«خادم الشعب» زيلينسكي... «سيد قصر الرئاسة» في أوكرانيا

«فعلناها معاً»! هكذا صاح الممثل الهزلي الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، معلناً النصر أمام آلاف من أنصاره، في أول تعليق صاخب بعد ظهور النتائج الأولية لانتخابات رئاسية حاسمة ينتظر أن تقلب الموازين، وتفتح على مرحلة جديدة في تاريخ أوكرانيا على الصعيدين الداخلي والخارجي. الحقيقة أنه لو قال أحد لزيلينسكي قبل ستة شهور فقط أنه سيغدو رئيساً للجمهورية السوفياتية السابقة بنحو 75 في المائة من أصوات الناخبين، وأنه سيكون قادراً على إطاحة أقوى رموز السياسة بـ«الضربة القاضية»، لضحك الممثل الهزلي طويلاً، ولأجاب بعبارته الشهيرة: «أنا لست سياسياً»!
لكن للتاريخ مقالب، ونجم الكوميديا الذي نال شهرة واسعة، لأنه مثّل في مسلسل تلفزيوني رائج دور مدرّس تاريخ ناقم على الفساد في بلاده، وقادته الظروف للترشح على مقعد الرئاسة بهدف مواجهة الفاسدين، أعاد تكرار المشاهد ذاتها تقريباً، وهو يخوض حملة انتخابية قوية أدخلته تاريخ أوكرانيا. لقد فعل ذلك حتى من قبل أن يخطو خطواته الأولى في قصر الرئيس، فهو غدا الرئيس الأول في البلاد المسلح بإجماع غالبية كبرى منحته أصواتها، من دون أن تعرف حتى خططه أو برامجه.
كان التصويت انتقامياً. وكانت كلمة «لا» في وجه المرشحين الآخرين أعلى بكثير من كلمة «نعم» التي أدخلت فجأة الممثل الهزلي إلى مسرح الحياة السياسية الكبير.

فلاديمير زيلينسكي - أو «فولوديمير» حسب اللهجة الأوكرانية في نطق الاسم السلافي المعروف - غدا أصغر رؤساء الجمهورية الأوكرانية، بل وجمهوريات الفضاء السوفياتي السابق سناً، إذ قفز فجأة إلى قصر الرئاسة وهو لمّا يتجاوز 41 سنة.
ولد الرئيس الجديد في 1978 في مدينة كريفييه ريي - أو كريفوي روغ بالروسية، وتعني «القرن المقوّس» - في جنوب غربي أوكرانيا لوالدين يهوديين. ومع أنه درس الحقوق في جامعة المدينة، إلا أنه لم يعمل قطّ في المحاماة، بل اتّجه إلى التمثيل مبكراً عبر خوضه أولاً مسابقة للمواهب، ثم انضمامه إلى أكثر من فرقة مسرحية كوميدية. ولقد حاول والده أن يرسله في بعثة دراسية إلى إسرائيل، غير أنه رفض وفضل ممارسة هواية التمثيل التي عشقها.
لقد كان يمكن لبعثته تلك أن تقلب مجرى حياته وتحوّله «مهاجراً جديداً في الدولة العبرية»، بيد أنه فضّل البقاء في وطنه الأوكراني، وانضم إلى فريق تلفزيوني قدم نحو 25 عملاً ناجحاً بمقاييس الكوميديا. لكن النقلة الكبرى وقعت له في عام 2015 عندما أطلق الجزء الأول من مسلسل «خادم الشعب» الذي جعل منه مرة واحدة أشهر ممثل كوميدي في البلاد. وأدى هذا النجاح إلى تقديم جزأين جديدين للمسلسل التلفزيوني الذي فتح لزيلينسكي مع حلول نهاية العام الماضي طريق السياسة العليا.

«خادم الشعب»...
من مسلسل إلى حزب سياسي
دارت أحداث المسلسل حول مدرّس تاريخ مغمور ناقم على الفساد المحيط به. ويتعرض هذا المدرّس لمقالب وتهديدات كبرى بعد انتشار مقطع فيديو ينتقد فيه فساد السلطة، ومن ثم يقوده التحدي إلى الترشّح على مقعد الرئاسة في قرار «كيدي» لمواجهة الضغوط، لكنه... يفوز بالرئاسة.
هكذا من دون سابق إنذار يجد زيلينسكي نفسه محاطاً بالتحديات... على عاتقه تقع مسؤولية مواجهة استحقاقات التغيير والإصلاح التي كان يحلم بها. هل يمكن إطلاق وصف أكثر تعبيراً عن حال الرئيس الفائز حالياً في الانتخابات المثيرة؟
دفع نجاح المسلسل الشركة المنتجة «كفارتال 95» إلى تأسيس حزب يحمل اسم «خادم الشعب» في مارس (آذار) الماضي بعد انتهاء العمل في الجزء الثالث من المسلسل. وفي نهاية ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه أعلن زيلينسكي الترشّح للانتخابات الرئاسية. وحتى هنا لعبت «اللمسات الإخراجية» دوراً مؤثراً في إحداث الصدمة الإيجابية المرجوّة من جانب الجمهور. ففي ليلة رأس السنة الماضية، وبينما كان الأوكرانيون ينتظرون الخطاب التقليدي السنوي لرئيس الجمهورية، بثت القناة «1+1» الأوكرانية - التي كانت صاحبة العرض الحصري لمسلسل «خادم الشعب» - مقطع فيديو أثار الجدل في البلاد، ظهر فيه زيلينسكي وهو يعلن عزمه الترشح للانتخابات الرئاسية.
فوجئ المشاهدون ببيان زيلينسكي المثير، الذي تأخر عرض الخطاب الرئاسي بسببه. وأعلنت القناة التلفزيونية لاحقاً أن ما حدث كان مجرد «خطأ فني»، لكن الأحداث اللاحقة أثبتت عكس ذلك.
اللافت أن الممثل التلفزيوني كان أعلن قبل ذلك أن إطلاق حزب سياسي يحمل عنوان «خادم الشعب» ليس مشروعاً سياسياً، ما يعني أنه حتى اللحظة الأخيرة لم يكن قد عزم أمره على خوض معركة السياسة العليا. هنا يبرز اسم إيغور كولومويسكي، الملياردير اليهودي الذي يملك مصالح ومؤسسات كثيرة؛ منها شبكة التلفزيون التي كانت تبث مسلسل «خادم الشعب»، والذي يُقال إنه كان وراء ترشيح الرئيس المنتخب. وهذه النقطة لها أهمية خاصة في فهم طبيعة الصراعات الحاصلة داخل أروقة السياسة الأوكرانية، التي جعلت زيلينسكي يتقدم بهذا الاكتساح. فلقد تعاقب على السلطة في أوكرانيا منذ إعلانها «استقلالها» في عام 1991 ساسة كلهم ينتمون إلى طبقة رجال المال والأعمال. وساعد هذا الواقع في الترويج بشكل واسع لشعارات زيلينسكي في مواجهة فساد النخب الحاكمة، وعكس في الوقت ذاته درجة التذمر في الشارع من تحكّم «الأوليغارشية» بمقاليد السلطة، وخوضها صراعات كثيرة بين أقطابها أرهقت الجمهورية السوفياتية السابقة، وأدخلتها في دوامة من الأزمات المتواصلة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وإذا صحت المعطيات عن وقوف كولومويسكي وراء ترشيح زيلينسكي، لن تكون المفاجأة مقتصرة على هذا الظهور المفاجئ والكبير للممثل الهزلي على مسرح السياسة، بل يعني ذلك أيضاً انتقال أقطاب «الأوليغارشية» إلى «قواعد لعبة» جديدة يتحكمّون معها بمقاليد السياسة من وراء الستار بدلاً من التربّع مباشرة على مقاعدها. وهي مرحلة مرت بها روسيا في تسعينيات القرن الماضي، وجرّت عليها الفوضى والمصائب.

انتهى وقت الهزل وحان أوان العمل الجاد

قال زيلينسكي، في تعليقاته الأولى بعد الفوز، إنه يحتاج إلى بعض الراحة بعد الحملة الانتخابية المُرهقة، متعهداً بالبدء سريعاً في مواجهة التحديات المطروحة أمامه. وهي مهمة تبدو شاقة ومحفوفة بالمخاطر.
وحقاً، تبدو التحديات أمام الرئيس الفائز معقّدة ومتشابكة. ذلك أنه يواجه حرباً أهلية عاصفة في الشرق، وسيتحمّل مثل أي رئيس أوكراني آخر، تركة قضم روسيا شبه جزيرة القرم وإلحاقها بأراضيها. ثم إنه يواجه استحقاقات التقارب مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي، وهو أمر مدعوم من جانب غالبية الأوكرانيين. لكن وسط هذه التحديات الخارجية، تبدو الأولوية أمامه للخطر الداخلي: خزينة شبه فارغة، واقتصاد هشّ يعاني أزمات مزمنة، وسيوف تشحذ ضده من جانب أقطاب السلطة السابقة التي لا يبدو أنها ستتركه مطلق اليدين في التعامل مع رغباته الإصلاحية المعلنة.
وبالفعل، برزت التحديات الداخلية في اليوم التالي مباشرة لظهور نتيجة الانتخابات. إذ أكد رئيس حملته الانتخابية ديمتري رازومكوف، أن الرئيس المنتخب يعتزم تقديم مشروعات قوانين حول الديمقراطية والمساواة أمام القانون للنظر فيها من قبل البرلمان الأوكراني. وتابع أن جوهر المبادرة «تقديم السلطة للشعب» من خلال «رفع الحصانة عن الجميع وإخضاعهم للمحاسبة من النواب والقضاة إلى رئيس البلاد». إلا أن رازومكوف أقرّ بأن هذه «لن تكون عملية بسيطة، لأن مجلس الرادا (البرلمان) سيئ للغاية في التصويت». وعكست هذه الإشارة أحد التحديات الكبرى التي تواجه زيلينسكي على المستوى الداخلي، حيث يبدو الرئيس الفائز وحيداً في مواجهة أحزاب قوية لها تمثيل واسع في البرلمان، وهو ما دفع إلى ترجيح أن يركّز خطواته الأولى على توسيع نشاط حزبه «خادم الشعب» وتحضيره للمنافسة على غالبية برلمانية مريحة في الانتخابات النيابية المقرر أن تشهدها أوكرانيا في الخريف المقبل.
في المقابل، سارع خصوم زيلينسكي داخل البرلمان والأحزاب السياسية إلى إعلان عزمهم على «قصقصة أجنحته قبل أن يتقن الطيران»، وفق تعبير صحيفة أوكرانية. وفعلاً، يجري التحضير لتقديم مشروع قانون لتعديل فقرات دستورية تتعلق بصلاحيات الرئيس وتقليصها بشكل قوي لصالح تعزيز صلاحيات رئاسة الوزراء، وفقاً للنسخة المقدّمة من التعديلات.
هذه أول معركة كبرى سيواجهها الرئيس الشاب عديم الخبرة في السياسة بمواجهة «حيتان» تمرّسوا على الصراعات السياسية منذ ربع قرن. حتى أن معلقين في روسيا وصفوا المشروع المقدم إلى البرلمان بأنه «انقلاب دستوري».
مع هذا، لزيلينسكي حلفاء في هذه المواجهة، وهم رغم أنهم محسوبون على حكم «الأوليغارشية»، فإن صراعاتهم السابقة مع الرئيس بيترو بوروشينكو، قد تجعلهم يميلون لدعم طموحات الرئيس الجديد. وهنا برزت تصريحات رئيسة الوزراء السابقة والمرشحة الرئاسية يوليا تيموشينكو، التي أكدت ضرورة تشكيل حكومة جديدة لأوكرانيا فوراً، رافضة انتظار الاستحقاق الانتخابي البرلماني. وأردفت تيموشينكو: «هل يتوجب على الحكومة الحالية أن تتحمّل نصف سنة؟ ليس لهذا السبب أعطى الناخبون 75 في المائة من الأصوات للتغيير. ينبغي منح الرئيس الجديد على الفور فرصة لتغيير قوات الأمن والمدعي العام ورئيس جهاز الأمن الأوكراني ووزير الدفاع». وهذا، حسب تيموشينكو، سيسمح بـ«إظهار الإرادة السياسية للرئيس الجديد، الذي يجب أن يقدّم إلى العدالة جميع ممثلي الحكومة الحالية، الذين شاركوا في الفساد».
من ناحية ثانية، يواجه زيلينسكي أيضاً استحقاقات تحسين الأداء الاقتصادي في ظل ظروف معقدة وصعبة. ونجاحه في تحويل الحملة الانتخابية إلى استعراض واسع أثار ضحك الجمهور طويلاً بسبب الانتقادات الساخرة اللاذعة التي وجّهها لأداء الحكومات المتعاقبة على إدارة شؤون البلاد، لن يعفيه من استحقاق اتخاذ تدابير تقشفية صارمة سرعان ما ستواجَه بتذمّر شعبي. كذلك فإن محاربة الفساد في المنظومة الاقتصادية للبلاد لا تبدو مهمة أكثر سهولة من محاربة الفساد السياسي المُستشري.
في مسلسل «خادم الشعب» ينتهي الجزء الثالث بخوض معركة واسعة مع أقطاب الحكم المتنفذين والفاسدين الذي يواجههم الرئيس القادم من فصل تعليم التاريخ لطلاب المرحلة الثانوية. وتسفر المعركة عن إلقاء القبض على الرئيس وزجّه في السجن، بينما ينجح حزب قومي متشدد في السيطرة على السلطة في البلاد.
تدخل هنا في العمل التلفزيوني الكوميديا السوداء. وقد يكون هذا الجزء الوحيد من المسلسل الذي لن يرغب نجم الكوميديا الناقدة الصاعد على سلم ظروف معقدة ومتشابكة إلى مقعد الرئاسة في تجسيده على أرض الواقع.