«القاعدة» تتنامى إعلامياً على أنقاض «داعش»

الظواهري يحث أنصاره على وقف الاقتتال الداخلي

حمزة بن لادن تعده «القاعدة» لخلافة الظواهري
حمزة بن لادن تعده «القاعدة» لخلافة الظواهري
TT

«القاعدة» تتنامى إعلامياً على أنقاض «داعش»

حمزة بن لادن تعده «القاعدة» لخلافة الظواهري
حمزة بن لادن تعده «القاعدة» لخلافة الظواهري

يحاول تنظيم «القاعدة» الإرهابي تصدر المشهد الإعلامي على «أطلال» غريمه «داعش» الذي خسر الأرض والنفوذ في العراق وسوريا، ولاذت عناصره الأكثر شهرة بالفرار. لذا دشن منصة جديدة حملت اسم مجلة «أمة واحدة»، زاعماً أنها دورية تهتم بشؤون المسلمين. وتتولى إصدار المجلة مؤسسة «السحاب»، وقد جاءت افتتاحيتها بقلم زعيم التنظيم أيمن الظواهري الذي دعا عناصر التنظيم لنبذ الفرقة و«عدم الاقتتال الداخلي»، مسترشداً بكلمات مؤسس التنظيم أسامة بن لادن.

دراسة مطولة لدار الإفتاء في مصر قالت إن «المجلة تُعد منبراً لبث فتاوى التحريض ورسائل القتل»، لكنها كشفت «أزمة التناحر الداخلي الذي يعاني منه التنظيم، ومخاوف الظواهري من الإطاحة به». و«السحاب» هي أول مؤسسة إعلامية للتنظيم، وإدارتها كانت تحت قيادة الظواهري، ومن قبله بن لادن، ومهمتها الأساسية إنتاج أشرطة الفيديو المسجلة لقادة التنظيم وبثها، وقد أنتجت كثيراً من الفيديوهات التي ظهر فيها أشهر قادة التنظيم، وعلى رأسهم بن لادن، بالإضافة إلى بث فيديوهات القتال والخراب التي كان يقوم بها «القاعدة». وتأسست «السحاب» عام 1988، على يد بن لادن، بغرض الاحتفاء بعناصر التنظيم في أفغانستان، وكان الإنتاج الأول لها شريط تفجير المدمرة الأميركية «يو إس إس كول»، في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2000، ثم أنتجت فيديوهات تحدثت عن تدريب عناصر «القاعدة» في أفغانستان.

صراعات داخلية
أكدت الدراسة التي أعدها «مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة» أن «العدد الأول من (أمة واحدة) حرض على القتال، فهو - حسب زعم المجلة - من أكبر واجبات الوقت وفرائضه»، موضحة أن «إصدار المجلة يأتي أيضاً في ظل صراعات داخلية يشهدها التنظيم، في خضم توارد الأنباء عن محاولات لتنصيب حمزة بن لادن زعيماً للتنظيم، والإطاحة بالظواهري، وهو ما تحول إلى صراع في الميدان باليمن، حيث شهد التنظيم صراعاً دامياً بين الفصائل المتناحرة داخله، ولهذا استشهدت المجلة بمقولات ومقالات متنوعة للمؤسسين الأوائل للتنظيم، بن لادن وعبد الله عزام، وكبار منظري التنظيم، وذلك بغية التأكيد على أن التنظيم يسير على نهجهم، ولم يخرج عن المسار الذي رسمه بن لادن، وهي محاولة لدعوة أنصار التنظيم للسمع والطاعة».
وظهر حمزة بن لادن (27 عاماً) في مايو (أيار) عام 2017، بمقطع فيديو بثته مؤسسة «السحاب»، عد فيه أن «العمليات التي تستهدف الغرب من أعظم القربات». وفي 2008، ظهر شريط فيديو لحمزة يهاجم فيه بريطانيا والولايات المتحدة والدنمارك وفرنسا. وكان حمزة قد ظهر عام 2005 في أول مقطع مرئي له، ضمن قوة من مقاتلي «طالبان» استهدفت جنوداً باكستانيين في وزيرستان الجنوبية.
وقبل ذلك، في 2003، خرجت رسالة صوتية منسوبة إليه، يحض فيها أتباع التنظيم على «إعلان الجهاد».
وعن كون حمزة مؤهلاً لقيادة «القاعدة» مستقبلاً، لم يستبعد عمرو عبد المنعم، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، ذلك، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «قد يكون التنظيم يعد حمزة لخلافة الظواهري»، ودلل على ذلك بأن التنظيم لا يثق في أي قيادة من خارج «القاعدة»؛ لذلك يتم تصعيده من باب التوثيق، وبعض قيادات «القاعدة» تدفع بحمزة ليقول التنظيم إنه باقٍ.
وعن المجلة، قال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، لـ«الشرق الأوسط» إن «غلاف المجلة عبارة عن صورة بسيطة صامتة، عليها خريطة العالم الإسلامي. وقد عبر الغلاف عن أبرز العناوين التي تحتويها، وحجم المجلة 43 ورقة، وبدأت بمقال افتتاحي للظواهري، بعنوان «مجاهدو الأمة يخوضون جهاد أمة»، تحدث فيه عن موقف التنظيم من الجهاد، وأهم قواعده، وضرورة تجديد فكر التنظيم، محذراً من خطورة الانقسامات والاقتتال الداخلي بالتنظيم. أما مقال أسرة التحرير، فقد جاء بعنوان «مجلة أمة واحدة... الوسائل والأهداف»، وتحدث عن أن «الهدف من المجلة هو التحريض على القتال، والحث على استمرار أعمال القتال».

تهديد خطير
يشار إلى أن «القاعدة» يمثل التهديد الأخطر على أمن واستقرار منطقة شمال وغرب أفريقيا، وسبق أن هدد فرع للتنظيم بشن هجمات على شركات غربية في شمال وغرب أفريقيا، ودعا إلى مقاطعتها.
وأكدت دراسة دار الإفتاء أن «توقيت إصدار المجلة يأتي في ظل سياق متشابك، حيث تراجع وانحسار تنظيم (داعش) وأذرعه الإعلامية، حيث لم تعد للتنظيم الإرهابي منابر إعلامية، كما كان عليه الوضع بعد 2014، وهو ما يحاول تنظيم (القاعدة) استغلاله، بإعادة شغل الفراغ الإعلامي الإرهابي، والاستحواذ على مساحة الضوء والتأثير، من خلال تنويع منصاته الإعلامية، وإصداراته المرئية والمسموعة والمقروءة، وهو ما يمكن ملاحظته خلال الشهور الستة الماضية، من تنامي نشاط إعلامي غير معتاد للتنظيم منذ أكثر من ست سنوات».
وقال نجم: «من موضوعات العدد الأول للمجلة التحريض ضد الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، في مقال بعنوان (الاقتصاد الأميركي نحو الهاوية)، كتبه محسن الرومي.
ومقال آخر تحدث عن ازدواجية معايير الغرب في التعامل بمنظومة حقوق الإنسان، كتبه أبو صلاح. كما أفردت المجلة بعض المقالات التحريضية ضد عدد من الدول العربية... وتضمن العدد تسجيلاً صوتياً لكلمة كان قد ألقاها قيادي التنظيم بالجزائر أبو يوسف العنابي في مطلع مارس (آذار) الماضي. وأفردت المجلة مساحة كبيرة لنقد (وثيقة الأخوة الإنسانية) التي وقعها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وبابا الفاتيكان فرنسيس الأول في فبراير (شباط) الماضي. واستشهدت المجلة أيضاً بعدد من المقالات التي تحث على القتال والاستمرار فيه، وعدم الاقتتال الداخلي، ومن أبرزها (رؤى مبشرة لأبي يحيى الليبي)، وهي مقالات تدعو لثبات التنظيم، وعدم الاقتتال الداخلي. كما تطرقت المجلة إلى قضايا المعتقلين من التنظيم في مختلف السجون، ودعت لمناصرتهم واتخاذهم قدوة في الصمود».

تضليل العقول
وقال مستشار مفتي مصر إنه «على خلاف بقية المجلات التي تصدر من التنظيمات الإرهابية، خلت المجلات من الأخبار المتعلقة بالعمليات التي ينفذها التنظيم وشبكاته، في حين استشهدت ببعض الأخبار التي تم توظيفها للتحريض ضد الدولة المصرية».
ولـ«القاعدة» عدد من الأذرع الإعلامية، من بينها مؤسسة «الفرقان»، وهي متخصصة في متابعة أخبار التنظيم بالعراق، ومؤسسة «الأندلس»، وكانت تقوم بإعداد إصدارات التنظيم، ومجلة «الصمود»، وهي تقوم بنشر أخبار حركة «طالبان»، ومجلات «صدى الملاحم» و«تركستان الإسلامية» و«الفلاح» و«إنسباير» و«بيتك» و«ابنة الإسلام».
وأكدت الدراسة في الصدد ذاته أن «القراءة الأولى للعدد الأول من المجلة تشير إلى عدة دلائل تؤكد نهج التنظيم العنيف خلال المرحلة القادمة، حيث إن التنظيم يسعى بشكل أساسي إلى إعادة تنظيم مساراته، بحيث يكتسب حاضنة شعبية، ولهذا يستمر التنظيم في رسم خطوطه العامة في التحريض على قتال العدو البعيد»، موضحة أن «التنظيم يسعى إلى تضليل العقول، والزعم بأن نشاطه الإرهابي والعنيف لا يستهدف سفك دماء المسلمين، ولا يخوض في أعراضهم».
واختتمت دار الإفتاء دراستها بـ«تأكيد أن هزيمة (داعش) لا تعني نهاية الإرهاب، بل إن (داعش) لم يكن سوى حلقة في سلسلة متصلة من الإرهاب العالمي، لذا لا بد من ضرورة إيجاد حلول فاعلة في تحجيم نشاط تنظيم (القاعدة) على مستوى الميدان في كثير من الساحات، سواء باليمن أو غرب ووسط أفريقيا»، مشددة على «ضرورة الاستفادة من حالة الاحتقان الداخلي التي يعيشها التنظيم، والتناحر على الزعامة»، وداعية إلى «ضرورة تنسيق الجهود الدولية والإقليمية لمكافحة الإرهاب الإعلامي للتنظيمات الإرهابية، وإيجاد حلول سريعة تمنع من نشر وتداول المواد الإعلامية لتلك الجماعات».
ومن جهته، أكد الدكتور محمود الصاوي، وكيل كلية الإعلام جامعة الأزهر، لـ«الشرق الأوسط» أن «الإصدارات التي تصدرها الجماعات الإرهابية المتشددة، مثل (القاعدة) وغيرها، تنبهنا إلى موضوع طالما أكدنا عليه، وهو جدلية العلاقة بين الإعلام والإرهاب، ولا شك أن ثمة علاقة قوية وحساسة ومعقدة بين الإرهاب وجماعاته المختلفة وبين الإعلام»، مضيفاً: «فمن جهة، تحرص وسائل الإعلام بطبيعة الحال على تغطية الحوادث الإرهابية كافة التي تفجع بها بلداننا ومجتمعاتنا، وتنشر الرعب وتثير الفزع وتبث الهلع، وتقتل الأبرياء المدنيين العزل في بلادنا العربية والإسلامية. وفي المقابل، فإن هذه الجماعات الإرهابية تعلم استراتيجيات وأساليب عمل وسائل الإعلام فتستغلها، حيث تقوم بارتكاب الجريمة الإرهابية، وتترك الباقي لوسائل الإعلام التي تقوم بتغطيتها ومتابعة أخبارها»، موضحاً: «لهذا أقول دوماً إنه ينبغي الحذر والحيطة من قبل وسائل إعلامنا وهي تقوم بتغطية هذه الجرائم الإرهابية التي تقوم بها تلك الجماعات، فلا تنشر إلا القدر اللازم والضروري للجمهور، وعليها أن تركز على التحقيقات والتقارير الاستقصائية، بحيث تضع القارئ دوماً في سياق التحليل ومعرفة الكوامن، والأسباب والدوافع وراء ارتكاب هذه الجرائم، والمبررات الشيطانية التي تغرر بها هذه الجماعات بالجماهير الغفيرة».


مقالات ذات صلة

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

آسيا جندي باكستاني يقف حارساً على الحدود الباكستانية الأفغانية التي تم تسييجها مؤخراً (وسائل الإعلام الباكستانية)

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

الجيش الباكستاني يبذل جهوداً كبرى لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين.

عمر فاروق (إسلام آباد)
أفريقيا وحدة من جيش بوركينا فاسو خلال عملية عسكرية (صحافة محلية)

دول الساحل تكثف عملياتها ضد معاقل الإرهاب

كثفت جيوش دول الساحل الثلاث؛ النيجر وبوركينا فاسو ومالي، خلال اليومين الماضيين من عملياتها العسكرية ضد معاقل الجماعات الإرهابية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا سيدة في إحدى قرى بوركينا فاسو تراقب آلية عسكرية تابعة للجيش (غيتي)

تنظيم «القاعدة» يقترب من عاصمة بوركينا فاسو

أعلنت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، الموالية لتنظيم «القاعدة»، أنها سيطرت على موقع عسكري متقدم تابع لجيش بوركينا فاسو.

الشيخ محمد ( نواكشوط)
أفريقيا رئيس تشاد يتحدث مع السكان المحليين (رئاسة تشاد)

الرئيس التشادي: سنلاحق إرهابيي «بوكو حرام» أينما ذهبوا

قال الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، في مقطع فيديو نشرته الرئاسة التشادية، إنه سيلاحق مقاتلي «بوكو حرام» «أينما ذهبوا، واحداً تلو الآخر، وحتى آخر معاقلهم».

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا آثار هجوم إرهابي شنَّته «بوكو حرام» ضد الجيش التشادي (إعلام محلي)

«الإرهاب» يصعّد هجماته في دول الساحل الأفريقي

تصاعدت وتيرة الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً بعد أن أعلنت تشاد أن أربعين جندياً قُتلوا في هجوم إرهابي.

الشيخ محمد (نواكشوط)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.