سكان الأبراج المستهدفة يروون لـ {الشرق الأوسط} لحظات الرعب من الإنذار إلى التدمير

أحد قاطني «الظافر4» : برج شاهق اختفى في ثوان

فلسطينيون يحتسون القهوة على أنقاض برج الباشا (أ.ب)
فلسطينيون يحتسون القهوة على أنقاض برج الباشا (أ.ب)
TT

سكان الأبراج المستهدفة يروون لـ {الشرق الأوسط} لحظات الرعب من الإنذار إلى التدمير

فلسطينيون يحتسون القهوة على أنقاض برج الباشا (أ.ب)
فلسطينيون يحتسون القهوة على أنقاض برج الباشا (أ.ب)

كان أحمد الشوا (23 سنة) جالسا في شقته، يراقب من زجاج نوافذها الغارات المكثفة التي كانت تضرب مناطق مختلفة من مدينة غزة ويتصاعد منها الدخان والغبار. مل أحمد ذاك الجو والشعور بأنه حبيس المنزل خوفا من أن يصاب في حال غادره. قرر ترك شقته والبرج السكني واللقاء بصديق يقطن في منزل قريب من البرج.
قضى أحمد ساعات في منزل عماد وهما يتجاذبان أطراف الحديث بشأن الحرب والدمار الذي طال القطاع. حان موعد المغادرة والعودة إلى شقته لكنه فضل قبل ذلك أن يتوجه إلى السوبر ماركت لشراء بعض الحاجات مثل المكسرات والشوكولاته والكولا وغيرها. تناول حاجاته وغادر المحل الذي يبعد أمتارا قلائل عن البرج. وصل إلى الشقة وجلس في الصالون إلى جانب والدته وأشقائه وما إن وضع يده على الحاجات التي اشتراها حتى طلب «بواب البرج» من السكان الخروج فورا منه بعد أن تلقى اتصالا من المخابرات الإسرائيلية تبلغه أن الطائرات ستقصف المكان بعد وقت قصير وعلى الناس المغادرة فورا.
يقطن أحمد في برج «الظافر 4» في حي تل الهوى جنوب غربي مدينة غزة، كثير من سكان القطاع يحسدون من يقطنون في ذاك الحي الذي يصفونه بـ«الراقي»، لأنه لم يتعرض للقصف خلال الحرب، بخلاف بقية أحياء المدينة.
لم يعرف أحمد كما بقية سكان البرج ما يأخذ معه قبل المغادرة وما يترك. ماذا سيتبقى من ذكرياتهم وما ستكون عليه حالتهم. كل الأفكار ذهبت وأصبحوا جميعا في لحظات شلل تام. كل ما فكروا فيه الخروج فورا، فغادروا بملابسهم تلك التي كانوا يرتدونها. نساء لبسن جلابيبهن وأخريات خرجن بملابس المنزل، ورجال وشبان وأطفال خرجوا بما كانوا يرتدون. لم يعد هناك ما يستحق بعد الآن سوى حياتهم.
غادر الجميع، وبعد نصف ساعة جاءت الطائرات الإسرائيلية وضربت المبنى والسكان يتفرجون.
تحولت هذه البناية الشاهقة خلال ثوان معدودات إلى كومة حجارة، ثوان كانت فاصلة في حياة أحمد وعائلته وعشرات العائلات التي تقطن البرج منذ سنوات.
يقول أحمد لـ«الشرق الأوسط» «كانت لحظات عصيبة. لم أتخيل لوهلة واحدة أننا سنصبح بلا مأوى. قصفوا البرج بأكمله وكأنه لم يكن. كان هناك برج والآن اختفى». وأضاف بمرارة: «لا أستطيع أن أعبر أكثر من ذلك. الصورة قاسية جدا أن ترى كل أحلامك تهوي أمامك في ثوان. ترعرعت هنا وعشت هنا وكبرت هنا حتى أصبحت شابا ولكنني لن أكمل أحلامي بالزواج هنا حيث عشت طفولتي وحياتي كلها».
وقال: «أسقطوا البرج بأربعة صواريخ وكأن شخصا يكسر قطع بسكويت. كانت الصواريخ قوية جدا. يبدو أنها تستخدم لأول مرة في العالم وتجرب ضد سكان غزة. لقد شفطت البرج شفطا حتى أسقط كما هو. لم أر شيئا مثل هذا في حياتي كلها».
أبو حازم يسكن هو الآخر برج «الظافر 4» لم يتخيل أنه بعد أن قضى 15 عاما في هذا المكان أن يصبح بلا مأوى هو وعائلته المكونة من 6 أفراد بعد أن تحولت شقتهم إلى كومة تراب.
ويوجد في برج «الظافر 4» نحو 65 شقة سكنية تضم عشرات العائلات الفلسطينية أي أن نحو 500 فرد باتوا جميعا مشردين.
وتحدث أبو حازم وهو مدرس سابق في الحكومة الفلسطينية، عن اللحظات الأخيرة قبيل القصف الإسرائيلي الذي دمر البرج. قائلا لـ«الشرق الأوسط» إن «بعض السكان نجوا بأعجوبة، إذ كان عددا منهم يغط بالنوم ولم يسمعوا بالتحذيرات ولم يستيقظوا إلا في اللحظات الأخيرة بعد أن وصل رجال الدفاع المدني للمكان وبدءوا بالمساعدة في إخلاء المواطنين».
وأشار أبو حازم إلى أنه لم يستطع إنقاذ أوراقه الثبوتية أو ملابسه وأنه اضطر وعائلته الخروج بما كان عليهم من ملابس. وأضاف: «خرجنا بالبيجامات والنساء بعضهن بملابس الصلاة».
أما الشاب خالد زقوت، الذي يقطن في البرج الإيطالي في حي النصر، فقد كان يحضر مباراة بكرة القدم في الدوري الإنجليزي بين فريقي مانشستر سيتي وليفربول في مقهى مجاور، ولم يفرح طويلا بفوز فريقه المفضل «مان سيتي»، إذ اتصلت به والدته وطالبت منه الصعود للبرج فورا لمساعدتها في إخلاء الشقة بعد أن اتصلت المخابرات الإسرائيلية بالكثير من السكان لإخلاء المكان تمهيدا لقصفه. أغلق خالد هاتفه ودعا الشبان الذين تجمعوا لحضور المباراة في الكافيتريا لمغادرتها لأن المكان سيقصف بأكمله، وهرع مسرعا ليأخذ بيد والدته وما استطاعت من جمعه من أوراق ثبوتية وملابس وحلى ذهبية وغيرها وخرجوا فورا كما العشرات من العائلات في البرج المكون من 16 طابقا ويقطن فيه أيضا أكثر من 500 عائلة.
ويقول خالد: «فوجئت لحظة وصولي مدخل البرج بأن الناس تخرج في هلع خائفة. الكل يصرخ وكأن زلزالا ضرب المكان». وأضاف: «صعدت إلى الشقة فلم أجد أحدا لا أمي ولا أشقائي، تركت المكان ورحت أبحث عنهم حتى وجدتهم عند أحد المحال القريبة يقفون في الخارج، وما إن وصلتهم حتى أطلقت طائرات استطلاع إسرائيلية عدة صواريخ على سطح البرج في أوقات مختلفة وعند كل انفجار صاروخ يبدأ الناس بالصراخ وخصوصا النسوة والأطفال».
ويقول زقوت إنه «لم تمر سوى أقل من عشر دقائق حتى أطلقت طائرات حربية 4 صواريخ بأوقات مختلفة فسقطت أجزاء كبيرة من البرج، ولم يتبق سوى جزء قابل للانهيار ولم يعد يصلح للسكن».



أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
TT

أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)

قرب ركام مبنى ما زال الدخان يتصاعد منه في مدينة صور، تحمل عائلة حقائب وتصعد على سلم مظلم إلى شقة خُلعت أبوابها ونوافذها، ولا يوجد فيها ماء ولا كهرباء، بعد أن استهدف القصف الإسرائيلي البنى التحتية والطرق، إضافة إلى الأبنية والمنازل.

في اليوم الثاني من سريان وقف إطلاق النار بين «حزب الله» وإسرائيل، كانت مئات العائلات صباح الخميس تتفقّد منازلها في أحياء استهدفتها الغارات الإسرائيلية، وحوّلتها إلى منطقة منكوبة.

لم تسلم سوى غرفة الجلوس في شقة عائلة نجدة. تقول ربّة المنزل دنيا نجدة (33 عاماً)، وهي أم لطفلين، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، بينما تقف على شرفتها المطلة على دمار واسع: «لم نتوقّع دماراً إلى هذا الحدّ. رأينا الصور لكن وجدنا الواقع مغايراً وصعباً».

وغطّى الزجاج أسرّة أطفالها وألعابهم، في حين تناثرت قطع من إطارات النوافذ الحديدية في كل مكان. وتضيف دنيا نجدة: «عندما وصلنا، وجدنا الدخان يتصاعد من المكان، وبالكاد استطعنا معاينة المنزل».

على الشرفة ذاتها، يقف والد زوجها سليمان نجدة (60 عاماً)، ويقول: «نشكو من انقطاع المياه والكهرباء... حتى المولدات الخاصة لا تعمل بعد انقطاع خطوط الشبكات».

ويقول الرجل، الذي يملك استراحة على شاطئ صور، الوجهة السياحية التي تجذب السكان والأجانب: «صور ولبنان لا يستحقان ما حصل... لكن الله سيعوضنا، وستعود المدينة أفضل مما كانت عليه».

وتعرّضت صور خلال الشهرين الماضيين لضربات عدّة؛ دمّرت أو ألحقت أضراراً بمئات الوحدات السكنية والبنى التحتية، وقطعت أوصال المدينة.

وأنذرت إسرائيل، خلال الأسابيع القليلة الماضية، مراراً سكان أحياء بأكملها بإخلائها، ما أثار الرعب وجعل المدينة تفرغ من قاطنيها، الذين كان عددهم يتجاوز 120 ألفاً.

لن يحصل بنقرة

خلال جولة في المدينة؛ حيث تعمل آليات على رفع الردم من الطرق الرئيسة، يحصي رئيس بلدية صور واتحاد بلدياتها، حسن دبوق لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «أكثر من 50 مبنى، مؤلفة من 3 إلى 12 طابقاً دُمّرت كلياً جراء الغارات الإسرائيلية»، غير تضرّر عشرات الأبنية في محيطها، بنسبة تصل إلى 60 في المائة. ويضيف: «يمكن القول إنه يكاد لم يبقَ أي منزل بمنأى عن الضرر».

وشهدت شوارع المدينة زحمة سير مع عودة المئات من السكان إلى أحيائهم، في حين أبقت المؤسسات والمحال التجارية والمطاعم أبوابها موصدة.

ويوضح دبوق: «يتفقّد السكان منازلهم خلال النهار، ثم يغادرون ليلاً بسبب انقطاع الماء عن أنحاء المدينة والكهرباء عن الأحياء التي تعرّضت لضربات إسرائيلية قاسية».

ويقول إن الأولوية اليوم «للإسراع في إعادة الخدمات إلى المدينة، وتأمين سُبل الحياة للمواطنين»، مقرّاً بأن ذلك «لن يحصل بنقرة، ويحتاج إلى تعاون» بين المؤسسات المعنية.

ويضيف: «من المهم أيضاً إزالة الردم لفتح الشوارع حتى يتمكّن الناس من العودة».

واستهدفت غارة إسرائيلية في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) شركة مياه صور، ما أسفر عن تدميرها، ومقتل موظفيْن، وانقطاع المياه عن 30 ألف مشترك في المدينة ومحيطها، وفق ما قال رئيس مصلحة مياه صور وليد بركات.

ودمّرت الغارة مضخّات المياه وشبكة الأنابيب المتفرّعة منها، وفق ما شاهد مراسلو «وكالة الصحافة الفرنسية»، الخميس، في إطار جولة نظمها «حزب الله» للصحافيين في عدد من أحياء المدينة.

وتحتاج إعادة بنائها إلى فترة تتراوح بين 3 و6 أشهر، وفق بركات، الذي قال إن العمل جارٍ لتوفير خيار مؤقت يزوّد السكان العائدين بالمياه.

ويقول بركات: «لا صواريخ هنا، ولا منصات لإطلاقها، إنها منشأة عامة حيوية استهدفها العدوان الإسرائيلي».

قهر ومسكّنات

بحزن شديد، يعاين أنس مدللي (40 عاماً)، الخيّاط السوري المُقيم في صور منذ 10 سنوات، الأضرار التي لحقت بمنزله جراء استهداف مبنى مجاور قبل ساعة من بدء سريان وقف إطلاق النار. كانت أكوام من الركام تقفل مدخل المبنى الذي تقع فيه الشقة.

ويقول بأسى: «بكيت من القهر... منذ يوم أمس، وأنا أتناول المسكنات جراء الصدمة. أنظر إلى ألعاب أولادي والدمار وأبكي».

وغابت الزحمة، الخميس، عن سوق السمك في ميناء المدينة القديمة، الذي كان يعجّ بالزبائن قبل الحرب، بينما المراكب راسية في المكان منذ أكثر من شهرين، وينتظر الصيادون معجزة تعيدهم إلى البحر لتوفير قوتهم.

بين هؤلاء مهدي إسطنبولي (37 عاماً)، الذي يروي أنه ورفاقه لم يبحروا للصيد منذ أن حظر الجيش اللبناني في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) حركة القوارب في المنطقة البحرية جنوب لبنان.

ويقول: «لم يسمح الجيش لنا بعد بالخروج إلى البحر حفاظاً على سلامتنا» باعتبار المنطقة «حدودية» مع إسرائيل.

ويقول إسطنبولي: «نراقب الوضع... وننتظر»، مضيفاً: «نحن خرجنا من أزمة، لكن الناس سيعانون الآن من أزمات نفسية» بعد توقف الحرب.

ويقول أب لأربعة أطفال: «أحياناً وأنا أجلس عند البحر، أسمع صوت الموج وأجفل... يتهيّأ لي أن الطيران يقصف. نعاني من الصدمة».