منطقة الشهباء... مختبر سوري لصفقات «ضامني» عملية آستانة

«الشرق الأوسط» تستطلع خطوط التماس بين روسيا وتركيا وإيران شمال حلب... وأوضاع نازحي عفرين الكردية

TT

منطقة الشهباء... مختبر سوري لصفقات «ضامني» عملية آستانة

أمام مركز المصالحة الروسية في قرية كشتعار التابعة لبلدة تل رفعت على بعد 35 كلم شمال حلب، يتجمع حشد شعبي يقدر عددهم بنحو 5 آلاف شخص تتقدمهم أمهات وذوو المقاتلين الذين سقطوا في المعارك التي خاضتها «وحدات حماية الشعب» الكردية في عفرين قبل عام. رفع محتجون لافتة كبيرة كتب عليها بالخط العريض: «لا للصمت الدولي على الاحتلال التركي للشمال السوري»، فيما كتبت لافتات ثانية بلغات عربية وإنجليزية وتركية وكردية تطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوضع حد للنزاع الدائر في الشمال السوري.
أمام باب المبنى كان يقف جنود من القوات النظامية السورية، بينما تمركز جنود روس في نقاط مراقبة فوق المكان وفرضوا طوقاً أمنياً على المنطقة. يخرج ضابط سوري برتبة عقيد ويطلب من المحتشدين أن يدخل مجموعة من الأشخاص ليسلموا مطالبهم للجانب الروسي.
يدخل 4 أشخاص؛ سيدتان ورجلان من ذوي ضحايا «الوحدات». يرفض الجنرال الروسي السماح لزواره بدخول المبنى بحجة أنها نقطة عسكرية لا يسمح لأحد من غيرهم بدخولها. يعقد الجانبان اجتماعهم واقفين على أقدامهم في ساحة المركز. يترأس الاجتماع جنرال رفيع المستوى بحضور ضباط سوريين أحدهم كان برتبة عقيد.
شازيه؛ امرأة متقدمة بالعمر قتل ابنها ويدعى علي ذو 20 عاماً قبل عام وشهرين في المعارك التي دارت في مسقط رأسها. كانت إحدى المشاركات في الاجتماع، ونقلت أنّ مركز المصالحة الروسية تواصلوا معهم قبل أسبوع وطلبوا اجتماعاً الذي كان الرابع من نوعه يعقد خلال شهرين.
ولدى حديثها لـ«الشرق الأوسط»، قالت: «الروس فضلوا الاستماع. قلنا لهم إن تركيا دخلت بضوء أخضر روسي، واعتبرنا خيانة روسيا أكبر من التدخل التركي، طلبنا منهم الاعتراف بخيانتهم تجاه الشعب الكردي، بسببهم سقط أكثر من ألف ضحية بعفرين».
استمر الاجتماع ساعة و20 دقيقة، الجنرال الروسي دوّن كل كلامهم ومطالبهم على دفتره الخاص، أكد أنه سينقلها للقيادة الروسية، وتضيف شازيه: «قال لنا إن عفرين لن تسترجع عسكرياً، ولكن سياسياً بالإمكان التفاوض لاستعادتها، ولن يخرج الجيش الحر إلا بتوافق دولي وإقليمي وبموافقة الجانب التركي»، وتابعت: «عرض علينا فكرة سفر وفد من أهالي عفرين إلى موسكو وعقد لقاءات رسمية مع القيادة الروسية».
وبحسب شازيه، أكدوا للوفد الروسي والضباط السوريين، «أن عفرين جزء من سوريا، وغوطة دمشق جزء من سوريا، كيف تكونون جزءاً من سياسة التغير الديموغرافي بترحيل سكان الغوطة وإسكانهم في عفرين، والسكوت عن تهجير أهالي عفرين الكردية؟»، على حد تعبيرها.
أما حسن بركو أحد المشاركين في الاجتماع مستبعداً وثوقه بالجانب الروسي، فذكر أن اللقاء كان الرابع وفي كل مرة يكفي الجانب الروسي بالوعود، «قلنا لهم إننا نستشعر بالخطر للتطورات الميدانية في مدينة إدلب وإمكانية شن عملية عسكرية هناك، نخشى أن يتفق الروس والأتراك على إخراج نازحي عفرين من بلدة تل رفعت».
بدوره، شدّد الجنرال الروسي على أن تركيا كانت مصممة على اجتياح عفرين، وهي دولة في حلف شمال الأطلسي (ناتو) وأنهم في مواجهة مع «الناتو»، وبحسب حسن: «قاطعته وقلت له عندما وافقتم على دخول الجيش التركي إلى عفرين كان الهدف كسب تركيا لانسحابها من حلف الناتو، مقابل انسحاب المعارضة من غوطة دمشق وتسليمها للنظام السوري»، وتابع كلامه: «قلنا لهم وبشكل رسمي؛ في حال لم تتحرك روسيا لإخراج الجيش التركي والفصائل المسلحة التابعة لها وإخراجهم من عفرين، سنطلب من (قوات سوريا الديمقراطية) تحرير عفرين عسكرياً ومساعدتنا لاستردادها».
ينتهي الاجتماع وتفض المظاهرة ويتوعد المحتجون باستمرار الاحتجاجات حتى تلبية مطالبهم ومعرفة مصير مدينتهم عفرين.

- ذكريات وصور
في معسكر العودة الذي بني لنازحي مدينة عفرين في بلدة تل رفعت. تلبس أمينة ذات الـ30 عاماً زياً كردياً فلكلورياً؛ ثوباً ملوناً طويلاً وإيشارباً بلون فاتح، علامات التقدم بالسن بدت على وجهها بسبب الظروف والمصاعب التي مرت بها على حد قولها، تروي كيف ودعت أبويها في منتصف شهر مارس (آذار) العام الماضي، ولم تعلم أن الفراق سيطول، حيث رحلت برفقة زوجها وأطفالها الصغار مع قوافل المهجرين من مدينتهم متوجهين إلى مناطق الشهباء.
انتهى بها المطاف اليوم للعيش مع أسرتها في خيمة في معسكر العودة في بلدة تل رفعت، تكاد تكون مساحتها نحو 30 متراً، لكنّ خبراً مفرحاً وصلها قبل أيّام: «منذ ذلك الوقت فقدت أرقام الهواتف ومعظم أقربائنا هاجروا كحالنا، عن طريق الصدفة تعرفت على شخص أهله يسكنون بالقرب من ضيعتنا وعرفوا أهلي، تواصلت معهم على الفور، وحصلت على رقم والديّ ووصلت إلي صورتهما على تطبيق واتساب».
عندما شاهدت أمينة صورتهما وكيف غزا الشيب شعر أبويها اللذين لم يتجاوزا 60 عاماً، شعرت بحزن عميق، وقالت: «قرأت الكثير في عيونهم ووجوههم، حزناً ووحدة وقهراً لفقدان جميع الأبناء والبنات»، رفعت يديها إلى السماء وقالت: «يا ربي ماذا فعلت بنا هذه الحرب، ومتى تنتهي؟»، فوالدتها فقدت نظرها جراء مرض السكري، «بعد خروجنا جميعاً لم تتحمل الوضع وبسبب بكائها فقدت نظرها، عندما اتصلت بها قالت لي: أنتظر عودتكم ليعود لي نظري وأشوفكم من جديد، أو تفضل الموت على هذه الحياة».
وبحسب إدارة مخيم العودة، يسكن الكامب نحو 500 عائلة ويبلغ عدد قاطنيه نحو 3 آلاف نازح، من بين 5 مخيمات منتشرة في مناطق الشهباء، يسكنها ثلث أهالي عفرين النازحين الذين يتجاوز عددهم 130 ألفاً.
تروي زنارة (25 سنة) المتحدرة من ناحية جنديرس التابعة لمدينة عفرين وتعيش في مخيم العودة، أنها لن تنسى طوال حياتها يوم 18 مارس وتسرد تفاصيله كأنها حدثت قبل قليل. ارتسمت علامات الحزن على وجهها لتقول: «يومذاك صعدنا إلى جبل الأحلام غرب عفرين 3 مرات هرباً من الجيش التركي والفصائل، آنذاك كنت حاملاً بطفلتي، وها هي اليوم أصبح عمرها 10 أشهر ولا نزال ننتظر لحظة العودة».
آنذاك كان المشهد مقيتاً بعد صعود معظم أهالي عفرين إلى جبل الأحلام، ووصفته قائلاً: «كأنه يوم الحشر، كل الناس كانوا ينظرون بحرقة إلى مدينتهم وكيف تسقط بيد الجيش التركي والمعارضة، بكيت كثيراً لأنني فقدت كل شيء، منزلي وأحلامي ومن تبقى من أهلي».
تنهدت واغرورقت عيناها بالبكاء، لتضيف: «فقدنا أخي كان عمره 5 سنوات، ضاع من والدتي وبحثنا عنه كثيراً دون جدوى، ولم يكن بمقدورنا العودة لعفرين للبحث عنه، حتى اليوم لا نعلم عنه أي شيء. والديّ يبكيان عليه يومياً».
أما نارين التي دخلت عقدها الخامس وتخشى أن تمضي بها الحياة وتبقى في مخيمات النزوح والتشرد، لم تتوقع أن ينتهي بها الأمر لتشارك ابنها وزوجته في خيمة صغيرة بكامب لا يبعد سوى 20 كلم عن مسقط رأسها. كانت تحمل بيدها جوالها المحمول تشاهد صور منزلها الكائن في ناحية بلبلة، لتقول وهي تشير إلى درج مرتفع ومنزل قديم: «هذا مدخل منزلي تحيطه أشجار الورد والزيتون، في مثل هذه الأيام من الربيع يصبح المكان جميلاً للغاية». توقفت عن الكلام وهي تقلب الصور لتسترجع الذكريات، وأضافت بصوت منخفض مكسور بدا عليه التعب والحزن: «أحد جيراننا قال لنا قبل أيام قطع مسلحون أشجار الزيتون وعبثوا بأشجار الورد في منزلنا، أخشى أن أموت هنا بعيدة عن منزلي وأهلي ويبقى هؤلاء الغرباء يعبثون بممتلكاتنا».

- احتجاجات ونداءات
في قرية صوغانكه التابعة لناحية شيراوا جنوب شرقي مدينة عفرين الواقعة شمال سوريا، اعتصم آلاف النازحين الذين أجبروا على ترك ممتلكاتهم قبل عام حاملين لافتات منددة بالتدخل التركي، وسكوت المجتمع الدولي على عمليات التهجير والتغيير الديموغرافية لمدينتهم ذات الغالبية الكردية. المعتصمون اتخذوا موقعاً قريباً يقابل قرى كيمار وبراد وباصلة التي خضعت منذ مارس (آذار) 2018 لنفوذ فصائل سورية معارضة مدعومة من الجيش التركي، وعلى مرمى نظرهم كانوا يشاهدون أشجار الزيتون وحقول القمح وقمة جبل سمعان الخضراء.
على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية وأعمارهم وانتماءاتهم السياسية، شارك المحتجون بقناعة أنهم إذا استطاعوا مجرد الوقوف هناك لوقت كافٍ فسوف تتحقق مطالبهم ومناشداتهم بالعودة إلى مسقط رأسهم. وعفرين شهدت معارك عنيفة بين شهري يناير (كانون الثاني) ومارس استمرت شهرين؛ تسببت في فرار مئات الآلاف من أبناء القومية الكردية خشية من الملاحقة والزج في السجون والمعتقلات.
يعتقدون أن اعتصامهم السلمي في هذه البقعة الجغرافية يمكن أن يدفع الدولة نفسها والجهات العسكرية على التنحي ومغادرة المدينة الملاصقة للحدود مع تركيا، ورغم كل ما بينهم من تباينات واختلافات ومناطق مختلفة بالسكن، لم يتطلب الأمر من المحتجين الذين كان يصل عددهم في ساعات الصباح الباردة إلى 5 آلاف شخص، سوى بعض الدعوات الشعبية من شخصيات محلية يتحدرون من عفرين، واليوم يقطنون في مخيمات منتشرة بالشهباء تقع على بعد عدة كيلومترات من مسقط رأسهم.
بالاعتصام الشعبي كان يفوق عدد النساء والفتيات الرجال والشباب منهم، حيث ضم مزيجاً من الفتية وكبار السن بمشاركة أطباء وممرضين ومحامين ونشطاء حقوقيين وفنانين وإعلاميين. في أحاديثهم، بدت مشاعر الكره والعداء واضحة بشدة تجاه روسيا التي سمحت بفتح المجال الجوي للطيران التركي، ومن تركيا بعد توغل جيشها في مدينتهم العام الماضي ودعمت فصائل وجهات إسلامية سورية وأسكنوا آخرين محلهم.
يروي حسين (50 سنة) المتحدر من قرية دير مشمش التابعة لناحية شيراوا غرب عفرين، كيف نزح قبل عام وشهرين رفقة أسرته بعد دخول الجيش التركي والفصائل الموالية له، قاصداً أقرباءه الساكنين في قرية صوغانكه المواجهة لمسقط رأسه. شارك في الاعتصام وكان يحمل في يده اليسرى أغصاناً من شجر الزيتون وفي الثانية رفع صورة مقاتل كردي سقط في معارك عفرين.
ولدى حديثه نقل أنه يومياً يذهب إلى الحدود الفاصلة بين قريته ومكان إقامته الجديد، ليقول: «على بعد أمتار أشاهد بحرقة أشجار الزيتون الخضراء يخالجني شعور حزن عميق، فبسبب الحرب لا أستطيع الذهاب إلى حقلي وممتلكاتي».
وبحسب سكان القرية التابعة لناحية شيراوا التي باتت منقسمة السيطرة؛ فقد تعرضت لأكثر من 300 قذيفة الأمر الذي تسبب في تهجير قسم من الأهالي الذين فضلوا الابتعاد عن نيران المعارك، ونقلوا روايات بتعرض كثير من أصحاب المواشي والأغنام إلى السرقة والخطف ويتهمون الفصائل السورية المعارضة لإجبار من تبقى على الرحيل وترك أملاكه وقريته.
تقول فاطمة (35 سنة) المتحدرة من قرية صوغانكه، إنّ نصف سكان قريتها هاجروا عنها مجبرين، بسبب القذائف العشوائية التي تسقط عليهم، «كل أسبوع تسقط قذيفة أو أكثر، بقي نحو 100 أسرة من أصل 250 عائلة كانوا يسكنون قبيل اندلاع المعارك»، فالقرية باتت نقطة تماس و«حدوداً من نار» على حد وصف سكانها، وقد نالت النيران أشجار الزيتون التي بقي قسمها الأكبر بالطرف الثاني، وتضيف فاطمة: «لا يستطيع أي شخص الاقتراب منها بحجة أنها منطقة محظورة، كما عمد عناصر الفصائل المسلحة إلى حرق الأراضي التي كانت مزروعة بالقمح والشعير وقطع أشجار الزيتون».
ولا تزال تتذكر اليوم الذي سقطت على منزلها قذيفة دمرت القسم الأكبر منه، وتابعت: «يوم سأتذكره طوال حياتي، كنا نجلس بالصالون عند المساء وإذ تسقط قذيفة هاون، حقيقة لا أعلم كيف نجوت وحملت أطفالي وهربنا، حتى اليوم بيتي مدمر وأخشى التعرض لموقف مشابه».
بينما نقل قادو الرجل الأربعيني الذي يمتلك قطيعاً من الأغنام، أن المساحة التي باتت مخصصة لرعي الأغنام في قرية صوغانكه، محصورة جداً، فالفصائل المسلحة في الطرف الثاني تمنع اقتراب أي شخص، والسبب أنه «قبل فترة تعرض راعٍ للخطف، طلبوا فدية من أهله مليون ليرة وأجبروا على دفعها، كما أخذوا أغنامه»، وما يزيد من مصاعب الحياة في هذه القرية على حد وصف قادو، «أن هناك أكثر من ألفي رأس غنم والمساحة القابلة للرعي لا تتعدى بضعة كيلومترات، فقد تحولت لنقطة حدودية مع جهات عسكرية متحاربة».
أما لورين (55 سنة) التي تمتلك أسرتها 500 شجرة زيتون تقع غرب قرية صوغانكه، في المنطقة الفاصلة بين الجهات المتصارعة بين الجيش التركي وفصائل الجيش الحر، ومناطق انتشار القوات السورية والشرطة العسكرية الروسية، فتقول بحسرة: «منذ عام وشهرين لم نذهب إلى حقل الأشجار، حتى محصول العام الماضي لم نجنه ولا يزال بالشجر، يمنع أي شخص الاقتراب من تلك المناطق، فهو مهدد بالقتل أو الخطف»، وأشارت إلى أن مصيرهم بات مجهولاً. وتضيف: «ما ذنب تلك الأشجار؟ كما أن العائلات انقسمت هنا وهناك حيث يعيشون على بعد أمتار لكنها تحولت لحدود دول».

- صراع على النفوذ
تقع منطقة الشهباء التي باتت ملاذاً آمناً لنازحي عفرين، وسط مثلث، تحدها 3 جهات دولية وإقليمية متناقضة بالحرب السورية لكن يجمعها مسار آستانة. فتركيا وفصائل معارضة أطلقت عملية غصن الزيتون في 18 يناير 2018 وسيطرت على مدينة عفرين في مارس (آذار) بالعام نفسه، وانتزعت مركز مدينة عفرين ونواحيها من قبضة «الوحدات»، فيما بقيت ناحية شيراوا منقسمة السيطرة. وكانت قد نفذت عملية «درع الفرات» منتصف 2016 وبسطت السيطرة على مدن غرابلس والباب والراعي وصولاً إلى بلدة أعزاز (شمال)، وباتت تسيطر على كامل المناطق الواقعة شمال شرقي حلب.
أما القوات الحكومية السورية والشرطة العسكرية الروسية، فتنتشر على طول الحدود الفاصلة مع الجيش التركي عند ناحية شيراوا جنوب شرقي عفرين، وتراقب وقف إطلاق النار في نواحي تل رفعت وفافين وأحرص وكفر نايا وقرى حربل وشيخ عيسى وكفر نايا وكفر ناصح، التي يطلق عليها إقليم الشهباء، في وقت تتمركز فيه عناصر «حزب الله» اللبناني والقوات الإيرانية والميليشيات الإيرانية الموالية للجيش السوري في بلدتي نبل والزهراء الشيعيتان المتاخمتين لمدينة عفرين وتقع في جهتها الجنوبية الشرقية.
وطالبت تركيا مراراً بانسحاب «وحدات حماية الشعب» من المناطق الواقعة شرق وغرب نهر الفرات، حيث تخشى من قيام حكم ذاتي قد يحصلون عليه في بلد يشهد نزاعاً دموياً منذ 8 سنوات، الأمر الذي سيدفع أبناء جلدتهم كُرد تركيا للمطالبة بالمثل، إذ تتهم الحكومة التركية ارتباط هذه القوة الكردية بـ«حزب العمال الكردستاني» المحظور لديها، والأخير يخوض تمرداً مسلحاً منذ 4 عقود بهدف نيل الأكراد استقلالهم في جنوب شرقي تركيا، في وقت تنفي فيه قيادة الوحدات أي صلة بحزب العمال، وهو ما تؤكده الولايات المتحدة التي تدعم الوحدات في معركتها ضد تنظيم داعش الإرهابي شرق الفرات.
ومنذ ذلك الحين، تحدثت عدة منظمات دولية حقوقية ووسائل إعلام عن تردّي الأوضاع الأمنية والإنسانية في هذا الجزء من سوريا، حيث نزح على أثر ذلك ما يزيد على نصف سكان المدينة البالغ عددهم قبل الحملة نحو نصف مليون نسمة، وتمركزوا في مخيمات بمناطق الشهباء في ريف حلب الشمالي على بعد عشرات الكيلومترات من منازلهم، وحلّ مكانهم في عفرين نازحون من مدينة دوما وبلدات الغوطة الشرقية وحمص وحماة وغيرها من سكان المناطق التي استعادتها القوات الحكومة من الفصائل المعارضة الموالية لتركيا، وأجبروا على ترك مناطقهم وفق اتفاق مسار آستانة.
وترى هدية يوسف القيادية في «منسقية مؤتمر ستار النسائي» وتنشط في منطقة الشهباء، أنّ عفرين سقطت «ضحية مؤامرة» لاتفاقات آستانة بين الدول الفاعلة بالحرب السورية (روسيا وتركيا وإيران)، وتقول: «هدف روسيا إرضاء تركيا ببقائها في عفرين وقد تتنازل عن بلدة تل رفعت ومدن ثانية لكسبها في معركة إدلب المرتقبة، فروسيا والنظام ليسا بمقدورهما خوض المعركة دون كسب دعم تركيا».
وتنفذ القوات التركية منذ أسابيع عمليات هدم وجرف واسعة النطاق لمنازل وأملاك المدنيين في قرى جلبل وكيمار، بهدف استكمال أعمال بناء جدار إسمنتي لعزل مدينة عفرين عن محطيها السوري، حيث انتهت من بناء 500 متر بالقرب من قرية كيمار، وتشمل الخطة بناء نحو 70 كيلومتراً من الجدار بكتل إسمنتية خرسانية بالمنطقة داخل الأراضي السورية، تمتد من جبل سمعان وقرى مريمين شمالاً إلى كيمار جنوباً، مروراً ببلدة جلبل في الجنوب الغربي وربطها بأبراج مراقبة مع نقاط عسكرية للجيش التركي.
وتشير هدية يوسف إلى أنّ هدف تركيا من بناء الجدار «لعزل عفرين وفصلها عن عمقها السوري، والنظام لم يحرك ساكناً بخصوص ما يجري هناك من انتهاكات على يد الفصائل المسلحة».

- طريق غازي عنتاب ـ حلب
يجري الحديث حالياً عن صفقة صغيرة تتضمن انسحاب الشرطة الروسية من بلدة تل رفعت والسماح لتركيا وحلفائها بالدخول إلى شمال حلب وفتح الطريق الدولية «غازي عنتاب - حلب»، مقابل دخول روسيا وحلفائها إلى مثلث جسر الشغور لحماية قاعدة حميميم والتفكير بتشغيل طريق اللاذقية - حلب.
ولفتت الناشطة هدية يوسف إلى أن الطريق تمر ضمن المناطق المنقسمة، وفي حال دخلت التفاهمات حيز التنفيذ، قالت: «أعتقد ستنسحب روسيا لصالح تركيا من تل رفعت ومدن وبلدات محاذية للطريق، وبذلك ستكون مدينة حلب ثاني أكبر مدينة في سوريا مهددة بالخطر، ومنذ البداية كانت من بين أطماع تركيا».
ويشعر قياديون أكراد بـ«الغدر بسبب فتح روسيا المجال الجوي فوق عفرين للطيران التركي أثناء المعركة»، فالموقف الروسي، وبحسب قيادات كردية إزاء ما يجري في عفرين بمثابة «طعنة بالظهر»، إذ إن روسيا تحاول دعم تركيا والحكومة السورية في آن واحد.
وقال مظلوم عبدي القائد العام لـ«قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة أميركياً، في تصريحات صحافية نُشرت في 27 أبريل (نيسان) الماضي، إن إعادة عفرين لأهلها قضية محورية ولا يمكن التحدث عن أي تطور في الحل السياسي أو أمن واستقرار مناطق شمال وشرق سوريا من دون عفرين، «تشكل إعادة أهالي عفرين من دون استثناء وبحماية دولية وإعادة ممتلكاتهم المسلوبة، وإزالة التغيير الديمغرافي الحاصل وإعادة عفرين إلى وضعها الطبيعي العامل الحاسم في استمرارية المباحثات حول المنطقة الآمنة ونجاحها».
وعن «المنطقة الآمنة» التي صرح عنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وبحثها مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أكد كوباني: «نقبل فكرة المنطقة الآمنة التي تخدم الأمن والاستقرار في منطقة شرق الفرات بحماية دولية، والمباحثات للوصول إلى صيغة مقبولة من قبل كل الأطراف مستمرة إلى الآن»، مضيفاً: «نصر على أن تتجنب المنطقة الآمنة تدخلاً تركياً في الأراضي السورية، وعدم إعطاء الشرعية للوجود التركي، مقابل أخذ المطلب التركي فيما يتعلق بأمن حدودها بعين الاعتبار، بالطبع لا يمكن الوصول إلى تفاهم دائم مع تركيا من دون حل مسألة عفرين».
فيما تكتفي الحكومة السورية بانتقاد التدخل التركي في عفرين، وتصفه بأنه شكل من أشكال «الاحتلال»، لكنها لم تتخذ أي إجراء لمجابهته، ويحمّل نازحو عفرين القاطنين في المخيمات بمناطق الشهباء، مسؤولية ما يحدث في مدينتهم على النظام الحاكم وحليفته روسيا.
وخلال محادثات آستانة التي عقدت يومي 25 و26 أبريل (نيسان)، قال بشار الجعفري مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة في تصريحات صحافية، إنّ السلطات التركية «تحتل نحو 6 آلاف كيلومتر مربع من الأراضي السورية أي عفرين وغرابلس ومدن أخرى علاوة على إدلب وتنشئ الآن جداراً بطول 70 كلم جنوب منبج لفصلها عن حلب»، ولفت إلى أنّ مساحة الأراضي التي تسيطر عليها تركيا من الأراضي السورية تضاعفت بـ4 مرات من تلك الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل على الجولان السوري، وأضاف: «تحتل تركيا 4 أضعاف مساحة الجولان التي تحتلها إسرائيل، وبالتالي فإن سلبية تركيا تجاه الشعب السوري أسوأ 4 مرات من سلبية الاحتلال الإسرائيلي للجولان».



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».