«الذئاب المنفردة»... وعصر الإرهاب الحديث

ظاهرة فرضتها الرقابة الأمنية على التطرف

إجراءات أمنية مشددة خارج مسجد النور بمدينة كرايستشيرش النيوزيلندية  للمرة الأولى منذ الهجوم الذي استهدف المسجد وأدى لقتل عدد من المصلين وإصابة آخرين في هجوم ليميني متطرف (أ.ف.ب)
إجراءات أمنية مشددة خارج مسجد النور بمدينة كرايستشيرش النيوزيلندية للمرة الأولى منذ الهجوم الذي استهدف المسجد وأدى لقتل عدد من المصلين وإصابة آخرين في هجوم ليميني متطرف (أ.ف.ب)
TT

«الذئاب المنفردة»... وعصر الإرهاب الحديث

إجراءات أمنية مشددة خارج مسجد النور بمدينة كرايستشيرش النيوزيلندية  للمرة الأولى منذ الهجوم الذي استهدف المسجد وأدى لقتل عدد من المصلين وإصابة آخرين في هجوم ليميني متطرف (أ.ف.ب)
إجراءات أمنية مشددة خارج مسجد النور بمدينة كرايستشيرش النيوزيلندية للمرة الأولى منذ الهجوم الذي استهدف المسجد وأدى لقتل عدد من المصلين وإصابة آخرين في هجوم ليميني متطرف (أ.ف.ب)

حتمت التغييرات المتسارعة في العالم الراهن على التنظيمات المتطرفة أن تعيد صياغتها لتنصهر استعداداً للتحور، خاصة مع تشديد الرقابة الأمنية وتآزر العالم من أجل التخلص من الإرهاب بجميع أشكاله مثل ما حدث عند استهداف تنظيم داعش في سوريا والعراق. مثل هذه الحيثيات فرضت على التنظيمات المتطرفة أن تسلك نهج «الذئاب المنفردة» وذلك في محاولة الصمود في ظل المتغيرات العالمية، وذلك بغض النظر عن توجهات هذه التنظيمات المتطرفة، سواء أكانت ذات صبغة دينية أو عنصرية يمينية.

يمكن استنتاج هذا الواقع من خلال الحوادث الإرهابية في الأعوام الأخيرة التي ظهرت عشوائية فردية أشبه بجرائم شخصيات مضطربة، وأحدثها الهجمات الإرهابية التي نفذها الأسترالي برينتون تارانت، يوم 15 مارس (آذار) على مسجدين في مدينة كرايستشيرش بنيوزيلندا وأسفرت عن مقتل 50 شخصاً. هذه الحادثة تعيد إلى الأذهان تكرار حوادث «الذئاب المنفردة» المتأثرين بأدلجة «تنظيمات معينة دون الانضمام المباشر إليها». ولقد وصف تارانت نفسه بـ«مجرد رجل أبيض عادي»، ولكن يبدو عليه التأثر بالفكر اليميني المتطرف، إذ نشر قبيل هجومه في حسابه على موقع «تويتر» صوراً لأسلحة تحمل إشارات لحروب صليبية وأسماء لقادة عسكريين شاركوا في معارك ضد العثمانيين خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وذلك في إشارة إلى العداوة ما بين المسيحيين والعثمانيين في تلك الحقبة، بغرض التحريض. أيضا ذكر أنه استلهم هجومه من النرويجي المتطرف أندرس بريفيك الذي قتل 77 شخصاً في هجوم في 22 يوليو (تموز) عام 2011. وحمل بيان أو «مانيفيستو» تارانت الذي بلغ 74 صفحة «مسببات» إتيانه بالهجوم الإرهابي، إذ برر تارانت جريمته بأنها انتقام «لآلاف الأرواح الأوروبية التي فقدت بسبب الهجمات الإرهابية في جميع أنحاء الأراضي الأوروبية».
التحذير من اليمين المتطرف
لفتت أحداث كرايستشيرش النظر إلى خطورة اليمين المتطرف، وحذر خبير الإرهاب والبروفسور في جامعة جورج تاون بروس هوفمان من تصاعد إرهاب أقصى اليمين الذي وصفه بأنه «بلغ أوجه وشكل خطورة فعلية في بداية الثمانينات، كما أن تلك الفترة شهدت تزايد أنشطة الذئاب المنفردة». ويذكر هوفمان أن في السابق كان من السهل التعرف على الإرهابي إذ كان ينتمي بصفة مباشرة إلى تنظيم إرهابي يحوي هيكلاً تنظيمياً واضحاً، أما في الآونة الأخيرة فإن عدداً من التنظيمات المتطرفة المحلية والدولية انصهر، واتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي منفذاً استراتيجياً يحث «الذئاب المنفردة» على شن هجمات إرهابية ضد عدد من الأعداء المستهدفين. الإرهابيون ما عادوا ينتمون إلى تنظيم إرهابي بشكل مباشر وإنما هناك مجرد تأثر به دون الحصول على أوامر من قادته أو التواصل مع أعضاء التنظيم. مع هذا فإن مثل هذا التوجه بالابتعاد عن اتباع هيكل هرمي والانصياع لأوامر القادة ليس بأمر جديد، وقد برعت فيه تنظيمات يمينية سابقة أبرزها منظمة «الكوكلوكس كلان» الأميركية المتطرفة التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض وتعادي الكاثوليكية والسامية. إذ دعا أحد أبرز زعماء التنظيم وأكثرهم خطورة لويس بيم عام 1983 إلى اللجوء إلى استراتيجية «الذئب المنفرد» وشن هجمات فردية والابتعاد عن التجمعات من أجل التقليص من احتمال إلقاء القبض على أعضاء المنظمة، الأمر الذي جعله يكون ما سمي «مقاومة دون قيادة». من جهة أخرى يظهر شيوع مصطلح «الذئاب المنفردة» في عام 1990 في الولايات المتحدة، حيث دعا الأميركيان أليكس كيرتس وتوم متزغر «الذئاب المنفردة» والخلايا الصغيرة إلى العمل بسرية تامة وعلى انفراد من أجل شن هجمات عنصرية ضد غير البيض بشتى الوسائل المتاحة، وعدم التصريح بأي شيء يمس توجهاتهم السياسية إذا ما تم اعتقالهم من أجل الحفاظ على سرية توجهاتهم.
«الذئاب المنفردة» الداعشية
وفي الآونة الأخيرة يظهر كذلك استساغة التنظيمات المتطرفة دينياً مثل تنظيم داعش الاستعانة «بالذئاب المنفردة»، إذ إن من الصعب الكشف عنهم قبل إتيانهم بالهجمة الإرهابية، لا سيما أنهم يتأثرون ذاتياً دون التجمع مع أفراد منتمين للتنظيم نفسه، وذلك تطبيق حرفي لاسم «الذئب المنفرد» الذي ينفذ كل شيء وحده دون اللجوء إلى قادة في أعلى الهرم التنظيمي يتولون التوجيه، فليس هناك حاجة للتواصل قبل القيام بعملية إرهابية معينة. إلا أن ذلك لا ينفي وجود نوع من التواصل ما بين بعض المتأثرين أو «المناصرين» لتنظيمات معينة مع أحد القادة ممن يتواصل معهم عن بعد من أجل التحريض على شن هجمات إرهابية سواء كان بصفة شخصية أو رسالة عامة لجميع المناصرين. كمثال؛ هناك التسجيل الصوتي الذي نشر في سبتمبر (أيلول) عام 2014، للناطق السابق باسم تنظيم داعش أبو محمد العدناني، الذي استغرق 42 دقيقة، وترجم لعدة لغات، وذلك رداً على الضربات الجوية المستهدفة للتنظيم في ذلك الوقت، وفيه طالب العدناني فيه مناصريه بالثأر من الدول الغربية. «ابذل جهدك في قتل أي أميركي أو فرنسي، أو أي من حلفائهم. فإن عجزت عن العبوة أو الرصاصة فاستفرد بالكافر، فارضخه بحجر، أو انحره بسكين، أو اقذفه من شاهق، أو ادهسه بسيارة. وإن عجزت فأحرق منزله أو سيارته أو تجارته أو مزرعته. فإن عجزت فابصق في وجهه، وإن لم تفعل فراجع دينك».
وقد نشط «داعش» في كثير من المرات في شن حملات إعلامية إلكترونية تشجع الأفراد المتأثرين بالتنظيم والمتابعين لرسائله التحريضية إلى القيام بهجمات إرهابية، حتى وإن كانت عشوائية مثل طعن أو دهس في مدن أوروبية أو أميركية. وفي أعقاب حادثة نيوزيلندا دعا المتحدث باسم «داعش» أبو الحسن المهاجر مناصري التنظيم إلى الثأر وذلك في تسجيل صوتي بلغ 45 دقيقة، علما بأنه ندر الظهور الإعلامي للتنظيم في الآونة الأخيرة، وقد تطرق «المهاجر» من خلاله إلى الخسائر التي تعرض لها «داعش» في كل من العراق وسوريا وتحديداً معركة الباغوز في المنطقة التي تعد آخر معاقل التنظيم هناك. أيضا رفض التشبيه بين حادثة نيوزيلندا وهجمات «داعش» الإرهابية، ومن ثم حرض على الانتقام: «إن مشهد القتل في المسجدين لحري به أن يوقظ الغافلين، ويحض أنصار الخلافة القاطنين هناك للثأر والانتقام لدينهم ولأبناء أمتهم، الذين يذبحون في كل مكان من الأرض...». وللعلم نشط تنظيم «داعش» منذ بدء ظهوره في الرسائل الإعلامية التحريضية التي تدعو إلى الكراهية والتهجم على الغير.
ويظهر من جهة أخرى وجود كثير من المتأثرين بمثل هذه الآيديولوجيا التي يجري بثها إلكترونياً. مثل الظهور الإعلامي لأبو صالح الأميركي «الداعشي» في نهاية 2017، وهو أميركي من أصول أفريقية، ولقد حذر في تسجيله المرئي الرئيس الأميركي دونالد ترمب باللغة الإنجليزية، بأن «الحرب التي يشنها البيت الأبيض على الإسلام جعلت الولايات المتحدة أكثر ضعفاً» على حد زعمه. وتابع أن ترمب دخل إلى البيت الأبيض بفعل «خطابه الصليبي» ومن ثم دعا مناصري التنظيم إلى استغلال سهولة الحصول على أسلحة نارية في الولايات المتحدة من أجل تنفيذ هجمات جديدة.
وفي هذا تحريض واضح «للذئاب المنفردة»، وهو أمر يسهل على التنظيمات المتطرفة تطبيقه في المناطق المتشددة أمنياً، إذ إن «الذئاب المنفردة» ليست بحاجة إلى توفير الأسلحة أو التدريب العسكري أو التواصل المستمر، وبالأخص في الآونة الأخيرة حيث انتشر الوعي بمخاطر التطرف والتشديد الأمني ضد الهجمات الإرهابية، بينما تتوجه التنظيمات المتطرفة في المناطق الأقل أمناً مثل مناطق النزاع إلى تشكيل التنظيم بشكل يخوف الآخرين منه ويجبرهم على الانصياع لأوامره كقوة أو سلطة عليا. مثل ما حدث في العراق وسوريا وحتى في مناطق في أفريقيا.
حقيقة انتماء «الذئاب المنفردة»
في الفترة الأخيرة ومع ميوعة وانسيابية الانتماء للتنظيمات المتطرفة واستلهام كثير من «الذئاب المنفردة» الهجمات الإرهابية وتنفيذها باسم آيديولوجيا معينة، وشرعنة القتل باسم آيديولوجيا معينة سواء سياسية أو دينية، فإن من الصعب معرفة حقيقة مدى انتماء متطرف معين إلى تنظيم ما أو مجرد تأثره به. حادثة لارامبلا في مدينة برشلونة الإسبانية، مثال على ذلك، وفيها قام شخصان بدهس 13 من المارة، في أغسطس (آب) عام 2017، يومذاك نسبت العملية لتنظيم «داعش»، وإن لم توجد أدلة على مدى انتمائهما الشخصي للتنظيم. وكذلك «هجوم نيس» الذي نفذه التونسي محمد لحويج بوهلال عام 2016 بقيادة شاحنة ودهس أشخاصا يحتفلون بـ«يوم الباستيل»، ما أسفر عن مقتل 86 شخصاً، إلا أنه لم يظهر عليه توجهات متطرفة من قبل أو انتماء لتنظيم «داعش».
مثل هذه الأحداث تؤكد مدى خطورة «الذئاب المنفردة» وقدرتهم على قتل أعداد كبيرة من البشر، على الرغم من أن غالبيتهم ليسوا أشخاصا متمرسين في فنون القتال أو استراتيجيات إخفاء جرائمهم الإرهابية، إذ يتم القبض عليهم منذ أول هجمة إرهابية يرتكبونها، لا سيما أن غالبية الهجمات الإرهابية المرتكبة من قبل «ذئاب منفردة» تحدث في مناطق يستتب الأمن فيها. إلا أن التنظيمات المتطرفة لا يظهر لدى عناصرها اكتراث بتضحيتهم بمرتكبي الهجمات لأنهم فعلياً لا ينتمون لهذه المنظمات الإرهابية ولم يتلقوا منها تدريباً أو دعماً لوجيستياً فعلياً. إلا أن سياسة توظيف «الذئاب المنفردة» تعد الأفضل للتنظيمات التي تواجه استهدافاً عالمياً.


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟