انتصار الاشتراكيين الإسبان وملامح تغيّر اتجاه الرياح الأوروبية

في ظل مخاوف من صعود اليمين الشعبوي المتطرف

انتصار الاشتراكيين الإسبان وملامح تغيّر اتجاه الرياح الأوروبية
TT

انتصار الاشتراكيين الإسبان وملامح تغيّر اتجاه الرياح الأوروبية

انتصار الاشتراكيين الإسبان وملامح تغيّر اتجاه الرياح الأوروبية

عندما توجّه الإسبان، الأحد الماضي، إلى ثالث موعد لهم مع الانتخابات العامة في أقلّ من أربع سنوات، كانت الاستطلاعات قد «حسمت» فوز الحزب الاشتراكي العمّالي الإسباني ودخول «الورثة الشرعيين» للجنرال فرانشيسكو فرانكو إلى الندوة البرلمانية للمرة الأولى منذ وفاة الديكتاتور الذي حكم حتى منتصف سبعينات القرن الماضي. إلا أن الغموض كان لا يزال يخيّم على حجم النصر الاشتراكي المرتقب، وعلى عدد النوّاب الفائزين الذين ينادون بـ«نقاء» العرق الإسباني ويرفضون التمازج الثقافي والديني في البلد الذي انصهرت فيه الثقافات وتعايشت الأديان طوال قرون، مولّدة إحدى أجمل حقب التاريخ الأوروبي وأخصبها على صعيد العلوم والفنون والمعارف. أما الأسئلة التي كانت تحيّر الراصدين السياسيين للانتخابات فكان يدور معظمها حول نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع بعدما اعتاد الأوروبيون هجرتها في السنوات الأخيرة، والتي غالبا ما كان لها الدور الحاسم في ترجيح كفّة الفوز عند صدور النتائج النهائية.
توجّه الناخبون في إسبانيا إلى الانتخابات البرلمانية قبل أيام فيما يشبه المفاضلة بين الخوف والغضب: الخوف من الجنوح نحو مشاريع وأفكار سبق أن كلّفت البلاد حرباً أهلية أوقعت مليون قتيل وأغرقتها في ليل من الكوابيس والعزلة طيلة أربعين سنة... والغضب من رئيس الحكومة المستقيلة الذي خطف الحكم في غفلة التوتر الانفصالي واستشراء الفساد، والذي يتّهمه كثيرون بالخضوع لابتزازات الأحزاب الإقليمية وتدمير وحدة الدولة.

إقبال.. وانتصار اشتراكي
لكن على رغم هذا الخوف والغضب، سجّلت نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع هذه المرة 75.75 في المائة محطمة كل ما سبقها من أرقام قياسية، ودفعت بالحزب الاشتراكي العمالي الإسباني وزعيمه رئيس الوزراء الشاب بدرو سانتشيز (47 سنة) إلى إحراز أفضل النتائج منذ تسع سنوات، في تأكيد للمقولة الراسخة في السياسة الإسبانية بأن «اليمين يفوز في الانتخابات عندما يبقى اليسار في المنزل». لا، بل وضاعف الاشتراكيون النتيجة التي حصل عليها الحزب الشعبي، خصمهم التقليدي اليميني الذي يتناوبون معه على الحكم منذ أربعة عقود. إذ خسر «الشعبيون» نصف مقاعدهم وبات حزبهم مهدداً بالانقراض بعد ظهور اليمين المتطرف وصعود منافسه الليبرالي «مواطنون» الذي يطالب الآن بزعامة المعسكر اليميني.
هذا في معسكر اليمين، أما في معسكر اليسار، فعلى يسار الحزب الاشتراكي تراجع حزب «بوديموس» المتحالف مع الشيوعيين، وهو كان حليف سانتشيز في الحكومة السابقة. في حين تمكّن حزب اليسار الجمهوري الانفصالي من تحقيق النصر في إقليم كاتالونيا (قطالونية) للمرة الأولى في تاريخه، متقدّماً على الجناح الانفصالي الآخر الذي يقوده رئيس الحكومة الإقليمية السابق كارليس بوتشيمون الذي ما زال فاراً من العدالة.

اليمين المتطرف
ويبقى أن الجديد فعلاً في هذه الانتخابات هو ظهور الحزب اليميني المتطرف «بوكس» (تُكتب فوكس) للمرة الأولى في المشهد السياسي الوطني. «بوكس» برز وطنياً هذه المرة بعدما خاض الانتخابات الإقليمية الأخيرة في إقليم أندلوسيا (الأندلس)، حيث تمكّن اليمين مجتمعاً من انتزاع الحكومة الإقليمية من الاشتراكيين للمرة الأولى منذ أربعين سنة. لكن مع هذا، فإن النتيجة التي حصل عليها هذا الحزب في الانتخابات العامة (24 مقعداً)، في سياق هزيمة اليمين، لن تمكّنه من لعب دور مؤثر في اللعبة السياسية. ويرجّح أن يركّز نشاطه على الملفّ الانفصالي الكاتالوني الذي سيبقى الهاجس الأوّل للحكومة المقبلة والرحى التي ستدور حولها معظم التجاذبات السياسية.

المرأة... والاشتراكيون
كان لافتاً أيضاً في نتائج هذه الانتخابات أن النساء يشكلن 45 في المائة من عضويّة البرلمان الجديد، وهذه أعلى نسبة حاليّاً في أوروبا. ويعود هذا الحضور القوي للمرأة في المشهد السياسي الإسباني إلى التحرّكات والمظاهرات الحاشدة التي شهدتها إسبانيا في السنوات الأخيرة، مطالبة بتحقيق المساواة الكاملة بين المرأة والرجل؛ ما دفع بالأحزاب إلى المراهنة بقوة على دورها في الانتخابات الأخيرة. وتجدر الإشارة إلى أن النساء كن يشكلن ثلثي أعضاء حكومة تصريف الأعمال الاشتراكية المستقيلة.
ثمة عوامل عدّة تضافرت لتأمين هذا الفوز الواضح الذي حققه الاشتراكيون بعد سنوات من التراجع الذي كاد يصل حد استيعابهم في حزب «بوديموس». وهذا الأخير ظهر بعد أزمة عام 2008 على صهوة برنامج يساري كلاسيكي لقي تجاوباً سريعاً وواسعاً في الأوساط الاجتماعية التي كانت ترزح تحت تداعيات الأزمة الاقتصادية.
من ناحية ثانية، لا شك في أن ظهور الحزب اليميني المتطرف «بوكس» كان من العوامل الرئيسية التي دفعت بأعداد كبيرة من الناخبين المعتدلين الذين يحسمون أمرهم عادة في الساعات الأخيرة - وتقدّر الاستطلاعات نسبتهم بنحو 30 في المائة - نحو الحزب الاشتراكي الذي رفع وحده خطاب الاعتدال والحوار في وجه المواقف المتوتّرة والتحديّات التي أطلقتها الأحزاب الأخرى.
وتفيد التحليلات الأخيرة للانتخابات بأن الرفض الواسع للطروحات اليمينية المتطرفة في المجتمع الإسباني، الذي ما زالت ذكرى الحرب الأهلية والعقود الأربعة من الديكتاتورية حاضرة عنده، لعب دوراً حاسماً في تعبئة الناخبين الاشتراكيين الذين لم يشاركوا بنسبة عالية في المواعيد الانتخابية الأخيرة. وكان لظهور «بوكس»، أيضاً، الدور الأساسي في حصر الساحة الرئيسية لمعركة المعسكر اليميني في التنافس على الأصوات اليمينية والمحافظة، تاركا المشهد الوسطي الواسع للحزب الاشتراكي يغرف منه وحده.

العودة إلى الجذور
لكن، لعلّ العامل الأساسي في هذا الفوز الاشتراكي، الذي بات يشكّل حدثاً بارزاً في أوروبا منذ سنوات رغم أنه دون الأغلبية البرلمانية الكافية لتشكيل حكومة منفرداً، هو العودة إلى الجذور الاجتماعية التي ابتعدت عنها كثيراً الأحزاب الاشتراكية الأوروبية في السنوات الأخيرة... حتى بات من الصعب أحياناً التمييز بينها وبين الأحزاب الليبرالية أو المحافظة.
لقد برهنت الانتخابات الإسبانية على أن المراهنة على استعادة الهويّة اليسارية والبرنامج الاجتماعي مجزية في هذه المرحلة التي يصعد فيها اليمين المتطرف والشعبويّون من رحم الأزمة الاجتماعية والبطالة والفساد، ومن حطام الأحزاب التقليدية التي تشوّهت هويّاتها وفقدت بوصلتها العقائدية.
ومن باب الإنصاف لا بد من القول إن مراهنة الحزب الاشتراكي على استعادة المشروع الاجتماعي اليساري كانت سابقة لهذه الانتخابات، وظهرت بوضوح في البرنامج الحكومي الذي وضعه زعيمه الشاب بدرو سانتشيز في بداية ولايته مطلع الصيف الماضي. ويذكر أن أولى خطواته بُعيد وصوله إلى الحكم كانت القرار بفتح الموانئ الإسبانية أمام سفن إنقاذ المهاجرين في البحر المتوسط بعدما رفضت الحكومة الإيطالية استقبالها بإيعاز من نائب رئيسها ووزير الداخلية اليميني المتطرف ماتّيو سالفيني.
كذلك تمكّن سانتشيز، رغم عدم كفاية الدعم البرلماني لحكومته وتعقيدات الملفّ الانفصالي الكاتالوني، من تمرير مجموعة من القوانين والمراسيم الاشتراعية لمساعدة الفئات الاجتماعية الأكثر احتياجاً وتضرراً من الأزمة الاقتصادية.
ومعلوم أن سانتشيز كان قد جرّب حكومة الأقلية وما جرّته من صعوبات اضطرته إلى تعديل الكثير من مشاريعه أو التخلّي عنها، وحالت دون الموافقة على الموازنة العامة، وهو ما أجبره على حل البرلمان وإجراء انتخابات مسبقة. ومن هنا كان نداؤه المستميت في الشوط الأخير من الحملة الانتخابية «الفوز وحده لا يكفي للوصول إلى الحكم» بمثابة العنوان للمرحلة الراهنة: فوز واضح، لكن غير كافٍ لتشكيل الحكومة منفرداً من غير اللجوء إلى تحالفات.
النصر كان في حسابات الزعيم الاشتراكي الإسباني، وأيضاً كان في حساباته أنه لن يكون كافياً. لكن ما لم يكن في حساباته هي الهزيمة المدوّية التي أصيب بها خصمه الذي اعتاد التناوب معه على الحكم، وفشل اليمين مجتمعاً في الحصول على الأغلبية، إضافة إلى تراجع حليفه الطبيعي الذي كان يطالب بالدخول إلى الحكومة لدعمه هذه المرة، وفوز الجناح الانفصالي الكاتالوني الذي قرر عدم المضي في المواجهة الصدامية مع مدريد والتخلّي عن فكرة إعلان الاستقلال من طرف واحد وفتح باب الحوار مع الحكومة المركزية.

الحكومة الجديدة
كل ذلك دفع بالحزب الاشتراكي إلى الإعلان أن المطروح، في الوقت الحاضر، هو تشكيل الحكومة منفرداً، لكنه منفتح على الحوار مع كل القوى الممثلة في البرلمان من غير استثناء.
وبدأت المراكز المالية والمؤسسات الاقتصادية الكبرى الضغط منذ لحظة إعلان النتائج لتشكيل حكومة ائتلافية بين الاشتراكيين وحزب «مواطنون» الليبرالي المعتدل. لكن الفكرة تبدو مستبعدة في الوقت الحاضر من الطرفين؛ نظراً إلى العداء المستحكم بين القيادتين، وذلك بعدما رفض الاشتراكيون في العام الماضي عرضاً لتشكيل ائتلاف مع حزب «مواطنون» وقرروا التحالف مع الحزب اليساري «بوديموس» الذي اكتفى بالدعم البرلماني ولم يطالب يومها بالدخول إلى الحكومة.
وتتجه قيادة الحزب الاشتراكي حاليّاً إلى التريّث حتى الانتخابات الأوروبية المقررة يوم 26 مايو (أيار) الحالي، التي تتزامن مع الانتخابات الإقليمية والمحلية، قبل أن تبدأ المفاوضات الفعلية لتشكيل الحكومة. ومن المستبعد أن يكشف أي من الأحزاب عن أوراقه قبل اتضاح صورة المشهد المحلّي والإقليمي وتظهر المعادلة الجديدة لتوزيع القوى على الساحة الأوروبية.

تشرذم الانتخابات السابقة
الانتخابات الثلاث السابقة تمخّضت عن تشرذم متكرر للأحزاب والقوى الممثّلة في البرلمان، عطّل العجلة السياسية وقضى على الاستقرار السياسي الذي تميّزت به إسبانيا طوال ثلاثة عقود متتالية، وكان أحد العوامل الأساسية في نهضتها الاقتصادية.
وتعرّضت مدريد حقاً للملامة ولانتقادات كثيرة على الصعيد الأوروبي بسبب هذا التعطيل وقلّة الاستقرار السياسي في مرحلة حسّاسة من مسار المشروع الأوروبي، وفي وقت كانت إسبانيا قد بدأت باجتياز الشوط الأخير في عملية النهوض من الأزمة الاقتصادية. غير أن العيون الأوروبية، وبخاصة من العاصمة البلجيكية بروكسل، حيث مقرّ مفوّضية الاتحاد، كانت تراقب عن كثب الموعد الانتخابي الإسباني باعتباره الأخير في إحدى دول الاتحاد الكبرى، وهذا قبل الموعد الحاسم في انتخابات البرلمان الأوروبي أواخر الشهر الحالي.
ثم أن هذه كانت انتخابات تشارك فيها الأحزاب والقوى اليمينية المتطرفة والشعبويّة بقوّة للمرة الأولى بعد صعودها الكبير ووصولها إلى الحكم في عدد من الدول الأعضاء، وقصفها المركّز على المؤسسات الأوروبية معلنة عزمها على إجراء تغييرات جذرية فيها.
وبالفعل، لم يحدث في السنوات الأخيرة أن استأثرت انتخابات عامة في أوروبا بهذا القدر من الاهتمام خارج الحدود الوطنية؛ ولهذا كانت ردود الفعل والتعليقات سريعة في معظم العواصم الأوروبية التي قرأتها كلٌّ من منظورها الخاص وبما يتماشى مع تطلعاتها وحساباتها.

ارتياح أوروبي لنتيجة الاقتراع الإسباني
> كثيرون تنفّسوا الصعداء في المحيط الأوروبي لدى معرفة نتائج الانتخابات الإسبانية التي اعتبرتها بروكسل «أوّل انتصار على اليمين المتطرف... ومؤشراً إيجابياً في انتظار الانتخابات الأوروبية». أيضاً أعربت المفوضيّة الأوروبية عن أملها في أن تكون هذه النتائج «مدخلاً إلى تشكيل حكومة مستقرّة توافق على الموازنة العامة في أقرب الآجال».
مفوّض الشؤون المالية والاقتصادية الأوروبي بيير موسكوفيتشي، المعروف بانتقاداته اللاذعة للأحزاب اليمينية المتطرفة في القارة، قال في تصريح له بعد نتيجة الانتخابات الإسبانية: إن بروكسل لا تشعر بأي قلق من حكومة ائتلافية على اليسار «لأن الديمقراطية لا يجب أن تخيف أحداً». واعتبر أن نتيجة هذه الانتخابات جاءت دليلاً قاطعاً على أن الأغلبية الساحقة من الناخبين الإسبان قد صوّتت لصالح الخيارات الأوروبية، في تلميح إلى أن التصويت جاء عكس ما حصل في الانتخابات الإيطالية العام الماضي.
أما نائب رئيس المفوّضية الهولندي فرانز تيمرمان فقد اعتبر فوز بدرو سانتشيز وحزبه «انتصاراً لسياسة التضامن والإنصاف والحوار والمساواة والاستدامة التي قام لأجلها المشروع الأوروبي».

فرح أحزاب اليسار
وبطبيعة الحال، هلّلت الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، التي يكافح بعضها لمجرّد البقاء، كالحزب الاشتراكي الفرنسي و«باسوك» اليوناني والحزب الديمقراطي في إيطاليا، لفوز سانتشيز الذي علّق على نتائج الانتخابات بقوله: «لقد أظهرنا للعالم أن بوسعنا دحر الرجعيّة والتطرّف».
الاشتراكيون الفرنسيون، من جهتهم، اعتبروا فوز سانتشيز «أمثولة في المثابرة لكل الاشتراكيين في أوروبا»، في حين رأى فيه الاشتراكيون الحاكمون في البرتغال «انتصاراً على التوتاليتارية»، واعتبروا بشيء من الشماتة أن دخول اليمين المتطرف إلى البرلمان الإسباني «لم يكن تسونامي، بل موجة لا يزيد ارتفاعها على عشرة أمتار».
الإيطاليون أيضاً امتدحوا «سانتشيز الوسيم»، ودعا الكثير من قادتهم إلى الاقتداء بخياراته الاجتماعية «لأن السبيل الوحيد للتغلّب على التطرّف اليميني هو التطرّف في الاتجاه الاجتماعي المعاكس الذي تخلّت عنه الأحزاب اليسارية».

«نهضة تعيد أوروبا إلى جذورها»
في المقابل، ورغم نكسة اليمين المتطرف، تسابقت الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا وقياداتها على تهنئة حزب «بوكس» (فوكس)، الذي قال عنه سالفيني – القيادي اليميني زعيم حزب «الرابطة» ونائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية الإيطالي - بأنه «تجاوز فكرة اليمين واليسار». كذلك رأى فيه زعيم «البديل لألمانيا» بداية «نهضة أوروبية تعيد القارة إلى جذورها الحقيقية وهويتها التاريخية».
لكن النهضة التي يتوقّف عندها المراقبون اليوم، ويرشّحون سانتشيز لقيادتها، هي نهضة الأحزاب الاشتراكية الأوروبية التي بدأت تظهر بوادرها الأولى في الانتخابات العامة الفنلندية التي أجريت منذ أسبوعين وفاز فيها الحزب الاجتماعي الديمقراطي بفارق ضئيل على التحالف اليميني المتطرف. أيضاً في الدنمارك، حيث ترجّح الاستطلاعات فوز اليسار في الانتخابات العامة منتصف الشهر المقبل. ثم إنه ينتظر أن يكرّر الاشتراكيون البرتغاليون فوزهم في الانتخابات المقبلة، في حين بدأ الحزب الديمقراطي الإيطالي يستعيد بعضا من التأييد الذي خسره لصالح الشعبويين اليمينين الذين أصيبوا بهزائم متكررة في الانتخابات المحلية الأخيرة.
لقد أعاد فوز الاشتراكيين الإسبان بعض الأمل إلى الخائفين على «المشروع الأوروبي» من صعود اليمين المتطرف والشعبويين الذين يُخشى دخولهم بقوّة إلى البرلمان الأوروبي أواخر هذا الشهر. وهذا، مع أن الاستطلاعات الأخيرة ترجّح احتفاظ الحزب الشعبي الأوروبي بالكتلة الأكبر، لكن بتراجع ملحوظ في عدد المقاعد، وبقاء الاشتراكيين في المرتبة الثانية مع تراجع أيضا في عددهم... قد يرتفع قليلاً إذا تقرّرت مشاركة البريطانيين في هذه الانتخابات. في أي حال، وأياً تكن الصيغة التي ستستقرّ عليها الحكومة الإسبانية بعد الانتخابات الأوروبية، ستكون إسبانيا أكبر دولة في الاتحاد بحكومة اشتراكية. كما أنها ستكون مرشّحة لكي تلعب دوراً مهماً في المشهد السياسي الأوروبي المقبل على توازنات جديدة بين العائلات السياسية الكبرى، وبخاصة بعد خروج بريطانيا والوضع غير المستقرّ في إيطاليا، حيث لم يعد الحديث اليوم عمّا إذا كانت ستسقط الحكومة الائتلافية، بل عن موعد سقوطها وما سيأتي بعدها.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.