بعد أكثر من أسبوعين على سقوط الرئيس السوداني عمر البشير، يترقب ملايين السودانيين الإجابة عن سؤال كيفية الوصول لانتقال ديمقراطي، يتجنب به عثرات الربيع العربي المشهودة، وكذلك تكرار تجارب الماضي المريرة. فالسودان منذ استقلاله رسمياً عن بريطانيا والانفصال عن مصر، عام 1956، تاريخه حافل بالثورات والانتفاضات التي عادة ما حادت عن تحقيق أهدافها، متحوّلة لانقلاب عسكري.
لقد أطاح الجيش السوداني بالبشير يوم 11 أبريل (نيسان) الجاري، بعدما أمضى ثلاثة عقود في الحكم، في أعقاب احتجاجات شعبية حاشدة استمرت نحو 4 أشهر. وعلى الأثر أُعلن تشكيل مجلس عسكري لإدارة شؤون الدولة لفترة انتقالية، وتعطيل الدستور، وإعلان حالة الطوارئ 3 شهور، وحلّ «المجلس الوطني» ومجالس الولايات ومؤسسة الرئاسة ومجلس الوزراء، وإقالة كثير من القيادات التنفيذية.
إلا أن هذه الإجراءات، ما زالت غير كافية للمعتصمين الذين تزداد أعدادهم قرب مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في العاصمة الخرطوم. فهؤلاء يرفضون مبدئياً تحديد المجلس العسكري «فترة انتقالية لمدة سنتين»، ويطالبون بدلاً من ذلك بسرعة تسليم السلطة للمدنيين، وسط تساؤلات حول الخطوات التي على المجلس اتخاذها لتفكيك كامل لأركان النظام السابق، وأسباب تأخره في ذلك.
تقود قوى «إعلان الحرية والتغيير» في السودان الاحتجاجات الشعبية منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وتضم هذه القوى بالأساس «تجمع المهنيين»، وعدداً من الأحزاب والمنظمات المدنية، منها «نداء السودان»، في حين يُتحفظ على مشاركة أحزاب أخرى، التي ينظر إليها البعض على أنها جزء من النظام السابق.
عثمان باونين، رئيس حزب «مؤتمر البجا» المعارض، ورئيس «تحالف الخلاص الوطني القومي» المنضوي ضمن قوى «الحرية والتغيير»، يقول إن «ترحيب المتظاهرين بانحياز الجيش للثورة، ودوره في إسقاط البشير، لا يعني القبول بتسلّمه السلطة... فالشعب السوداني فرح بالانتصار في خطوة، وهي إزاحة رأس النظام؛ لكنه بالطبع لن يقبل بالوضع الراهن».
وتابع باونين في حوار مع «الشرق الأوسط»: «إن الغالبية لا تمانع في تشكيل مجلس رئاسي يمزج بين الشخصيات المدنية والعسكرية البعيدة عن الانتماء للنظام السابق، لإدارة المرحلة الانتقالية، بالإضافة إلى (حكومة تكنوقراط) حتى إجراء انتخابات».
ثم أضاف: «علينا الاستفادة من التجارب السابقة وحماية الثورة من السرقة، حتى لا ننزلق في منحنى آخر. فالشعب يرى ضرورة تغيير جذري شامل للنظام وأذرعه وسياساته، وليس فقط تغيير الوجوه الرئيسية في المشهد، وهو مطلب يتنافى مع معلومات تشير إلى اتصالات بين المجلس العسكري ورموز النظام السابق من قيادات المؤتمر».
إزاحة «الحركة الإسلامية»
من ناحية أخرى، طرح القيادي السوداني المعارض، مخاوف الشعب السوداني من عودة الحركة الإسلامية للسلطة، مرة أخرى: «من الشباك... بعد طردهم من الباب» على حد وصفه. وأكد: «هناك تخوفٌ حقيقي من أن يسعى النظام إلى تكرار سيناريو عام 1989. وتصعيد مماثل للبشير الذي راوغ لإخفاء حقيقته الإخوانية... وهو سيناريو مرفوض».
واستطرد: «أحد أهداف الثورة حالياً هو تفكيك دولة (الإخوان) العميقة، وعودة ممتلكات وأموال الشعب السوداني التي استولى عليها النظام السابق، ومحاكمة رموزه بشكل كامل، وحل أي ميليشيات عسكرية خارج منظومة القوات المسلحة أو الشرطة، ونزع أسلحتهم وتسريحهم فوراً».
وبشأن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها الشعب السوداني، قال باونين: «حال تشكيل حكومة وطنية تحظى بتوافق شعبي، فإنها مطالبة بالتأكيد بوضع خطة تنفيذية لعودة النازحين وإعادة توطينهم ومعالجة احتياجاتهم، وتقديم رؤية لإنعاش الاقتصاد، وإيجاد حلول تنفيذية شاملة تعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي، وتوفير متطلبات الحياة الكريمة للمواطنين، وتحسين أوضاعهم المعيشية».
انضمام القضاة
وبدا أن المتظاهرين يكسبون كل يوم أراضي جديدة. فللمرة الأولى انضم إلى الاعتصام يوم الخميس الماضي، قضاة سودانيون، لـ«دعم التغيير، ولسيادة حكم القانون، ومن أجل استقلال القضاء»، على حد تعبيرهم.
وبعد تهديد المتظاهرين بتعليق الحوار، تراجع المجلس العسكري، المؤلف من عشرة ضباط، خطوة مهمة في محاولة منه لتجنب مزيد من التصعيد. واستبق المجلس مظاهرة مليونية دعت إليها قوى الاحتجاج الرئيسية للضغط على المجلس لنقل السلطة إلى إدارة مدنية، يوم الخميس الماضي، بالإعلان عن استقالة ثلاثة من أعضائه، والاتفاق مع «قوى الحرية والتغيير» على تشكيل «لجنة مشتركة لترتيبات الانتقال»، دون مزيد من الإيضاحات.
خطوات تصعيدية
مع هذا، يخشى البعض من أن يواجه السودان «انقلاباً مضاداً» ما لم يتوصل المجلس العسكري والمعارضة إلى اتفاق بشأن تسليم السلطة، إذ يهدد المحتجون في السودان بإعلان إضراب عام، ما لم يتم الاتفاق على تسليم السلطة. وهنا يقول صديق فاروق الشيخ، القيادي في الحراك: «لدينا خطوات تصعيدية... سنسيّر مواكب مليونية»، مضيفاً: «كما أننا نحضر لإضراب شامل».
ومن جهة ثانية، يحذّر الدكتور عصمت محمود، الأستاذ بجامعة الخرطوم، من تعنّت جميع الأطراف، و«تعلية» سقف مطالب المتظاهرين، معلّقاً لـ«الشرق الأوسط» بأن «الوضع في السودان سيئ جداً، والأمور معقدة... نتمنى أن يدرك الجميع ذلك».
وفي حين يواجه القائمون على الحراك الشعبي تهماً من بعض الأوساط بأنهم غير متفقين على مرشحين لتمثيلهم، يقول محمود: «حسابات القوى غير متوافقة حتى الآن، بينما الوضع في السودان لا يتحمل مزيداً من الانزلاق والتشرذم، أو أي اتجاه للفوضى... البنية العامة للسودان لا تتحمّل. نحن في دولة ليست راسخة أمنياً واقتصادياً».
ومن هذا المنطلق يحثّ محمود كلاً من المتظاهرين والمجلس العسكري على «تقديم تنازلات بهدف الوصول إلى حل توافقي»، معيباً على القوى التي تقود الاحتجاجات محاولتهم «إقصاء كثير من القوى». ومن ثم يتابع: «باستثناء حزب (المؤتمر الوطني)، باعتباره الحزب الحاكم لآخر لحظة، من غير المقبول من قوى (الحرية والتغيير) إقصاء الآخرين، فهذه ثورة شعب، وليس لأحد أن يقول: هي لنا وحدنا». ويضيف: «بعضهم يحتكرون القرار، ويحاولون فرض أسماء بعينها واستبعاد البقية».
أيضاً، أكد الدكتور محمود على «ضرورة الوصول إلى توافق بين جميع القوى السياسية على حكومة تكنوقراط، تتكوّن من كفاءات وطنية تتولى الأمر لمدة سنتين، بالتعاون مع المجلس العسكري، بما يحقق أمن البلاد»، مشيراً إلى أن الحديث الآن هو عن 3 مستويات (مجلس سيادي، وحكومة تنفيذية، ومجلس تشريعي).
محمود يعتبر أن «مطلب مناصفة المدنيين للعسكريين في المجلس السيادي الانتقالي، أمر يصعب على تجمّع المهنيين أن يقدم فيه بعض التنازلات»، ويوضح: «يمكن فقط تطعيمه بمدني أو اثنين؛ لكن التقاسم مطلب بعيد المنال». ثم يرى أن «وجود رئيس وزراء مدني يمارس ضغوطاً على المجلس العسكري لتحقيق أهداف الثورة أمر جيّد، ويحقق في النهاية الأهداف الرئيسية».
وحول مطلب المتظاهرين تطهير البلاد من رموز النظام السابق، يعتبر الأكاديمي السوداني أنه «أمر تقوم به الحكومة المدنية، وليس المجلس العسكري. بالطبع ما قام به من إقالات أمر غير كافٍ؛ لكن ليس منوطاً به بالكلية. أولاً يجب وضع إطار قانوني للتطهير... إن تقصير الفترة الانتقالية أفضل حل لمصلحة البلاد تجنباً للفوضى، على أن يحتكم الناس بعدها مباشرة إلى صناديق الاقتراع؛ لكن بعض القوى السياسية ترى أنه ليست لديها جاهزية كافية الآن؛ بل تحتاج إلى مدة أطول... ومن هنا تأتي صعوبة تحقيق التوافق».
تعيين بن عوف... وإبعاده
لقد كان تعيين الفريق عوض بن عوف، وزير الدفاع ونائب الرئيس، على رأس المجلس العسكري الانتقالي عقب عزل البشير، قد أثار غضباً واسع النطاق في صفوف المحتجين، بسبب الصلة الوثيقة التي كانت تربطه بالبشير. لكن بن عوف لم يتحمّل الضغط سوى 24 ساعة، تنحى بعدها عن موقعه. وفي اليوم التالي استقال أيضاً الفريق أول صلاح عبد الله محمد صالح - المعروف باسم صلاح قوش - من منصب مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني. وكان قوش يُعدّ منذ فترة طويلة ثاني أقوى رجل في البلاد بعد البشير، وكان من القيادات الرئيسية التي استهدفها المحتجون.
حالياً، يجلس الفريق عبد الفتاح البرهان، على رأس المجلس العسكري. وكان البرهان ثالث أرفع القيادات في الجيش السوداني، فهو قائد القوات البرية، ويحظى بدعم عربي ودولي واسع.
ومنتصف الأسبوع الماضي، اجتمع قادة في الاتحاد الأفريقي في القاهرة، برعاية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وناقشوا الوضع في السودان، وطالبوا في نهاية القمة المجلس العسكري السوداني بتسليم السلطة للمدنيين، خلال مهلة ثلاثة أشهر، تحت طائلة تعليق عضوية السودان في الاتحاد. وأكد المشاركون في القمة - وهم رؤساء مصر وتشاد وجيبوتي والكونغو ورواندا والصومال وجنوب أفريقيا، فضلاً عن نائب رئيس وزراء إثيوبيا (رئيس «إيجاد»)، ووزراء خارجية كلٍ من أوغندا وكينيا، والسكرتير الدائم لوزارة خارجية نيجيريا، إلى جانب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي - التزامهم بوحدة السودان وسيادته وسلامته وتماسكه وسلامة أراضيه. وأعربوا عن مساندة جهود السودان لتجاوز التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي يواجهها.
المواقف العربية
عربياً، أكدت عدة دول، على رأسها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، ترحيبها بتعيين الفريق البرهان رئيساً للمجلس العسكري، وأعلنت أنها سترسل مساعدات للشعب السوداني. كذلك أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعم بلاده الكامل لاستقرار السودان. وفي المقابل، صرّح ضابط عسكري سوداني رفيع لوكالة «رويترز» بأن «نفوذ قطر وتركيا اللتين كانت صلات قوية تربطهما بالبشير سيصبح محدوداً».
وحول الجو الإقليمي، يعلق الدكتور محمود، الأستاذ بجامعة الخرطوم بالقول، إن «الدول المحيطة يهمها استقرار السودان، وهناك دعم عربي واضح لاستعادة الأمن واستتباب الأمور... كما أن هناك تفهماً مصرياً قوياً جداً للأوضاع، والأمن المصري بالطبع مرتبط بالأمن السوداني».
صراع أجيال
في هذه الأثناء، يصف الدكتور حامد التجاني، أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأميركية في القاهرة - وهو سوداني الجنسية - الوضع الحالي في السودان بأنه «صراع أجيال»، موضحاً: «هناك جيل جديد من الشباب شعر بأن مستقبله يضيع، في ظل صراع بين القوى القديمة في البلاد، بشكله التقليدي المنقسم إلى شمال وجنوب وشرق وغرب... وهناك نخب استأثرت بالسلطة منذ استقلال السودان، ومارست اضطهاداً على كل أقاليم السودان، واستحوذت على السلطة والثورة». ووفقاً للتجاني، فإن «ظهور جيل من المجتمع الرقمي ارتبط بقضايا العولمة والحرية والديمقراطية، بدأ في الصعود متأثراً بثورات الربيع العربي، وبعدما رأى كيف تقدمت دول أخرى، قرّر أن ينتفض على هذه الحالة البائسة، وعلى نظام ديكتاتوري استبدادي، لم يرَ منه الشعب سوى القتل والدمار وارتكاب مجازر وتشريد الشعب على مدى 30 سنة».
ويضيف الأكاديمي السوداني أن «متتبع الوضع في السودان يرى أن جزءاً (من الشعب) يعيش في الملاجئ ومعسكرات اللجوء، وجزءاً ينزح داخل وطنه، ولذلك انتفض الشعب وتجاوز كل العقد، وتجاوز التقسيمات الإثنية والجهوية، تحت شعار واحد هو الخلاص من الاستبداد لمستقبل مشرق». ويبرّر الدكتور التجاني قلة ثقة المتظاهرين في استمرار المجلس العسكري وإدارته المرحلة الانتقالية، بـ«التراكمات السلبية لوجود العسكر في الحياة السياسية السودانية»، ويوضح أن «السودان، منذ الاستقلال، حكمه العسكر نحو 50 سنة، فما وجد السودان غير الحروب وتقسيماً إثنياً وجغرافياً أدى لانفصال الجنوب... الكل متفق أنه لكي نبدأ الانتقال فلا بد من التحول إلى حياة مدنية بنظام مدني يحكم السودان، وأن تدير العملية السياسية عناصر كفاءات، ويقتصر دور الجيش على حفظ الأمن فقط».
ويتابع الأستاذ بالجامعة الأميركية: «لا يمكن أن يكون (الجيش) هو الجسم السيادي الذي يرأس، وعليه فلا بد من تقليص حجم وجود الجيش في الحياة السياسية، وأن يكون للمجتمع المدني قيادة، بما يحقق مولد سودان جديد بمفاهيم الديمقراطية، بعيداً عن الاستبداد الذي أضاع السودان»، مختتماً: «أعتقد أن الانتقال وفق هذا التصوّر سيكون صعباً وعصيباً».
مصير البشير
عقب عزل البشير، أعلن الجيش السوداني أن الرئيس السابق قيد الإقامة الجبرية. ولكن مع تواصل الضغوط الشعبية التي تطالب بمحاكمته، قرّر المجلس العسكري ترحيل البشير من «بيت الضيافة في القيادة العامة للجيش»، إلى زنزانة انفرادية داخل سجن كوبر بالخرطوم، محاطاً بإجراءات أمنية مشددة. كذلك ذكر المجلس العسكري أنه «لن يسلّمه؛ لكنه قد يحاكمه في السودان، في ظل اتهامات بقيامه بغسل أموال، وحيازة مبالغ ضخمة من العملات الأجنبية دون سند قانوني».
هذا، وكشفت مصادر سودانية لـ«الشرق الأوسط» عن أن «صحة البشير متدهورة على الصعيد النفسي، إذ أصيب بصدمة، وشعر ببعض الخيانة من المقرّبين منه». بيد أن مصادر إعلامية أشارت إلى «تحسن حالته خلال اليومين الماضيين، وانتظامه في تناول الوجبات بصورة طبيعية».
وللعلم، بالإضافة للبشير، أودع المجلس الانتقالي في سجن كوبر أيضاً عدداً من رموز النظام السابق ومسؤولي حزب «المؤتمر الوطني»، من بينهم زوج شقيقة البشير، وكل من النائب الأسبق حسبو محمد عبد الرحمن، والنائب السابق محمد عثمان كبر، وكذلك شقيقا الرئيس البشير عبد الله والعباس، ورجل الأعمال عبد الباسط حمزة، ووزير الصحة السابق مأمون حميدة، فضلاً عن قيادات أخرى.