«القاعدة» تفشل في وراثة «داعش» بتونس

فشلت في تقديم خطاب يجتذب المجتمعات المحلية

حراس مسلحون يقومون بدورية على شاطئ مرحباً في سوسة التونسية حيث قتل 38 شخصاً (غيتي)
حراس مسلحون يقومون بدورية على شاطئ مرحباً في سوسة التونسية حيث قتل 38 شخصاً (غيتي)
TT

«القاعدة» تفشل في وراثة «داعش» بتونس

حراس مسلحون يقومون بدورية على شاطئ مرحباً في سوسة التونسية حيث قتل 38 شخصاً (غيتي)
حراس مسلحون يقومون بدورية على شاطئ مرحباً في سوسة التونسية حيث قتل 38 شخصاً (غيتي)

حين بدأ تنظيم داعش يخسر أراضيه في العراق وسوريا في ربيع عام 2015، كانت واحدة من المخاوف الكبرى للقائمين على شأن تحليل شؤون المتطرفين حول العالم، أن يقوم تنظيم «القاعدة» وكوادره، بل وحواضنه البشرية في شمال شرقي أفريقيا بنوع خاص بملء الفراغات التي خلفها أولئك، لكن سؤالا طرحه هارون ي. زيلين الباحث والمؤسس لموقع «دراسات الجهاد» خلال الأيام القليلة الماضية، في ورقة بحثية مطولة له، صادرة ضمن أوراق معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، تبين أن ذلك ليس كذلك بالضرورة، والدليل ما جرى في تونس مؤخرا، إذ إن الفرع التونسي لتنظيم «القاعدة» هناك المسمى «كتيبة عقبة بن نافع»، لم يتمكن من التغلب على شبكة «داعش» في تونس ليصبح حامل راية الحركة في تونس، ويبقى السؤال الرئيسي والجوهري عن أسباب ذلك الفشل.
لمعرفة أبعاد تنظيم «القاعدة» في تلك المنطقة الجغرافية ربما يلزمنا العودة إلى منتصف عام 1995، عندما حاول تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب»، ومجموعاته السابقة، إنشاء شبكة أكبر في تونس، وبعد أن تعهدت «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» بمبايعة أسامة بن لادن زعيم القاعدة في سبتمبر (أيلول) 2006، وغيرت اسمها لاحقا إلى «القاعدة في بلاد المغرب» في يناير (كانون الثاني) 2007، أعادت هيكلة تخصيصها للموارد، التي كانت موزعة في السابق على تسع مناطق فقط في الجزائر. وقررت الجماعة تقسيم عملياتها إلى أربع مناطق: الوسط حيث الجزائر، وتونس حيث الشرق، إضافة إلى الجنوب أي الساحل، وأخيرا الغرب في إشارة إلى موريتانيا، الأمر الذي يوضح أهمية الدور الذي ستلعبه تونس وأعضاء التنظيم هناك.
منذ ذلك الوقت اعتبرت «كتيبة عقبة بن نافع» الغطاء الرئيسي لتنظيم «القاعدة في بلاد المغرب»، وقد ظهرت بشكل رسمي على هذا النحو كنتيجة لعملية «سيرفال» الفرنسية في مالي.
وبالقفز إلى السنوات الخمس الأخيرة حيث بدأ تنظيم «داعش» يتبلور، وبخاصة في الفترة التي سبقت إعلان خلافة «داعش»، وبعدها في أواخر يونيو (حزيران) 2014، شجع المشهد التونسيين المتطرفين على مبايعة زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي ودعمه بالإضافة إلى المشروع الأوسع نطاقا لإحياء الشكل التاريخي للحكومة الإسلامية.
فعلى سبيل المثال في أواخر مارس 2014، أعلنت المنطقة الوسطى لـ«القاعدة في بلاد المغرب» عن تأييدها لـ«داعش»، وشكلت هذه الجماعة الأساس لما سيصبح في النهاية «ولاية» لتنظيم داعش تحت اسم «ولاية الجزائر»، وذلك عقب خطاب أبو بكر البغدادي في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، الذي أعلن فيه توسيع ولاية «داعش» لتخرج عن نطاقها في العراق وسوريا. إلا أن الورقة البحثية التي بأيدينا تضعنا أمام خلاف عميق في الرؤى بين «داعش» و«القاعدة» في تونس، لا سيما من جهة التوجه الاستراتيجي لكل منهما، فـ«القاعدة» في تونس تسعى إلى كسب ود الشارع التونسي، فعلى سبيل المثال ونتيجة لتدهور أوضاع «كتيبة عقبة بن نافع» أصدرت المنظمة بيانا في أواخر أغسطس (آب) 2015، مع شعار رسمي جديد للمساعدة في إعادة تصنيفها وتعزيز جهودها، في نواح كثيرة، وقد كان ذلك أيضا من أجل إعادة تقديم الجماعة للشعب التونسي، وفي البيان بعثت «الكتيبة» برسالة لجهات كثيرة في تونس منها الحكومة والشعب.
وعلى الرغم من خطب الود هذا لجماهير الشعب التونسي، لا سيما أن «داعش» لا يهمه إبداء مودات تجاه أي شعوب المنطقة، وعدم إشارته أبدا إلى معركة كسب القلوب والعقول، فإن ما جعل «القاعدة» تخفق في كسب أفئدة المتطرفين الجدد، أو استقطاب المزيد من الإرهابيين إلى صفوفها، هو أنها لم تتمكن من الوفاء بشكل كامل بادعائها بعدم «سفك دماء المسلمين الأبرياء».
وتؤكد الورقة البحثية التي بين أيدينا أن «كتيبة عقبة بن نافع» غير متصلة بنبض الحركة المتطرفة التونسية، وليست مبتكرة في أسلوب عملها، وتبعد السكان المحليين الذين تحاول كسب ودهم، وقد يجادل البعض بأن هذا هو الحال بالنسبة لـ«داعش» في تونس أيضا، لكن تنظيم «داعش» على عكس تنظيم «القاعدة»، لم يهتم يوما بالحواضن الشعبية من منطلقات عاطفية ولم يقم لمسألة كسب الرأي العام اهتماما.
وعلاوة على ذلك فإنه عند النظر إلى السجناء من المتطرفين التونسيين، يتبين أن معظمهم من أنصار «داعش»، الأمر الذي يسلط الضوء على نقص الدعم الأوسع في البلاد، حتى لو بدا أن كلتا المجموعتين تتمتع بسرعة عملية متشابهة نسبيا في السنوات القليلة الماضية، ويرجع ذلك إلى عدم ترابط شبكة «الكتيبة»، وإلى التجارب المتغيرة للمتطرفين التونسيين منذ الانتفاضات العربية المزعومة، وعدم قدرة «الكتيبة على «مواءمة الدعاية مع الأفعال، وبالتالي خسارة قلوب السكان المحليين وعقولهم».
تاريخيا كانت معظم الجماعات المتطرفة داخل العالم العربي إما متورطة في حوادث إرهابية، أو في مستوى معين من أنشطة التمرد العسكرية. ونتيجة لذلك كانت الأدوات التي يمكن أن يستخدمها المتطرفون في محاولة لتعزيز رسالتهم أو لتنفيذ رؤيتهم للمجتمع مع مرور الوقت محدودة جدا، ومن نواح كثيرة كانت هذه المجموعات تحمل في طياتها بذور الفشل لأنها تعمل سرا وخلسة.
هنا يمكننا فهم لماذا لم تقترب تلك «الجماعات المتطرفة» من السكان المحليين، مما جعل تجاوزها مرحلة أعمال العنف البحتة صعبا، غير أنه ومع أزمنة ما أطلق عليه الربيع العربي، تغيرت هذه الديناميكية التي سمحت للجماعات الجهادية بتوسيع مجموعة إجراءاتها، بسبب فتح الميادين العامة أو الملاذات الآمنة التي تسيطر عليها المنظمات الجهادية، وقد أدى ذلك إلى نمو أنشطة الدعوة بشقيها التوعوي والتبشيري، بالإضافة إلى توفير الخدمات الاجتماعية.
هذه التحولات التي يتوجب على أي باحث في مجال الحركات الأصولية التنبه لها، أدت إلى جذب مجموعة أكبر من الأفراد إلى عدد من المنظمات المتطرفة التي ربما ما كانوا سينضمون إليها لو كانت حركة عنيفة وسرية بحتة.
هنا يضحي التساؤل المثير: ما النقاط التي سببت إخفاقا لـ«كتيبة عقبة بن نافع»، وجعلت هناك مسافة بينه وبين السكان والمواطنين، ولهذا بات عاجزا عن تلقي الإرث الذي خلفه تنظيم «داعش»؟
الشاهد أيضا أن الكتيبة والقائمين عليها فشلوا في تقديم رسائل تتجاوز الحراك الاجتماعي، الذي جاءت به الثورة التونسية، التي كانت المحرك الرئيسي في المنطقة العربية، فلم تعد مسألة مساءلة الحكومات، والتطلع إلى العدالة والحرية والعيش والكرامة الاجتماعية شعارات يسعى الأصوليون إليها، بل باتت توجهات حاسمة وحازمة من قبل «الجماهير الغفيرة»، من العلمانيين أو اليسار، وكذا جماعات الإسلام السياسي. كما أن مجالات العمل الرسمي وفوق الأرض بالنسبة للتيار الأصولي أو الإخواني أضحت متاحة ومباحة للجميع، ما يعني أن ورقة التميز السرية وتحت الأرضية، التي كانت تستغلها الجماعات المتطرفة لم يعد لها موقع أو موضع، وبالتالي فقدت زخمها عند جماهير التيارات الإسلامية العريضة في الداخل التونسي.
إضافة إلى ما تقدم فقد أظهرت الأعوام القليلة الماضية وخصوصا من 2015 وحتى اليوم عدم قدرة «كتيبة عقبة بن ناقع» على التأثير على السكان المحليين واستعطافهم، كما أن كل النيات الطيبة التي حاولت الكتيبة إظهارها للمواطنين قد ذهبت هدرا بل هباء منثورا، فقد تضررت سمعة التنظيم من جراء انحراف الكتيبة نحو سرقة المؤن من منازل السكان المحليين، واقتحام الشركات المحلية للحصول على الإمدادات، وقتلها كثيرا من السكان المحليين بقنابل كان من المفترض أن تكون موجهة ضد قوات الأمن التونسية.
أما الجزئية الكارثية التي تجعل «القاعدة» من دون مستقبل في تونس، وتفشل حتى في الاستيلاء على إرث «داعش» بالقول أو بالفعل، هو أنها ترفع رسالة ضد الحكومة التونسية الحالية، وضد أولئك الذين يؤمنون بالعملية الديمقراطية، إلا أنها لا تقدم في المقابل ما هو خارج إطار ترويع المجتمع المحلي وتنفيره، وهو مجتمع لم يقترب منه عناصر هذين التنظيمين (داعش والقاعدة سويا) أساسا لكونهم مختبئين في الجبال والمغاور وشقوق الأرض.
ولن يكون مستقبل «القاعدة» في تونس بحال أفضل من حال تنظيم داعش، فقد انقطعت صلة شبكتها بالأهالي، وخسرت قلوبهم من جراء إراقة دماء الأبرياء بأفعالها، وفشل الاستعطاف السابق واللاحق في جعل الشعوب تنسى أفعالهم الكارثية، كما أن العناوين البراقة التي تقوم «كتيبة عقبة بن نافع» ببثها بين الحين والآخر، سواء كان ذلك يتعلق بعدم المساواة الاقتصادية أو الإمبريالية التي يمكن أن تجذب المنتمين إلى اليسار العلماني، أو الرسائل التي تتضمن نقاطا اجتماعية معتدلة متعلقة بقضايا المساواة في الميراث بين الجنسين التي قد تغري الإسلامويين، كل ذلك يزول عندما يعزل العنصر نفسه عن الأفراد الذين يحاول كسب دعمهم. الخلاصة لن ترث «القاعدة» تنظيم «داعش» في الحال أو المستقبل.


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.