنيد متطوعي الحرب العالمية ببريطانيا

الدعاية استغلت العاطفة والتأثير النسوي

أطفال يجندون للجيش البريطاني في لندن عام 1915 (غيتي)
أطفال يجندون للجيش البريطاني في لندن عام 1915 (غيتي)
TT

خفايا دور الإعلام في تجنيد متطوعي الحرب العالمية ببريطانيا

أطفال يجندون للجيش البريطاني في لندن عام 1915 (غيتي)
أطفال يجندون للجيش البريطاني في لندن عام 1915 (غيتي)

كانت بريطانيا من أوائل الدول التي أنشأت «وزارة معارف» خلال الحرب العالمية الأولى للدعاية ضد الألمان، ومحاولة تجنيد المزيد من الشباب البريطاني. وأعادت المملكة المتحدة المحاولة بإحياء وزارة المعارف خلال فترة الحرب العالمية الثانية أيضاً. العامل المشترك بين المحاولتين كان استخدام الإعلام، أو بالأحرى استغلاله، بالعديد من الوسائل، منها اللوحات الإعلانية والصحف ودور السينما والراديو من أجل تجنيد المزيد من المتطوعين البريطانيين للمشاركة في الحرب.
اعتمدت الدعاية البريطانية على العديد من العناصر، منها إثارة النعرة الوطنية، وتشجيع النساء للشباب على الانضمام إلى الجهد العسكري، والتعريف بمسؤولية الجميع في الدفاع عن البلاد، والتذكير بمدى الضرر الذي لحق بالبلاد من هجمات ألمانية سابقة. كما ركزت بعض النشرات على ضرورة الاعتماد على النفس في زراعة الخضراوات وتوفير المعادن للمجهود الحربي.
وفي بعض الأحيان لم يقتصر الجهد على مجرد نشر المعلومات والدعاية عبر وسائل الإعلام، بل وصل إلى التدخل في المحتوى الإعلامي، مثل اقتراح العمل في مشروعات أفلام حربية للمنتجين وتقديم جميع الدعم لهم لإنتاج مثل هذه الأفلام التي تحث على رفع الروح الوطنية.
وظهرت أفلام تكشف أحوالاً بائسة للدول الأوروبية التي وقعت تحت الاحتلال الألماني، من أجل رفع الروح القتالية ضد أي محاولة لاحتلال بريطانيا.
أما اللوحات الإعلانية، فقد حملت رسائل ملخصة تحث على أن الحرية في خطر، وأن على المواطنين التحلي بالشجاعة والإصرار. واشتهرت منذ ذلك الوقت عبارات ما زال البريطانيون يستخدمونها في أوقات الضيق مثل «حافظ على هدوئك واستمر» (Keep Calm and Carry on).
واستخدمت وزارة المعارف أيضاً النشرات البريدية والكتب والراديو على نطاق واسع. واشتهر مذيع اسمه ريتشارد مارو في نشراته الإذاعية بالحديث عن شجاعة البريطانيين وصمودهم أثناء هجمات الطيران الألماني على لندن. وكان مارو يتسم بالهدوء والواقعية وعدم إبداء الرأي مما أثار إعجاب الأميركيين الذي ساهموا بعد ذلك في جهود الحرب ضد الألمان. وتبدو شخصية مارو الهادئة على النقيض من شخصية الإذاعي المصري أحمد سعيد الذي أثار الرأي العام بأسلوبه الجهوري أثناء حرب 1967، بأخبار كاذبة أفقدت الثقة بالنشرات العسكرية المصرية لفترة طويلة.
وشجع على الدعاية العسكرية إقبال الناس عليها وتصديقها في غياب مصادر أخرى للأخبار. ووزع كتاب واحد عنوانه «لماذا تحارب بريطانيا؟» أكثر من 100 ألف نسخة. وشمل التشجيع أيضاً عمل النساء في المصانع، خصوصاً المصانع الحربية، وتشجيع كبار السن على التطوُّع في الجيش الشعبي لحماية الجبهة الداخلية. وكان يُطلق على المتطوعين من كبار السن اسم «جيش الآباء» وما زالت تذاع حلقات تلفزيونية فكاهية عن جهود هذا الجيش من العجائز. ولم يكن التركيز خلال آخر سنوات الحرب العالمية الأولى على تطوع الشباب للقتال، لأن التجنيد الإجباري تكفل بهذا.
كانت الدعاية البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى موزّعة بين عدة جهات بهدف التصدي للدعاية الألمانية. ولم تنشأ وزارة المعارف (أو المعلومات) إلا في عام 1918. واكتشف البريطانيون بعد الحرب أن بعض الروايات عن الوحشية الألمانية كانت كاذبة أو مبالغاً فيها، مما أبقى بعض الشكوك في قصص مشابهة انتشرت خلال الحرب العالمية الثانية. كما أن النازيين استعاروا بعض الأساليب البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية.
قبل إنشاء وزارة المعارف، كانت هناك عدة جهات مشرفة على الدعاية البريطانية، كان أهمها وكالة عُرفت باسم موقع عملها من «ويلينغتون هاوس»، وكان يرأسها تشارلز ماسترمان. واتسم عمل هذه الوكالة بالسرية التامة إلى درجة أن البرلمان البريطاني لم يكن يعرف بوجودها. وتخصصت وكالة «ويلينغتون هاوس» بالدعاية ضد الألمان. وبين عامي 1914 و1918 نشطت هذه الوكالة وتوسعت أعمالها التي كان من بينها دعوة 25 مؤلفاً بريطانياً لكتابة روايات ونشرات وكتب تساند المجهود الحربي.
وإلى جانب «ويلينغتون هاوس» نشطت أيضاً «لجنة الإعلام المحايد» التي كُلّفت بتزويد الدول المحايدة بأخبار الحرب والنشاطات البريطانية. ورأس هذه اللجنة صحافي بريطاني اسمه جي ماير. أما الجهة الثالثة، فكان قسم الأخبار في وزارة الخارجية البريطانية الذي اختص بالبيانات الرسمية الخاصة بسياسة بريطانيا الخارجية. وكانت جهات الإعلام الحربي الأخرى تدخل في نزاعات وصراعات أحياناً مع «ويلينغتون هاوس» حول نوعية الأخبار العسكرية وتوقيت نشرها.
وأدَّت هذه النزاعات إلى إعادة تنظيم عمل الوكالات المختلفة في عام 1916، وبعد تقرير أمر به رئيس الوزراء حينذاك لويد جورج تم تأسيس وزارة المعارف في بداية عام 1918 بتأييد من البرلمان البريطاني.
اشتهرت في هذه الفترة «بوسترات» عديدة في الشوارع، لعل أشهرها على الإطلاق كانت صورة اللورد كتشنر بشاربه الكث وهو يشير إلى المشاهد بأصبعه تحت عنوان «أيها البريطانيون كتشنر يريدكم أن تنضموا لجيش بلدكم. يحيا الملك». ولكنه لم يكن البوستر الوحيد الذي اشتهر في ذلك الوقت فقد ظهرت أيضاً العديد من الأفكار التي أسهمت في جهود الدفاع المدني، ومنها صورة لمواطن يلقّن ابنته درساً وهي تسأله ببراءة: ماذا فعلتَ في الحرب العظمى يا أبي؟
- لم يطبق التجنيد الإجباري في الحرب العالمية الأولى في بريطانيا حتى شهر مارس (آذار) عام 1916. وكان الجنود قبل ذلك يدخلون الجيش بالتطوع. واعتمدت الحكومة البريطانية على اللوحات الإعلانية لتشجيع الإقبال على التطوع، خصوصاً من الطبقة المتوسطة التي تتوجه لها هذه اللوحة.
وكانت الحرب العالمية تُعرف باسم الحرب العظمى أثناء سنوات الحرب. ويهدف هذا «البوستر» إلى اللعب على مشاعر الأب الذي يظهر عليه التفكير العميق، عما يمكنه أن يقوله لابنته في فترة ما بعد الحرب.
- بوستر آخر يحمل صور عسكريين على دبابة ترفع العلم البريطاني وبجانبهم مجموعة من المدنيين يتناول كل منهم مهمة معينة، بينما يقف على مقربة منهم رجل بقبعة يبدو أن السؤال الرئيسي في البوستر «هل أنت معنا؟» موجه إليه. ونشر هذا البوستر على نطاق واسع في فترة ما قبل التجنيد الإجباري ضمن 200 بوستر، بعبارات مختلفة، وهدف واحد. ويقع هذا البوستر تحت رقم «112» وهو من تأليف الضابط البريطاني والكاتب روبرت بادن.
- «على الجبهة» هو اسم بوستر آخر عليه رسم لمجموعة من الجنود على خيولهم ينطلقون بجانب انفجار قريب منهم، مع رسالة موجهة للشباب البريطانيين بأن عليهم الانضمام إلى الرجال الشجعان على الجبهة والتطوع فوراً. وفي الوقت نفسه تم توزيع ملصق آخر عليه صورة رجل ثري مع خلفية مدافع ومعدات عسكرية مع نصيحة ضرورة الاستثمار في السندات العسكرية. وكانت الحكومة البريطانية تعتمد على القروض لتمويل العمليات العسكرية باهظة الكلفة. ولذلك أصدرت الحكومة في بداية عام 1914 سندات تدفع فوائد بنسبة 3.5 في المائة ثم فئة ثانية في عام 1915 بفوائد تبلغ نسبتها 4.5 في المائة، ارتفعت إلى خمسة في المائة في عام 1917. ولكن هذه القروض كانت بمثابة أعباء على الحكومات في فترة ما بعد الحرب وأسهمت في كساد الاقتصاد البريطاني وتراجع نفوذ الإمبراطورية فيما بعد.
- «خذ مكانك» هو عنوان ملصق آخر لطابور من الجنود في طريقهم إلى المعركة تتبعهم فئات مدنية من كل الطبقات الاجتماعية. وكانت الرسالة الواضحة هي تشجيع الشعب البريطاني على الالتحاق بالقوات المسلحة لخوض الحرب. وإذا كان لدى البعض أي شك في أن التطوع للحرب من الأمور الحيوية كان الملصق التالي بالنيابة عن نساء بريطانيا يقول للمتطوعين: «نساء بريطانيا يردن لك أن تذهب». ويصوّر سيدتين وصبية ينظرن من أمام نافذة باتجاه الشارع بينما الجنود يتوجهون إلى المعركة.
- من الملصقات المؤثرة ما كان يصور جندياً بريطانياً تقليدياً في غلالة حرب رومانية يحمل العَلَم البريطاني بيد ويقاتل بسيفه بيده الأخرى. وكان عنوان الملصق «تذكر سكاربورو! تطوع الآن». ويحكي الملصق قصة هجوم بحري ألماني على مدينة سكاربورو في ديسمبر (كانون الأول) عام 1914. وكان الهجوم ضمن خطة ألمانية لسحب الأسطول البريطاني الأكثر تفوقاً إلى منطقة بحر الشمال حيث زرع الألمان المئات من الألغام البحرية والغواصات الألمانية. وأسفر الهجوم على المدينة الساحلية عن مقتل 122 مواطناً مدنياً وجرح 443 آخرين. وكانت مدينة سكاربورو غير محصنة وليس بها أي منشآت عسكرية وكانت مثالاً للمدينة المسالمة. ولذلك فجّر هذا الهجوم موجة تعاطف واستنكار هائلة بين الرأي العام البريطاني. ولذلك كان النداء للتطوع للقتال حتى لا تتكرر مأساة سكاربورو.
- من الملصقات الأخرى التي ظهرت أثناء الحرب العالمية الأولى ما يدعو القارئ إلى أن يتناول «سيف العدل»، وظهر هذا الملصق في عام 1915 قبل تطبيق التجنيد الإجباري. وعلى الملصق كان رسم لامرأة تخرج من البحر وهي تحمل سيفاً بينما تبدو خلفها سفينة تغرق.
وترمز الصورة إلى سفينة ركاب بريطانية اسمها «لوسيتانيا» أغرقها الألمان بطوربيد من غواصة في منطقة جنوب الساحل الآيرلندي يوم 7 مايو (أيار) عام 1915 أثناء قدومها من نيويورك إلى ميناء ليفربول. وأسفر الحادث عن مقتل 1200 مسافر مدني على السفينة. وكان الملصق من تصميم سير برنارد بارتريدج الذي عمل رسام كاريكاتير في مجلة «بانش» حتى وفاته في عام 1945.
وأسهمت هذه الملصقات في تجنيد المزيد من الشباب لجهود الحرب، ولكن استمرار المعارك مع الخسائر البشرية المتزايدة دفع الحكومة البريطانية إلى تطبيق التجنيد الإجباري.


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.