«خادم الشعب» زيلينسكي... «سيد قصر الرئاسة» في أوكرانيا

الفوز الكاسح للممثل الهزلي السابق قلب الموازين الداخلية والخارجية

«خادم الشعب» زيلينسكي... «سيد قصر الرئاسة» في أوكرانيا
TT

«خادم الشعب» زيلينسكي... «سيد قصر الرئاسة» في أوكرانيا

«خادم الشعب» زيلينسكي... «سيد قصر الرئاسة» في أوكرانيا

«فعلناها معاً»! هكذا صاح الممثل الهزلي الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، معلناً النصر أمام آلاف من أنصاره، في أول تعليق صاخب بعد ظهور النتائج الأولية لانتخابات رئاسية حاسمة ينتظر أن تقلب الموازين، وتفتح على مرحلة جديدة في تاريخ أوكرانيا على الصعيدين الداخلي والخارجي. الحقيقة أنه لو قال أحد لزيلينسكي قبل ستة شهور فقط أنه سيغدو رئيساً للجمهورية السوفياتية السابقة بنحو 75 في المائة من أصوات الناخبين، وأنه سيكون قادراً على إطاحة أقوى رموز السياسة بـ«الضربة القاضية»، لضحك الممثل الهزلي طويلاً، ولأجاب بعبارته الشهيرة: «أنا لست سياسياً»!
لكن للتاريخ مقالب، ونجم الكوميديا الذي نال شهرة واسعة، لأنه مثّل في مسلسل تلفزيوني رائج دور مدرّس تاريخ ناقم على الفساد في بلاده، وقادته الظروف للترشح على مقعد الرئاسة بهدف مواجهة الفاسدين، أعاد تكرار المشاهد ذاتها تقريباً، وهو يخوض حملة انتخابية قوية أدخلته تاريخ أوكرانيا. لقد فعل ذلك حتى من قبل أن يخطو خطواته الأولى في قصر الرئيس، فهو غدا الرئيس الأول في البلاد المسلح بإجماع غالبية كبرى منحته أصواتها، من دون أن تعرف حتى خططه أو برامجه.
كان التصويت انتقامياً. وكانت كلمة «لا» في وجه المرشحين الآخرين أعلى بكثير من كلمة «نعم» التي أدخلت فجأة الممثل الهزلي إلى مسرح الحياة السياسية الكبير.

فلاديمير زيلينسكي - أو «فولوديمير» حسب اللهجة الأوكرانية في نطق الاسم السلافي المعروف - غدا أصغر رؤساء الجمهورية الأوكرانية، بل وجمهوريات الفضاء السوفياتي السابق سناً، إذ قفز فجأة إلى قصر الرئاسة وهو لمّا يتجاوز 41 سنة.
ولد الرئيس الجديد في 1978 في مدينة كريفييه ريي - أو كريفوي روغ بالروسية، وتعني «القرن المقوّس» - في جنوب غربي أوكرانيا لوالدين يهوديين. ومع أنه درس الحقوق في جامعة المدينة، إلا أنه لم يعمل قطّ في المحاماة، بل اتّجه إلى التمثيل مبكراً عبر خوضه أولاً مسابقة للمواهب، ثم انضمامه إلى أكثر من فرقة مسرحية كوميدية. ولقد حاول والده أن يرسله في بعثة دراسية إلى إسرائيل، غير أنه رفض وفضل ممارسة هواية التمثيل التي عشقها.
لقد كان يمكن لبعثته تلك أن تقلب مجرى حياته وتحوّله «مهاجراً جديداً في الدولة العبرية»، بيد أنه فضّل البقاء في وطنه الأوكراني، وانضم إلى فريق تلفزيوني قدم نحو 25 عملاً ناجحاً بمقاييس الكوميديا. لكن النقلة الكبرى وقعت له في عام 2015 عندما أطلق الجزء الأول من مسلسل «خادم الشعب» الذي جعل منه مرة واحدة أشهر ممثل كوميدي في البلاد. وأدى هذا النجاح إلى تقديم جزأين جديدين للمسلسل التلفزيوني الذي فتح لزيلينسكي مع حلول نهاية العام الماضي طريق السياسة العليا.

«خادم الشعب»...
من مسلسل إلى حزب سياسي
دارت أحداث المسلسل حول مدرّس تاريخ مغمور ناقم على الفساد المحيط به. ويتعرض هذا المدرّس لمقالب وتهديدات كبرى بعد انتشار مقطع فيديو ينتقد فيه فساد السلطة، ومن ثم يقوده التحدي إلى الترشّح على مقعد الرئاسة في قرار «كيدي» لمواجهة الضغوط، لكنه... يفوز بالرئاسة.
هكذا من دون سابق إنذار يجد زيلينسكي نفسه محاطاً بالتحديات... على عاتقه تقع مسؤولية مواجهة استحقاقات التغيير والإصلاح التي كان يحلم بها. هل يمكن إطلاق وصف أكثر تعبيراً عن حال الرئيس الفائز حالياً في الانتخابات المثيرة؟
دفع نجاح المسلسل الشركة المنتجة «كفارتال 95» إلى تأسيس حزب يحمل اسم «خادم الشعب» في مارس (آذار) الماضي بعد انتهاء العمل في الجزء الثالث من المسلسل. وفي نهاية ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه أعلن زيلينسكي الترشّح للانتخابات الرئاسية. وحتى هنا لعبت «اللمسات الإخراجية» دوراً مؤثراً في إحداث الصدمة الإيجابية المرجوّة من جانب الجمهور. ففي ليلة رأس السنة الماضية، وبينما كان الأوكرانيون ينتظرون الخطاب التقليدي السنوي لرئيس الجمهورية، بثت القناة «1+1» الأوكرانية - التي كانت صاحبة العرض الحصري لمسلسل «خادم الشعب» - مقطع فيديو أثار الجدل في البلاد، ظهر فيه زيلينسكي وهو يعلن عزمه الترشح للانتخابات الرئاسية.
فوجئ المشاهدون ببيان زيلينسكي المثير، الذي تأخر عرض الخطاب الرئاسي بسببه. وأعلنت القناة التلفزيونية لاحقاً أن ما حدث كان مجرد «خطأ فني»، لكن الأحداث اللاحقة أثبتت عكس ذلك.
اللافت أن الممثل التلفزيوني كان أعلن قبل ذلك أن إطلاق حزب سياسي يحمل عنوان «خادم الشعب» ليس مشروعاً سياسياً، ما يعني أنه حتى اللحظة الأخيرة لم يكن قد عزم أمره على خوض معركة السياسة العليا. هنا يبرز اسم إيغور كولومويسكي، الملياردير اليهودي الذي يملك مصالح ومؤسسات كثيرة؛ منها شبكة التلفزيون التي كانت تبث مسلسل «خادم الشعب»، والذي يُقال إنه كان وراء ترشيح الرئيس المنتخب. وهذه النقطة لها أهمية خاصة في فهم طبيعة الصراعات الحاصلة داخل أروقة السياسة الأوكرانية، التي جعلت زيلينسكي يتقدم بهذا الاكتساح. فلقد تعاقب على السلطة في أوكرانيا منذ إعلانها «استقلالها» في عام 1991 ساسة كلهم ينتمون إلى طبقة رجال المال والأعمال. وساعد هذا الواقع في الترويج بشكل واسع لشعارات زيلينسكي في مواجهة فساد النخب الحاكمة، وعكس في الوقت ذاته درجة التذمر في الشارع من تحكّم «الأوليغارشية» بمقاليد السلطة، وخوضها صراعات كثيرة بين أقطابها أرهقت الجمهورية السوفياتية السابقة، وأدخلتها في دوامة من الأزمات المتواصلة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وإذا صحت المعطيات عن وقوف كولومويسكي وراء ترشيح زيلينسكي، لن تكون المفاجأة مقتصرة على هذا الظهور المفاجئ والكبير للممثل الهزلي على مسرح السياسة، بل يعني ذلك أيضاً انتقال أقطاب «الأوليغارشية» إلى «قواعد لعبة» جديدة يتحكمّون معها بمقاليد السياسة من وراء الستار بدلاً من التربّع مباشرة على مقاعدها. وهي مرحلة مرت بها روسيا في تسعينيات القرن الماضي، وجرّت عليها الفوضى والمصائب.

انتهى وقت الهزل وحان أوان العمل الجاد

قال زيلينسكي، في تعليقاته الأولى بعد الفوز، إنه يحتاج إلى بعض الراحة بعد الحملة الانتخابية المُرهقة، متعهداً بالبدء سريعاً في مواجهة التحديات المطروحة أمامه. وهي مهمة تبدو شاقة ومحفوفة بالمخاطر.
وحقاً، تبدو التحديات أمام الرئيس الفائز معقّدة ومتشابكة. ذلك أنه يواجه حرباً أهلية عاصفة في الشرق، وسيتحمّل مثل أي رئيس أوكراني آخر، تركة قضم روسيا شبه جزيرة القرم وإلحاقها بأراضيها. ثم إنه يواجه استحقاقات التقارب مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي، وهو أمر مدعوم من جانب غالبية الأوكرانيين. لكن وسط هذه التحديات الخارجية، تبدو الأولوية أمامه للخطر الداخلي: خزينة شبه فارغة، واقتصاد هشّ يعاني أزمات مزمنة، وسيوف تشحذ ضده من جانب أقطاب السلطة السابقة التي لا يبدو أنها ستتركه مطلق اليدين في التعامل مع رغباته الإصلاحية المعلنة.
وبالفعل، برزت التحديات الداخلية في اليوم التالي مباشرة لظهور نتيجة الانتخابات. إذ أكد رئيس حملته الانتخابية ديمتري رازومكوف، أن الرئيس المنتخب يعتزم تقديم مشروعات قوانين حول الديمقراطية والمساواة أمام القانون للنظر فيها من قبل البرلمان الأوكراني. وتابع أن جوهر المبادرة «تقديم السلطة للشعب» من خلال «رفع الحصانة عن الجميع وإخضاعهم للمحاسبة من النواب والقضاة إلى رئيس البلاد». إلا أن رازومكوف أقرّ بأن هذه «لن تكون عملية بسيطة، لأن مجلس الرادا (البرلمان) سيئ للغاية في التصويت». وعكست هذه الإشارة أحد التحديات الكبرى التي تواجه زيلينسكي على المستوى الداخلي، حيث يبدو الرئيس الفائز وحيداً في مواجهة أحزاب قوية لها تمثيل واسع في البرلمان، وهو ما دفع إلى ترجيح أن يركّز خطواته الأولى على توسيع نشاط حزبه «خادم الشعب» وتحضيره للمنافسة على غالبية برلمانية مريحة في الانتخابات النيابية المقرر أن تشهدها أوكرانيا في الخريف المقبل.
في المقابل، سارع خصوم زيلينسكي داخل البرلمان والأحزاب السياسية إلى إعلان عزمهم على «قصقصة أجنحته قبل أن يتقن الطيران»، وفق تعبير صحيفة أوكرانية. وفعلاً، يجري التحضير لتقديم مشروع قانون لتعديل فقرات دستورية تتعلق بصلاحيات الرئيس وتقليصها بشكل قوي لصالح تعزيز صلاحيات رئاسة الوزراء، وفقاً للنسخة المقدّمة من التعديلات.
هذه أول معركة كبرى سيواجهها الرئيس الشاب عديم الخبرة في السياسة بمواجهة «حيتان» تمرّسوا على الصراعات السياسية منذ ربع قرن. حتى أن معلقين في روسيا وصفوا المشروع المقدم إلى البرلمان بأنه «انقلاب دستوري».
مع هذا، لزيلينسكي حلفاء في هذه المواجهة، وهم رغم أنهم محسوبون على حكم «الأوليغارشية»، فإن صراعاتهم السابقة مع الرئيس بيترو بوروشينكو، قد تجعلهم يميلون لدعم طموحات الرئيس الجديد. وهنا برزت تصريحات رئيسة الوزراء السابقة والمرشحة الرئاسية يوليا تيموشينكو، التي أكدت ضرورة تشكيل حكومة جديدة لأوكرانيا فوراً، رافضة انتظار الاستحقاق الانتخابي البرلماني. وأردفت تيموشينكو: «هل يتوجب على الحكومة الحالية أن تتحمّل نصف سنة؟ ليس لهذا السبب أعطى الناخبون 75 في المائة من الأصوات للتغيير. ينبغي منح الرئيس الجديد على الفور فرصة لتغيير قوات الأمن والمدعي العام ورئيس جهاز الأمن الأوكراني ووزير الدفاع». وهذا، حسب تيموشينكو، سيسمح بـ«إظهار الإرادة السياسية للرئيس الجديد، الذي يجب أن يقدّم إلى العدالة جميع ممثلي الحكومة الحالية، الذين شاركوا في الفساد».
من ناحية ثانية، يواجه زيلينسكي أيضاً استحقاقات تحسين الأداء الاقتصادي في ظل ظروف معقدة وصعبة. ونجاحه في تحويل الحملة الانتخابية إلى استعراض واسع أثار ضحك الجمهور طويلاً بسبب الانتقادات الساخرة اللاذعة التي وجّهها لأداء الحكومات المتعاقبة على إدارة شؤون البلاد، لن يعفيه من استحقاق اتخاذ تدابير تقشفية صارمة سرعان ما ستواجَه بتذمّر شعبي. كذلك فإن محاربة الفساد في المنظومة الاقتصادية للبلاد لا تبدو مهمة أكثر سهولة من محاربة الفساد السياسي المُستشري.
في مسلسل «خادم الشعب» ينتهي الجزء الثالث بخوض معركة واسعة مع أقطاب الحكم المتنفذين والفاسدين الذي يواجههم الرئيس القادم من فصل تعليم التاريخ لطلاب المرحلة الثانوية. وتسفر المعركة عن إلقاء القبض على الرئيس وزجّه في السجن، بينما ينجح حزب قومي متشدد في السيطرة على السلطة في البلاد.
تدخل هنا في العمل التلفزيوني الكوميديا السوداء. وقد يكون هذا الجزء الوحيد من المسلسل الذي لن يرغب نجم الكوميديا الناقدة الصاعد على سلم ظروف معقدة ومتشابكة إلى مقعد الرئاسة في تجسيده على أرض الواقع.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.