ملتقى الرواية العربية... حالة من الارتباك ودراسات نمطية

250 كاتباً وناقداً يبحثون «النص التفاعلي» وتداخل الأنواع الأدبية

جانب من من جلسات الملتقى
جانب من من جلسات الملتقى
TT

ملتقى الرواية العربية... حالة من الارتباك ودراسات نمطية

جانب من من جلسات الملتقى
جانب من من جلسات الملتقى

حالة من الارتباك طغت على جلسات ملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي العربي، الذي تم افتتاحه 20 أبريل (نيسان) الحالي، ويستمر على مدار 5 أيام. المؤتمر الذي يحمل اسم الكاتب السوداني الراحل الطيب صالح، والذي ينعقد بمشاركة 250 من الكتاب والنقاد المصريين والعرب، عانى الكثير من المتابعين لفعالياته في الحصول على أوراقه البحثية.
كما أدى توزع الجلسات بشكل كثيف، وفي أوقات متزامنة بين قاعات المجلس الأعلى للثقافة المنظم للمؤتمر، وعدم وجود دليل مطبوع يحدد محاوره، ويساعد في التعرف عليها، إلى إهدار فرصة متابعة الكثير من اللقاءات التي تمحورت حول تداخل الأنواع، وروايات الخيال العلمي والفانتازيا، والرواية المعلوماتية والنص التفاعلي، وعلاقتهما بوسائل التواصل الاجتماعي، تم خلالها عرض دراسات وأبحاث وشهادات اتسم بعضها بالنمطية، ولم تكن على المستوى اللائق بالملتقى، وهو ما ظهر واضحا في تعقيب الدكتور فيصل دراج على ورقة إحدى الباحثات، ووصفها بأنها اجتهدت لتوصيل شيء، لم يصل له هو شخصيا سوى نصفه، هذا المستوى الذي وصلت له الأبحاث من خفة وتواضع ربما يكون سببه ذلك الحشد الضخم المشارك من المبدعين والكتاب والنقاد.
في الجلسة التي تمحورت حول التجريب في الرواية العربية، قدم الكاتب السوري نبيل سليمان دراسة بعنوان «برازخ في التجريب الروائي العربي» قال خلالها إنه تراءى له عبر اشتغاله بنشأة الرواية العربية أنها ولدت بالتجريب، «فإذا عدنا حتى إلى رواية خليل الخوري، «إذن لست بإفرنجي»، التي نشرها عام 1958. أو فرانسيس المراش، وروايته «در الصدف في غرائب الصدف» 1872. وميخائيل الصقال في كتابه «لطائف السمر في سكان الزهرة والقمر» 1907. نجد بكل أعمال هؤلاء الرواد محاولة جادة للدخول في عالم الرواية، بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن من محاولات متواضعة أو أكثر تواضعا، أو متقدمة قليلا، وتجارب أجيال من 1858 إلى ولادة نجيب محفوظ، جاءت السلسلة من المراحل المتتالية في التجريب الذي جعلت للرواية العربية تاريخها الحالي».
ويظل التجريب، حسب رأي سليمان، رافعة كبرى لتطوير فن الرواية، بما يعنيه من نقض البناء التقليدي لها، وتكسير العمود السردي أو السبك اللغوي، لكن هناك معوقات تبدو مسيطرة مثل الاستسهال، والمجانية، وهو ما يجعل الزبد يكاد يطغى.
من جهته، وصف الدكتور فيصل دراج ما أسماه البعض بزمن الرواية العربية بأنه أقرب إلى ما يمكن وصفه بالورم الروائي، قائلا: «إن من يتابع ما يصدر من روايات عربية كل عام إذا كان صادقا ونزيها سوف يشعر بالبهجة إذا عثر على عشر روايات جديرة فعلا بالقراءة»، وأشار إلى أننا نعاني نوعا من التضخم الروائي، بسبب الإعلان والجوائز، كما أن تعددية الأصوات، بحثا عن رواية جديدة، جاءت في معظمها محاكاة فقيرة كالتي رأيناها في الرواية الوجودية والنفسية، وهناك بالطبع المحاكاة المبدعة التي لا تحتاج إلى استيراد نماذج، وإنما تنطلق من السياق مثلما فعل إميل حبيبي في روايته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، وفعله جبرا إبراهيم جبرا في روايته «البحث عن وليد مسعود»، من هنا يمكن القول، كما أضاف أن «التجريب ليس عملا فرديا فنتازيا، إنما هو محصلة لتراكم ثقافي وروائي ونقدي، بدونه لا مجال للتجريب، إلا إذا كان نوعا من الاستعراض الفارغ».
وفي دراستها حول ملامح التجريب في رواية «سيدة الزمالك» لأشرف العشماوي، لفتت الناقدة المصرية الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الروائي ابتعد عن تقليدية النمط السردي، معتمدا على تعدد مستوياته، وانفتاحه الدلالي، والتماس الحي مع واقع متغير، وحاضر مستمر يتشكل في نمط روائي، ويتصل به ويتصارع معه. وأشارت نانسي إبراهيم إلى أن الكاتب رسم شخوصا تبتعد عن النمط المثالي المتوقع، والمألوف، واعتمد على تصوير الأبعاد النفسية، لها في ظل منظومة آيديولوجية متغيرة تربط النفسي بالوصفي والسياسي.
الأديب السعودي يحيى امقاسم، الذي أصدر عددا من الأعمال الروائية آخرها «رجل الشتاء»، فقدم ورقة حول «الرواية العربية وصناعة حدود التجريب»، ذكر خلالها أنه لا توجد مخاوف من مواقع التواصل الاجتماعي على الرواية، وأنها سوف تظل قوية، ولا يمكن أن تحل أوعية عصر المعلومات محلها، أو تكون بديلا عن الكتاب.
وأشار امقاسم إلى التراكم في مسألة التجريب متسائلا: «هل تصنع الرواية العربية انطلاقا من داخلها وتاريخها وتجربتها حدودا للتجريب فيها، ولفت إلى أن إقحام التقنية المتسارعة على الرواية هو إضعاف في ذات الوقت سينبذه تاريخها، فالتجريب في السرد العربي لا يأتي من خارج تاريخه.
وفي حديثه عن جدل البصري والجمالي في الرواية العربية أشار الناقد المصري الدكتور يسري عبد الله إلى أن الرواية تنفتح على جملة من الاقتراحات السردية المختلفة لا تبقيها في خانة واحدة، ولا تطرح صيغة أحادية لها، بل إنها تبرز بوصفها تجلى لعشرات التصورات عن العالم، والصيغ الجمالية، والبنائية المتعددة، فالرواية هي ابنة التنوع والاختلاف وهي ترميز دال على منطق ديمقراطية الكتابة.
وذكر عبد الله أن العلاقة بين الرواية والواقع ذات طابع جدلي، من هنا «تبدو في تجل من تجلياتها إدراكا جماليا للواقع بوصفه مادة خاما تحمل من الاتساع والتنوع ما في الواقع ذاته من خصوبة واختلاف، ولأنه متغير بطبيعته ومنفتح على جملة من التحولات السياسية والثقافية فإنه يستلزم تحولا في آليات التعبير الجمالي عنه».
ومن بين فعاليات الملتقى التي لم تقف عند حدود الجلسات والأبحاث، كانت هناك جملة من الشهادات التي قدمها روائيون مصريون وعرب، من بينهم الروائي حمدي أبو جليل، الذي تحدث عن حاضر الرواية المصرية، مشيرا إلى أنها «عملت ثورتها مبكرا، ففي بداية القرن الواحد والعشرين، انتقلت من رواية الأمة إلى رواية الفرد، من رواية القضية إلى رواية الوجود، وهي رواية ناقصة غير مكتملة، وقد صاحب ذلك أشياء لا خلاف عليها، منها أنها أعادت القارئ إلى الاهتمام بها بكثافة، وهي تطمح إلى قراء بالآلاف». ولفت أبو جليل إلى أن الشيء الآخر يبدو في جانب الترجمة، وسعى المترجمون للاهتمام بها، لكن عادت إلى موقعها بفعل الجوائز العربية، حيث قامت بالقضاء على الطابع المحلي للروايات، وردتها إلى مرحلة الستينات وما كانت تهتم به من قضايا كبرى.
وذكرت الكاتبة السورية لينا هويان الحسن في شهادتها أنها رأت البدو من منظور مخالف للمعتاد، فكتبت عنهم في رواياتها «بنات نعش»، و«رجال وقبائل»، و«سلطانات الرمل»، ما اعتقدت أنه «غريب وسحري ولافت. وقالت إن الحنين يجعل الكاتب يؤوب إلى أرض الذاكرة».
وأشار الكاتب محمد جبريل في شهادته إلى أن معظم ما كتبه يستمد أحداثه وشخصياته من حياة عاشها وبشر عرفهم، وهو ما يعني أن سيرته الذاتية موجودة في كتاباته، وتناثرت ملامحها وقسماتها في أعماله الروائية المختلفة، لكنه مع ذلك يرفض فهم السيرة الذاتية من خلال العمل الإبداعي.
وقال جبريل بأنه وجد في الواقعية الروحية تعبيرا متماهيا وموازيا للواقعية السحرية التي شاعت لوصف أدب أميركا اللاتينية، ووجد في الأولى «معنى أشد عمقا للإبداعات التي تستند للموروث الشعبي، بداية بالميتافيزيقا وانتهاء بالممارسات التي تنسب للصوفية. وذكر أن «توظيف الفن للبعد الصوفي ليس فقط لمجرد ما يحمله من خوارق ومعجزات، لكن أيضا لأنه يصدر عن فلسفة حياة تشمل الميتافيزيقا وعلم الجمال والهموم الآنية المختلفة.
وسيعلن الملتقى في ختام جلساته مساء اليوم (الأربعاء) اسم الفائز بجائزة هذه الدورة، ومن المتوقع أن تذهب الجائزة إلى كاتب عربي، خاصة بعد أن ذهبت في دورتها السادسة السابقة إلى الروائي المصري بهاء طاهر.



جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي
TT

جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي

ثمة فرق بين النقد الثقافي الساعي لإصلاح حال أمة ما وتسليط الأضواء على الأخطاء التي تعيق التطور من جهة، وجلد الذات الذي يصبح إدماناً، من جهة أخرى. هذا ما خطر ببالي وأنا أعيد قراءة كتاب الفيلسوف السعودي عبد الله العلي القصيمي «العرب ظاهرة صوتية». من وجهة نظره، العرب مُصوّتون فقط في حين لا يكتفي الآخرون بإصدار الأصوات، بل يتكلمون ويفكرون ويخططون وهم أيضاً خلاقون قاموا بإبداع الحضارات والقوة والفكر وتجاوزوا الطبيعة وفهموها وقاموا بتفسيرها قراءة فهم وتغيير وبحث عن التخطي والتفوق.

مثل هذا النقد مدمر لأنه يبشر بسقوط يستحيل النهوض منه لأن المشكلة في الجينات، والجينات لا يمكن إصلاحها. «العرب ظاهرة صوتية»، شعار رفعه العديد من الكتاب وأصبحت «كليشة» مكرورة ومملة، ولا يمكن أن يكون هذا التوجه نافعاً لأنه لا يضع خطة عمل، بل يرمي العربي في حفرة من الإحباط. مع أن هناك الكثير مما نراه من إنجازات دولنا في الجوانب النهضوية وأفرادنا على الصعيد العلمي ما يدعو إلى التفاؤل، لا الإحباط.

ما الذي خرج به جلد الذات الذي يمارسه المثقفون العرب على أنفسهم وثقافتهم بعد كل هذه العقود المتتابعة؟ بطبيعة الحال، ليس هذا موقف الجميع، إلا أن الأصوات المتطرفة توصلت إلى أن العرب لديهم مشكلة جينية، تمنعهم من مواكبة قطار الحداثة وإصلاح مشكلاتهم والانتقال إلى نظام الحياة المدنية المتحضرة. لا خلاف على تطوير أنظمة الحياة وتطبيق فلسفة المنفعة العامة للمجتمع وإعلاء قيمة حقوق الإنسان والحرية، وإنما الخلاف هو في هذا الوهم الذي يُخيل لبعض المثقفين أن المشكلة ضربة لازب وأنه لا حل، وهذا ما يجعل خطابهم جزءاً من المشكلة لا الحل، لأن هذا الخطاب أسس لخطاب مضاد، لأغراض دفاعية، يتجاهل وجود المشكلة وينكرها.

لا فائدة على الإطلاق في أن ننقسم إلى فريقين، فريق التمجيد والتقديس للثقافة العربية وفريق مشكلة الجينات. وأصحاب الرؤية التقديسية هم أيضاً يشكلون جزءاً كبيراً من المشكلة، لأنهم لا يرغبون في تحريك شيء، وذلك لأنهم يؤمنون بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وإن دخلت معهم في نقاش فتحوا لك صفحة الماضي المجيد والانتصارات العسكرية وغزو العالم في العصر الوسيط يوم كان العرب حقاً متفوقين، وكان المثقف الأوروبي يتباهى على أقرانه بأنه يتحدث العربية ويفهم فلسفة ابن رشد.

يخطئ الإسلاميون، وهم من يرفع شعار التقديس، عندما يتخيلون أن تجربتهم هي التمثيل الأوحد للديانة الإسلامية، فالنص حمَّال أوجه وفي باطنه آلاف التفاسير، والناجح حقاً هو من يستطيع أن يتخلى عن قراءاته القديمة التي ثبت فشلها ولم تحل مشكلات الشعوب التي تتوق إلى الحياة الكريمة. يخطئ من يتصور أن بإمكانه أن يسحق الأقليات ويحكم بالحديد والنار، وها هي تجربة صدام حسين وبشار الأسد ماثلة أمام عيوننا.

لقد بدأت مشكلتنا منذ زمن قديم، فالأمة العربية الإسلامية أدارت ظهرها للعلم في لحظته المفصلية في قرون الثورة العلمية والاكتشافات، ولهذا تراجعت عن المكانة العظيمة التي كانت للحضارة العربية الإسلامية يوم كانت أقوى إمبراطورية على وجه الأرض. دخلت حقاً في عصور الانحطاط عندما رفضت مبدأ السببية الذي قام عليه كل العلم بقضه وقضيضه، وولجت في عوالم من الدروشة والتخلف، ليس فقط على صعيد العلوم المادية، بل على الصعيد الأخلاقي أيضاً، وأصبحت صورة العربي في الذاكرة الجمعية تشير إلى شخص لا يمكن أن يؤتمن ولا أن يصدّق فيما يقول. هذا ما يجعله ضيفاً ثقيلاً من وجهة نظر بعض المجتمعات الغربية التي لجأ إليها العرب للعيش فيها.

لقد عاش العربي في دول تقوم على فرق ومذاهب متباغضة متكارهة قامت على تهميش الأقليات التي تحولت بدورها إلى قنابل موقوتة. هذا المشهد تكرر في كل الأمم وليس خاصاً بالعرب، فنحن نعلم أن أوروبا عاشت حروباً دينية دموية اختلط فيها الديني بالسياسي وأزهقت بسببها مئات الآلاف من الأرواح، لكنهم بطريقة ما استطاعوا أن يداووا هذا الجرح، بسبب الجهود العظيمة لفلاسفة التنوير ودعاة التسامح والتمدن والتعامل الإنساني الحضاري، ولم يعد في أوروبا حروب دينية كالتي لا زالت تقع بين العرب المسلمين والأقليات التي تعيش في أكنافهم. العرب بحاجة إلى مثل هذا التجاوز الذي لا يمكن أن يحصل إلا في ضفاف تكاثر الدول المدنية في عالمنا، وأعني بالمدنية الدولة التي تعرف قيمة حقوق الإنسان، لا الدول التي ترفع شعار العلمانية ثم تعود وتضرب شعوبها بالأسلحة الكيماوية.

الدولة المدنية، دولة الحقوق والواجبات هي الحل، ومشكلة العرب ثقافية فكرية وليست جينية على الإطلاق. ثقافتنا التي تراكمت عبر العقود هي جهد بشري أسس لأنظمة أخلاقية وأنماط للحياة، وهذه الأنظمة والأنماط بحاجة إلى مراجعة مستمرة يديرها مشرط التصحيح والتقويم والنقد الصادق، لا لنصبح نسخة أخرى من الثقافة الغربية، وإنما لنحقق سعادة المواطن العربي وحفظ كرامته.