انتصار الاشتراكيين الإسبان وملامح تغيّر اتجاه الرياح الأوروبية

في ظل مخاوف من صعود اليمين الشعبوي المتطرف

انتصار الاشتراكيين الإسبان وملامح تغيّر اتجاه الرياح الأوروبية
TT

انتصار الاشتراكيين الإسبان وملامح تغيّر اتجاه الرياح الأوروبية

انتصار الاشتراكيين الإسبان وملامح تغيّر اتجاه الرياح الأوروبية

عندما توجّه الإسبان، الأحد الماضي، إلى ثالث موعد لهم مع الانتخابات العامة في أقلّ من أربع سنوات، كانت الاستطلاعات قد «حسمت» فوز الحزب الاشتراكي العمّالي الإسباني ودخول «الورثة الشرعيين» للجنرال فرانشيسكو فرانكو إلى الندوة البرلمانية للمرة الأولى منذ وفاة الديكتاتور الذي حكم حتى منتصف سبعينات القرن الماضي. إلا أن الغموض كان لا يزال يخيّم على حجم النصر الاشتراكي المرتقب، وعلى عدد النوّاب الفائزين الذين ينادون بـ«نقاء» العرق الإسباني ويرفضون التمازج الثقافي والديني في البلد الذي انصهرت فيه الثقافات وتعايشت الأديان طوال قرون، مولّدة إحدى أجمل حقب التاريخ الأوروبي وأخصبها على صعيد العلوم والفنون والمعارف. أما الأسئلة التي كانت تحيّر الراصدين السياسيين للانتخابات فكان يدور معظمها حول نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع بعدما اعتاد الأوروبيون هجرتها في السنوات الأخيرة، والتي غالبا ما كان لها الدور الحاسم في ترجيح كفّة الفوز عند صدور النتائج النهائية.
توجّه الناخبون في إسبانيا إلى الانتخابات البرلمانية قبل أيام فيما يشبه المفاضلة بين الخوف والغضب: الخوف من الجنوح نحو مشاريع وأفكار سبق أن كلّفت البلاد حرباً أهلية أوقعت مليون قتيل وأغرقتها في ليل من الكوابيس والعزلة طيلة أربعين سنة... والغضب من رئيس الحكومة المستقيلة الذي خطف الحكم في غفلة التوتر الانفصالي واستشراء الفساد، والذي يتّهمه كثيرون بالخضوع لابتزازات الأحزاب الإقليمية وتدمير وحدة الدولة.

إقبال.. وانتصار اشتراكي
لكن على رغم هذا الخوف والغضب، سجّلت نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع هذه المرة 75.75 في المائة محطمة كل ما سبقها من أرقام قياسية، ودفعت بالحزب الاشتراكي العمالي الإسباني وزعيمه رئيس الوزراء الشاب بدرو سانتشيز (47 سنة) إلى إحراز أفضل النتائج منذ تسع سنوات، في تأكيد للمقولة الراسخة في السياسة الإسبانية بأن «اليمين يفوز في الانتخابات عندما يبقى اليسار في المنزل». لا، بل وضاعف الاشتراكيون النتيجة التي حصل عليها الحزب الشعبي، خصمهم التقليدي اليميني الذي يتناوبون معه على الحكم منذ أربعة عقود. إذ خسر «الشعبيون» نصف مقاعدهم وبات حزبهم مهدداً بالانقراض بعد ظهور اليمين المتطرف وصعود منافسه الليبرالي «مواطنون» الذي يطالب الآن بزعامة المعسكر اليميني.
هذا في معسكر اليمين، أما في معسكر اليسار، فعلى يسار الحزب الاشتراكي تراجع حزب «بوديموس» المتحالف مع الشيوعيين، وهو كان حليف سانتشيز في الحكومة السابقة. في حين تمكّن حزب اليسار الجمهوري الانفصالي من تحقيق النصر في إقليم كاتالونيا (قطالونية) للمرة الأولى في تاريخه، متقدّماً على الجناح الانفصالي الآخر الذي يقوده رئيس الحكومة الإقليمية السابق كارليس بوتشيمون الذي ما زال فاراً من العدالة.

اليمين المتطرف
ويبقى أن الجديد فعلاً في هذه الانتخابات هو ظهور الحزب اليميني المتطرف «بوكس» (تُكتب فوكس) للمرة الأولى في المشهد السياسي الوطني. «بوكس» برز وطنياً هذه المرة بعدما خاض الانتخابات الإقليمية الأخيرة في إقليم أندلوسيا (الأندلس)، حيث تمكّن اليمين مجتمعاً من انتزاع الحكومة الإقليمية من الاشتراكيين للمرة الأولى منذ أربعين سنة. لكن مع هذا، فإن النتيجة التي حصل عليها هذا الحزب في الانتخابات العامة (24 مقعداً)، في سياق هزيمة اليمين، لن تمكّنه من لعب دور مؤثر في اللعبة السياسية. ويرجّح أن يركّز نشاطه على الملفّ الانفصالي الكاتالوني الذي سيبقى الهاجس الأوّل للحكومة المقبلة والرحى التي ستدور حولها معظم التجاذبات السياسية.

المرأة... والاشتراكيون
كان لافتاً أيضاً في نتائج هذه الانتخابات أن النساء يشكلن 45 في المائة من عضويّة البرلمان الجديد، وهذه أعلى نسبة حاليّاً في أوروبا. ويعود هذا الحضور القوي للمرأة في المشهد السياسي الإسباني إلى التحرّكات والمظاهرات الحاشدة التي شهدتها إسبانيا في السنوات الأخيرة، مطالبة بتحقيق المساواة الكاملة بين المرأة والرجل؛ ما دفع بالأحزاب إلى المراهنة بقوة على دورها في الانتخابات الأخيرة. وتجدر الإشارة إلى أن النساء كن يشكلن ثلثي أعضاء حكومة تصريف الأعمال الاشتراكية المستقيلة.
ثمة عوامل عدّة تضافرت لتأمين هذا الفوز الواضح الذي حققه الاشتراكيون بعد سنوات من التراجع الذي كاد يصل حد استيعابهم في حزب «بوديموس». وهذا الأخير ظهر بعد أزمة عام 2008 على صهوة برنامج يساري كلاسيكي لقي تجاوباً سريعاً وواسعاً في الأوساط الاجتماعية التي كانت ترزح تحت تداعيات الأزمة الاقتصادية.
من ناحية ثانية، لا شك في أن ظهور الحزب اليميني المتطرف «بوكس» كان من العوامل الرئيسية التي دفعت بأعداد كبيرة من الناخبين المعتدلين الذين يحسمون أمرهم عادة في الساعات الأخيرة - وتقدّر الاستطلاعات نسبتهم بنحو 30 في المائة - نحو الحزب الاشتراكي الذي رفع وحده خطاب الاعتدال والحوار في وجه المواقف المتوتّرة والتحديّات التي أطلقتها الأحزاب الأخرى.
وتفيد التحليلات الأخيرة للانتخابات بأن الرفض الواسع للطروحات اليمينية المتطرفة في المجتمع الإسباني، الذي ما زالت ذكرى الحرب الأهلية والعقود الأربعة من الديكتاتورية حاضرة عنده، لعب دوراً حاسماً في تعبئة الناخبين الاشتراكيين الذين لم يشاركوا بنسبة عالية في المواعيد الانتخابية الأخيرة. وكان لظهور «بوكس»، أيضاً، الدور الأساسي في حصر الساحة الرئيسية لمعركة المعسكر اليميني في التنافس على الأصوات اليمينية والمحافظة، تاركا المشهد الوسطي الواسع للحزب الاشتراكي يغرف منه وحده.

العودة إلى الجذور
لكن، لعلّ العامل الأساسي في هذا الفوز الاشتراكي، الذي بات يشكّل حدثاً بارزاً في أوروبا منذ سنوات رغم أنه دون الأغلبية البرلمانية الكافية لتشكيل حكومة منفرداً، هو العودة إلى الجذور الاجتماعية التي ابتعدت عنها كثيراً الأحزاب الاشتراكية الأوروبية في السنوات الأخيرة... حتى بات من الصعب أحياناً التمييز بينها وبين الأحزاب الليبرالية أو المحافظة.
لقد برهنت الانتخابات الإسبانية على أن المراهنة على استعادة الهويّة اليسارية والبرنامج الاجتماعي مجزية في هذه المرحلة التي يصعد فيها اليمين المتطرف والشعبويّون من رحم الأزمة الاجتماعية والبطالة والفساد، ومن حطام الأحزاب التقليدية التي تشوّهت هويّاتها وفقدت بوصلتها العقائدية.
ومن باب الإنصاف لا بد من القول إن مراهنة الحزب الاشتراكي على استعادة المشروع الاجتماعي اليساري كانت سابقة لهذه الانتخابات، وظهرت بوضوح في البرنامج الحكومي الذي وضعه زعيمه الشاب بدرو سانتشيز في بداية ولايته مطلع الصيف الماضي. ويذكر أن أولى خطواته بُعيد وصوله إلى الحكم كانت القرار بفتح الموانئ الإسبانية أمام سفن إنقاذ المهاجرين في البحر المتوسط بعدما رفضت الحكومة الإيطالية استقبالها بإيعاز من نائب رئيسها ووزير الداخلية اليميني المتطرف ماتّيو سالفيني.
كذلك تمكّن سانتشيز، رغم عدم كفاية الدعم البرلماني لحكومته وتعقيدات الملفّ الانفصالي الكاتالوني، من تمرير مجموعة من القوانين والمراسيم الاشتراعية لمساعدة الفئات الاجتماعية الأكثر احتياجاً وتضرراً من الأزمة الاقتصادية.
ومعلوم أن سانتشيز كان قد جرّب حكومة الأقلية وما جرّته من صعوبات اضطرته إلى تعديل الكثير من مشاريعه أو التخلّي عنها، وحالت دون الموافقة على الموازنة العامة، وهو ما أجبره على حل البرلمان وإجراء انتخابات مسبقة. ومن هنا كان نداؤه المستميت في الشوط الأخير من الحملة الانتخابية «الفوز وحده لا يكفي للوصول إلى الحكم» بمثابة العنوان للمرحلة الراهنة: فوز واضح، لكن غير كافٍ لتشكيل الحكومة منفرداً من غير اللجوء إلى تحالفات.
النصر كان في حسابات الزعيم الاشتراكي الإسباني، وأيضاً كان في حساباته أنه لن يكون كافياً. لكن ما لم يكن في حساباته هي الهزيمة المدوّية التي أصيب بها خصمه الذي اعتاد التناوب معه على الحكم، وفشل اليمين مجتمعاً في الحصول على الأغلبية، إضافة إلى تراجع حليفه الطبيعي الذي كان يطالب بالدخول إلى الحكومة لدعمه هذه المرة، وفوز الجناح الانفصالي الكاتالوني الذي قرر عدم المضي في المواجهة الصدامية مع مدريد والتخلّي عن فكرة إعلان الاستقلال من طرف واحد وفتح باب الحوار مع الحكومة المركزية.

الحكومة الجديدة
كل ذلك دفع بالحزب الاشتراكي إلى الإعلان أن المطروح، في الوقت الحاضر، هو تشكيل الحكومة منفرداً، لكنه منفتح على الحوار مع كل القوى الممثلة في البرلمان من غير استثناء.
وبدأت المراكز المالية والمؤسسات الاقتصادية الكبرى الضغط منذ لحظة إعلان النتائج لتشكيل حكومة ائتلافية بين الاشتراكيين وحزب «مواطنون» الليبرالي المعتدل. لكن الفكرة تبدو مستبعدة في الوقت الحاضر من الطرفين؛ نظراً إلى العداء المستحكم بين القيادتين، وذلك بعدما رفض الاشتراكيون في العام الماضي عرضاً لتشكيل ائتلاف مع حزب «مواطنون» وقرروا التحالف مع الحزب اليساري «بوديموس» الذي اكتفى بالدعم البرلماني ولم يطالب يومها بالدخول إلى الحكومة.
وتتجه قيادة الحزب الاشتراكي حاليّاً إلى التريّث حتى الانتخابات الأوروبية المقررة يوم 26 مايو (أيار) الحالي، التي تتزامن مع الانتخابات الإقليمية والمحلية، قبل أن تبدأ المفاوضات الفعلية لتشكيل الحكومة. ومن المستبعد أن يكشف أي من الأحزاب عن أوراقه قبل اتضاح صورة المشهد المحلّي والإقليمي وتظهر المعادلة الجديدة لتوزيع القوى على الساحة الأوروبية.

تشرذم الانتخابات السابقة
الانتخابات الثلاث السابقة تمخّضت عن تشرذم متكرر للأحزاب والقوى الممثّلة في البرلمان، عطّل العجلة السياسية وقضى على الاستقرار السياسي الذي تميّزت به إسبانيا طوال ثلاثة عقود متتالية، وكان أحد العوامل الأساسية في نهضتها الاقتصادية.
وتعرّضت مدريد حقاً للملامة ولانتقادات كثيرة على الصعيد الأوروبي بسبب هذا التعطيل وقلّة الاستقرار السياسي في مرحلة حسّاسة من مسار المشروع الأوروبي، وفي وقت كانت إسبانيا قد بدأت باجتياز الشوط الأخير في عملية النهوض من الأزمة الاقتصادية. غير أن العيون الأوروبية، وبخاصة من العاصمة البلجيكية بروكسل، حيث مقرّ مفوّضية الاتحاد، كانت تراقب عن كثب الموعد الانتخابي الإسباني باعتباره الأخير في إحدى دول الاتحاد الكبرى، وهذا قبل الموعد الحاسم في انتخابات البرلمان الأوروبي أواخر الشهر الحالي.
ثم أن هذه كانت انتخابات تشارك فيها الأحزاب والقوى اليمينية المتطرفة والشعبويّة بقوّة للمرة الأولى بعد صعودها الكبير ووصولها إلى الحكم في عدد من الدول الأعضاء، وقصفها المركّز على المؤسسات الأوروبية معلنة عزمها على إجراء تغييرات جذرية فيها.
وبالفعل، لم يحدث في السنوات الأخيرة أن استأثرت انتخابات عامة في أوروبا بهذا القدر من الاهتمام خارج الحدود الوطنية؛ ولهذا كانت ردود الفعل والتعليقات سريعة في معظم العواصم الأوروبية التي قرأتها كلٌّ من منظورها الخاص وبما يتماشى مع تطلعاتها وحساباتها.

ارتياح أوروبي لنتيجة الاقتراع الإسباني
> كثيرون تنفّسوا الصعداء في المحيط الأوروبي لدى معرفة نتائج الانتخابات الإسبانية التي اعتبرتها بروكسل «أوّل انتصار على اليمين المتطرف... ومؤشراً إيجابياً في انتظار الانتخابات الأوروبية». أيضاً أعربت المفوضيّة الأوروبية عن أملها في أن تكون هذه النتائج «مدخلاً إلى تشكيل حكومة مستقرّة توافق على الموازنة العامة في أقرب الآجال».
مفوّض الشؤون المالية والاقتصادية الأوروبي بيير موسكوفيتشي، المعروف بانتقاداته اللاذعة للأحزاب اليمينية المتطرفة في القارة، قال في تصريح له بعد نتيجة الانتخابات الإسبانية: إن بروكسل لا تشعر بأي قلق من حكومة ائتلافية على اليسار «لأن الديمقراطية لا يجب أن تخيف أحداً». واعتبر أن نتيجة هذه الانتخابات جاءت دليلاً قاطعاً على أن الأغلبية الساحقة من الناخبين الإسبان قد صوّتت لصالح الخيارات الأوروبية، في تلميح إلى أن التصويت جاء عكس ما حصل في الانتخابات الإيطالية العام الماضي.
أما نائب رئيس المفوّضية الهولندي فرانز تيمرمان فقد اعتبر فوز بدرو سانتشيز وحزبه «انتصاراً لسياسة التضامن والإنصاف والحوار والمساواة والاستدامة التي قام لأجلها المشروع الأوروبي».

فرح أحزاب اليسار
وبطبيعة الحال، هلّلت الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، التي يكافح بعضها لمجرّد البقاء، كالحزب الاشتراكي الفرنسي و«باسوك» اليوناني والحزب الديمقراطي في إيطاليا، لفوز سانتشيز الذي علّق على نتائج الانتخابات بقوله: «لقد أظهرنا للعالم أن بوسعنا دحر الرجعيّة والتطرّف».
الاشتراكيون الفرنسيون، من جهتهم، اعتبروا فوز سانتشيز «أمثولة في المثابرة لكل الاشتراكيين في أوروبا»، في حين رأى فيه الاشتراكيون الحاكمون في البرتغال «انتصاراً على التوتاليتارية»، واعتبروا بشيء من الشماتة أن دخول اليمين المتطرف إلى البرلمان الإسباني «لم يكن تسونامي، بل موجة لا يزيد ارتفاعها على عشرة أمتار».
الإيطاليون أيضاً امتدحوا «سانتشيز الوسيم»، ودعا الكثير من قادتهم إلى الاقتداء بخياراته الاجتماعية «لأن السبيل الوحيد للتغلّب على التطرّف اليميني هو التطرّف في الاتجاه الاجتماعي المعاكس الذي تخلّت عنه الأحزاب اليسارية».

«نهضة تعيد أوروبا إلى جذورها»
في المقابل، ورغم نكسة اليمين المتطرف، تسابقت الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا وقياداتها على تهنئة حزب «بوكس» (فوكس)، الذي قال عنه سالفيني – القيادي اليميني زعيم حزب «الرابطة» ونائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية الإيطالي - بأنه «تجاوز فكرة اليمين واليسار». كذلك رأى فيه زعيم «البديل لألمانيا» بداية «نهضة أوروبية تعيد القارة إلى جذورها الحقيقية وهويتها التاريخية».
لكن النهضة التي يتوقّف عندها المراقبون اليوم، ويرشّحون سانتشيز لقيادتها، هي نهضة الأحزاب الاشتراكية الأوروبية التي بدأت تظهر بوادرها الأولى في الانتخابات العامة الفنلندية التي أجريت منذ أسبوعين وفاز فيها الحزب الاجتماعي الديمقراطي بفارق ضئيل على التحالف اليميني المتطرف. أيضاً في الدنمارك، حيث ترجّح الاستطلاعات فوز اليسار في الانتخابات العامة منتصف الشهر المقبل. ثم إنه ينتظر أن يكرّر الاشتراكيون البرتغاليون فوزهم في الانتخابات المقبلة، في حين بدأ الحزب الديمقراطي الإيطالي يستعيد بعضا من التأييد الذي خسره لصالح الشعبويين اليمينين الذين أصيبوا بهزائم متكررة في الانتخابات المحلية الأخيرة.
لقد أعاد فوز الاشتراكيين الإسبان بعض الأمل إلى الخائفين على «المشروع الأوروبي» من صعود اليمين المتطرف والشعبويين الذين يُخشى دخولهم بقوّة إلى البرلمان الأوروبي أواخر هذا الشهر. وهذا، مع أن الاستطلاعات الأخيرة ترجّح احتفاظ الحزب الشعبي الأوروبي بالكتلة الأكبر، لكن بتراجع ملحوظ في عدد المقاعد، وبقاء الاشتراكيين في المرتبة الثانية مع تراجع أيضا في عددهم... قد يرتفع قليلاً إذا تقرّرت مشاركة البريطانيين في هذه الانتخابات. في أي حال، وأياً تكن الصيغة التي ستستقرّ عليها الحكومة الإسبانية بعد الانتخابات الأوروبية، ستكون إسبانيا أكبر دولة في الاتحاد بحكومة اشتراكية. كما أنها ستكون مرشّحة لكي تلعب دوراً مهماً في المشهد السياسي الأوروبي المقبل على توازنات جديدة بين العائلات السياسية الكبرى، وبخاصة بعد خروج بريطانيا والوضع غير المستقرّ في إيطاليا، حيث لم يعد الحديث اليوم عمّا إذا كانت ستسقط الحكومة الائتلافية، بل عن موعد سقوطها وما سيأتي بعدها.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.