«الذئاب المنفردة»... وعصر الإرهاب الحديث

ظاهرة فرضتها الرقابة الأمنية على التطرف

إجراءات أمنية مشددة خارج مسجد النور بمدينة كرايستشيرش النيوزيلندية  للمرة الأولى منذ الهجوم الذي استهدف المسجد وأدى لقتل عدد من المصلين وإصابة آخرين في هجوم ليميني متطرف (أ.ف.ب)
إجراءات أمنية مشددة خارج مسجد النور بمدينة كرايستشيرش النيوزيلندية للمرة الأولى منذ الهجوم الذي استهدف المسجد وأدى لقتل عدد من المصلين وإصابة آخرين في هجوم ليميني متطرف (أ.ف.ب)
TT

«الذئاب المنفردة»... وعصر الإرهاب الحديث

إجراءات أمنية مشددة خارج مسجد النور بمدينة كرايستشيرش النيوزيلندية  للمرة الأولى منذ الهجوم الذي استهدف المسجد وأدى لقتل عدد من المصلين وإصابة آخرين في هجوم ليميني متطرف (أ.ف.ب)
إجراءات أمنية مشددة خارج مسجد النور بمدينة كرايستشيرش النيوزيلندية للمرة الأولى منذ الهجوم الذي استهدف المسجد وأدى لقتل عدد من المصلين وإصابة آخرين في هجوم ليميني متطرف (أ.ف.ب)

حتمت التغييرات المتسارعة في العالم الراهن على التنظيمات المتطرفة أن تعيد صياغتها لتنصهر استعداداً للتحور، خاصة مع تشديد الرقابة الأمنية وتآزر العالم من أجل التخلص من الإرهاب بجميع أشكاله مثل ما حدث عند استهداف تنظيم داعش في سوريا والعراق. مثل هذه الحيثيات فرضت على التنظيمات المتطرفة أن تسلك نهج «الذئاب المنفردة» وذلك في محاولة الصمود في ظل المتغيرات العالمية، وذلك بغض النظر عن توجهات هذه التنظيمات المتطرفة، سواء أكانت ذات صبغة دينية أو عنصرية يمينية.

يمكن استنتاج هذا الواقع من خلال الحوادث الإرهابية في الأعوام الأخيرة التي ظهرت عشوائية فردية أشبه بجرائم شخصيات مضطربة، وأحدثها الهجمات الإرهابية التي نفذها الأسترالي برينتون تارانت، يوم 15 مارس (آذار) على مسجدين في مدينة كرايستشيرش بنيوزيلندا وأسفرت عن مقتل 50 شخصاً. هذه الحادثة تعيد إلى الأذهان تكرار حوادث «الذئاب المنفردة» المتأثرين بأدلجة «تنظيمات معينة دون الانضمام المباشر إليها». ولقد وصف تارانت نفسه بـ«مجرد رجل أبيض عادي»، ولكن يبدو عليه التأثر بالفكر اليميني المتطرف، إذ نشر قبيل هجومه في حسابه على موقع «تويتر» صوراً لأسلحة تحمل إشارات لحروب صليبية وأسماء لقادة عسكريين شاركوا في معارك ضد العثمانيين خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وذلك في إشارة إلى العداوة ما بين المسيحيين والعثمانيين في تلك الحقبة، بغرض التحريض. أيضا ذكر أنه استلهم هجومه من النرويجي المتطرف أندرس بريفيك الذي قتل 77 شخصاً في هجوم في 22 يوليو (تموز) عام 2011. وحمل بيان أو «مانيفيستو» تارانت الذي بلغ 74 صفحة «مسببات» إتيانه بالهجوم الإرهابي، إذ برر تارانت جريمته بأنها انتقام «لآلاف الأرواح الأوروبية التي فقدت بسبب الهجمات الإرهابية في جميع أنحاء الأراضي الأوروبية».
التحذير من اليمين المتطرف
لفتت أحداث كرايستشيرش النظر إلى خطورة اليمين المتطرف، وحذر خبير الإرهاب والبروفسور في جامعة جورج تاون بروس هوفمان من تصاعد إرهاب أقصى اليمين الذي وصفه بأنه «بلغ أوجه وشكل خطورة فعلية في بداية الثمانينات، كما أن تلك الفترة شهدت تزايد أنشطة الذئاب المنفردة». ويذكر هوفمان أن في السابق كان من السهل التعرف على الإرهابي إذ كان ينتمي بصفة مباشرة إلى تنظيم إرهابي يحوي هيكلاً تنظيمياً واضحاً، أما في الآونة الأخيرة فإن عدداً من التنظيمات المتطرفة المحلية والدولية انصهر، واتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي منفذاً استراتيجياً يحث «الذئاب المنفردة» على شن هجمات إرهابية ضد عدد من الأعداء المستهدفين. الإرهابيون ما عادوا ينتمون إلى تنظيم إرهابي بشكل مباشر وإنما هناك مجرد تأثر به دون الحصول على أوامر من قادته أو التواصل مع أعضاء التنظيم. مع هذا فإن مثل هذا التوجه بالابتعاد عن اتباع هيكل هرمي والانصياع لأوامر القادة ليس بأمر جديد، وقد برعت فيه تنظيمات يمينية سابقة أبرزها منظمة «الكوكلوكس كلان» الأميركية المتطرفة التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض وتعادي الكاثوليكية والسامية. إذ دعا أحد أبرز زعماء التنظيم وأكثرهم خطورة لويس بيم عام 1983 إلى اللجوء إلى استراتيجية «الذئب المنفرد» وشن هجمات فردية والابتعاد عن التجمعات من أجل التقليص من احتمال إلقاء القبض على أعضاء المنظمة، الأمر الذي جعله يكون ما سمي «مقاومة دون قيادة». من جهة أخرى يظهر شيوع مصطلح «الذئاب المنفردة» في عام 1990 في الولايات المتحدة، حيث دعا الأميركيان أليكس كيرتس وتوم متزغر «الذئاب المنفردة» والخلايا الصغيرة إلى العمل بسرية تامة وعلى انفراد من أجل شن هجمات عنصرية ضد غير البيض بشتى الوسائل المتاحة، وعدم التصريح بأي شيء يمس توجهاتهم السياسية إذا ما تم اعتقالهم من أجل الحفاظ على سرية توجهاتهم.
«الذئاب المنفردة» الداعشية
وفي الآونة الأخيرة يظهر كذلك استساغة التنظيمات المتطرفة دينياً مثل تنظيم داعش الاستعانة «بالذئاب المنفردة»، إذ إن من الصعب الكشف عنهم قبل إتيانهم بالهجمة الإرهابية، لا سيما أنهم يتأثرون ذاتياً دون التجمع مع أفراد منتمين للتنظيم نفسه، وذلك تطبيق حرفي لاسم «الذئب المنفرد» الذي ينفذ كل شيء وحده دون اللجوء إلى قادة في أعلى الهرم التنظيمي يتولون التوجيه، فليس هناك حاجة للتواصل قبل القيام بعملية إرهابية معينة. إلا أن ذلك لا ينفي وجود نوع من التواصل ما بين بعض المتأثرين أو «المناصرين» لتنظيمات معينة مع أحد القادة ممن يتواصل معهم عن بعد من أجل التحريض على شن هجمات إرهابية سواء كان بصفة شخصية أو رسالة عامة لجميع المناصرين. كمثال؛ هناك التسجيل الصوتي الذي نشر في سبتمبر (أيلول) عام 2014، للناطق السابق باسم تنظيم داعش أبو محمد العدناني، الذي استغرق 42 دقيقة، وترجم لعدة لغات، وذلك رداً على الضربات الجوية المستهدفة للتنظيم في ذلك الوقت، وفيه طالب العدناني فيه مناصريه بالثأر من الدول الغربية. «ابذل جهدك في قتل أي أميركي أو فرنسي، أو أي من حلفائهم. فإن عجزت عن العبوة أو الرصاصة فاستفرد بالكافر، فارضخه بحجر، أو انحره بسكين، أو اقذفه من شاهق، أو ادهسه بسيارة. وإن عجزت فأحرق منزله أو سيارته أو تجارته أو مزرعته. فإن عجزت فابصق في وجهه، وإن لم تفعل فراجع دينك».
وقد نشط «داعش» في كثير من المرات في شن حملات إعلامية إلكترونية تشجع الأفراد المتأثرين بالتنظيم والمتابعين لرسائله التحريضية إلى القيام بهجمات إرهابية، حتى وإن كانت عشوائية مثل طعن أو دهس في مدن أوروبية أو أميركية. وفي أعقاب حادثة نيوزيلندا دعا المتحدث باسم «داعش» أبو الحسن المهاجر مناصري التنظيم إلى الثأر وذلك في تسجيل صوتي بلغ 45 دقيقة، علما بأنه ندر الظهور الإعلامي للتنظيم في الآونة الأخيرة، وقد تطرق «المهاجر» من خلاله إلى الخسائر التي تعرض لها «داعش» في كل من العراق وسوريا وتحديداً معركة الباغوز في المنطقة التي تعد آخر معاقل التنظيم هناك. أيضا رفض التشبيه بين حادثة نيوزيلندا وهجمات «داعش» الإرهابية، ومن ثم حرض على الانتقام: «إن مشهد القتل في المسجدين لحري به أن يوقظ الغافلين، ويحض أنصار الخلافة القاطنين هناك للثأر والانتقام لدينهم ولأبناء أمتهم، الذين يذبحون في كل مكان من الأرض...». وللعلم نشط تنظيم «داعش» منذ بدء ظهوره في الرسائل الإعلامية التحريضية التي تدعو إلى الكراهية والتهجم على الغير.
ويظهر من جهة أخرى وجود كثير من المتأثرين بمثل هذه الآيديولوجيا التي يجري بثها إلكترونياً. مثل الظهور الإعلامي لأبو صالح الأميركي «الداعشي» في نهاية 2017، وهو أميركي من أصول أفريقية، ولقد حذر في تسجيله المرئي الرئيس الأميركي دونالد ترمب باللغة الإنجليزية، بأن «الحرب التي يشنها البيت الأبيض على الإسلام جعلت الولايات المتحدة أكثر ضعفاً» على حد زعمه. وتابع أن ترمب دخل إلى البيت الأبيض بفعل «خطابه الصليبي» ومن ثم دعا مناصري التنظيم إلى استغلال سهولة الحصول على أسلحة نارية في الولايات المتحدة من أجل تنفيذ هجمات جديدة.
وفي هذا تحريض واضح «للذئاب المنفردة»، وهو أمر يسهل على التنظيمات المتطرفة تطبيقه في المناطق المتشددة أمنياً، إذ إن «الذئاب المنفردة» ليست بحاجة إلى توفير الأسلحة أو التدريب العسكري أو التواصل المستمر، وبالأخص في الآونة الأخيرة حيث انتشر الوعي بمخاطر التطرف والتشديد الأمني ضد الهجمات الإرهابية، بينما تتوجه التنظيمات المتطرفة في المناطق الأقل أمناً مثل مناطق النزاع إلى تشكيل التنظيم بشكل يخوف الآخرين منه ويجبرهم على الانصياع لأوامره كقوة أو سلطة عليا. مثل ما حدث في العراق وسوريا وحتى في مناطق في أفريقيا.
حقيقة انتماء «الذئاب المنفردة»
في الفترة الأخيرة ومع ميوعة وانسيابية الانتماء للتنظيمات المتطرفة واستلهام كثير من «الذئاب المنفردة» الهجمات الإرهابية وتنفيذها باسم آيديولوجيا معينة، وشرعنة القتل باسم آيديولوجيا معينة سواء سياسية أو دينية، فإن من الصعب معرفة حقيقة مدى انتماء متطرف معين إلى تنظيم ما أو مجرد تأثره به. حادثة لارامبلا في مدينة برشلونة الإسبانية، مثال على ذلك، وفيها قام شخصان بدهس 13 من المارة، في أغسطس (آب) عام 2017، يومذاك نسبت العملية لتنظيم «داعش»، وإن لم توجد أدلة على مدى انتمائهما الشخصي للتنظيم. وكذلك «هجوم نيس» الذي نفذه التونسي محمد لحويج بوهلال عام 2016 بقيادة شاحنة ودهس أشخاصا يحتفلون بـ«يوم الباستيل»، ما أسفر عن مقتل 86 شخصاً، إلا أنه لم يظهر عليه توجهات متطرفة من قبل أو انتماء لتنظيم «داعش».
مثل هذه الأحداث تؤكد مدى خطورة «الذئاب المنفردة» وقدرتهم على قتل أعداد كبيرة من البشر، على الرغم من أن غالبيتهم ليسوا أشخاصا متمرسين في فنون القتال أو استراتيجيات إخفاء جرائمهم الإرهابية، إذ يتم القبض عليهم منذ أول هجمة إرهابية يرتكبونها، لا سيما أن غالبية الهجمات الإرهابية المرتكبة من قبل «ذئاب منفردة» تحدث في مناطق يستتب الأمن فيها. إلا أن التنظيمات المتطرفة لا يظهر لدى عناصرها اكتراث بتضحيتهم بمرتكبي الهجمات لأنهم فعلياً لا ينتمون لهذه المنظمات الإرهابية ولم يتلقوا منها تدريباً أو دعماً لوجيستياً فعلياً. إلا أن سياسة توظيف «الذئاب المنفردة» تعد الأفضل للتنظيمات التي تواجه استهدافاً عالمياً.


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».