الربيع الموؤود

يستغرب المرء من أولئك المثقفين والكتاب الصحافيين، الذين لا يتركون فرصةً، منذ 2011 إلى الآن، إلا وصبوا لعناتهم على ما بتنا نسميه «الربيع العربي» - وهو ربيع حقاً معنى ومبنى - ملقين كل ويلاتنا ومآسينا وخرابنا على رأس هذا الربيع الحزين، الذي ما كاد يرفع رأسه قليلاً حتى استخدموا كلَّ ما في الأرض من أسلحة فتاكة، وكلَّ ما هو موجود في قواميس اللغة من صفات بذيئة حتى ألصقوها باسمه، وكأننا كنا في نعيم مقيم قبله، واستعدنا الفردوس المفقود بعده. حسنو النية من هؤلاء، ينطلقون من المآلات التي انتهت إليها الانتفاضات الشعبية العفوية في أكثر من بلد عربي، وهي مآلات ليست لها أي علاقة إطلاقاً بهذه الانتفاضات إطلاقاً، وليست نتائج عكسية لفعل الانتفاضة نفسه، بل بالسلطات القائمة التي فعلت ما صار معروفاً من قمع وقتل جماعي، كما في سوريا، أو استطاعت أن تلتف - تحت أقنعة كثيرة - على تلك الانتفاضات، كما حصل في مصر وتونس، وكما تحاول أن تفعل الآن في الجزائر والسودان.
ورغم براءة مثل هذه الآراء، كما تبدو من السطح، إلا أنها تصدر عن منطق شكلي يقف على رأسه بدل قدميه.
أما الرأي الآخر، وهو الأخطر، فيصدر عن فكر ساهم في تأبيد الثقافة السائدة، التي رسخت وروجت مفاهيم باطلة تغلغلت على مدى سنوات طويلة في أذهان الناس، واستبطنت حتى لا وعيهم، وبشكل خاص مفهوم «الأمن». إنهم يقولون لك بصريح العبارات: «على الأقل، كان هناك أمن في سوريا بشار الأسد، وأمن تحت حكم القذافي...»، متناسين أنه أمن القوة، أمن الخرفان المطلوب أن تبقى تلوك العلف فقط، ويكفيها ذلك في هذه الحياة الفانية، وأنه ليس أماناً وطمأنينةً حقيقيين لا يمكن أن يولدا إلا من رحم شيء آخر حاول الناس البسطاء تحقيقه في «ربيعهم» الموؤود: الحرية، القيمة المطلقة، التي لا يمكن أن يشعر المرء من دونها بأي تحقق ذاتي، ولا يمكن لأي مجتمع أن يكون طبيعياً من دونها.
ويتجاهل أصحاب هذا الرأي حقيقة أشرنا إليها سابقاً، ولا بأس من تكرارها هنا، وهي أن هناك جيلاً ينمو، ولد معظمه تحت ظلال الطغاة؛ قدره تقرير للأمم المتحدة بـ100 مليون شاب، أي 30 في المائة من 370 مليون عربي، وهو، حسب التقرير، الجيل الأكثر تمدناً في تاريخ المنطقة، والأكثر مستوى تعليمياً. لكنه مختنق سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ونفسياً... وحينما تحين اللحظة الذاتية والموضوعية المناسبة، كما يعلمنا التاريخ، والدروس القريبة لـ«الربيع العربي»، الذي ينبعث الآن من الرماد في الجزائر والسودان، سيعبر هذا الجيل عن نفسه بأشكال مختلفة، ليس أقلها الانفجار، وليس أمامه سوى أن يفعل ذلك مهما تأخر الزمن، فهي قوانين الطبيعة والحياة، وستكون هناك ربيعات أخرى حتى يهتز التاريخ، ويلفظ ما في أحشائه من زوائد تراكمت طويلاً.
ربما لم يكن «الربيع العربي» قبل ثمان سنوات سوى «بروفة»، وإن صبغوها بالدم، وربما يفلحون بعد تجدده في اغتياله مرة أخرى بأشكال مختلفة. ومع ذلك، نجح هذا الربيع في كشف الطغاة أمام أعيننا، وهم عراة تماماً، وبائسون بؤس الأطفال، وعرى إلى حد كبير خطابنا الثقافي والإعلامي الهلامي، وخلخل، وهذا الأهم، شيئاً من قيمنا الاجتماعية والثقافية المتصلدة منذ دهور طويلة، طارحاً على جدول أعمالنا قيمة كبرى لا ترتفع فوقها أي قيمة، وهي قيمة الحرية التي لا يمكن نفيها بحجة الأمن الوهمية. وبغض النظر عن المآلات والنتائج، فالمواطن قد اكتسب هذه القيمة إلى الأبد، ولو على المستوى الرمزي الذي قد يتحول إلى واقع مع تراكمه والنضال الدائب من أجل تحقيقه.