عنف ديني وعرقي في جغرافيا الإرهاب

من دولة مالي إلى نيجيريا

الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا يتفقد الدمار الذي سببه هجوم لقبائل الفولاني بعد إحدى عملياتها الإرهابية (رويترز)
الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا يتفقد الدمار الذي سببه هجوم لقبائل الفولاني بعد إحدى عملياتها الإرهابية (رويترز)
TT

عنف ديني وعرقي في جغرافيا الإرهاب

الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا يتفقد الدمار الذي سببه هجوم لقبائل الفولاني بعد إحدى عملياتها الإرهابية (رويترز)
الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا يتفقد الدمار الذي سببه هجوم لقبائل الفولاني بعد إحدى عملياتها الإرهابية (رويترز)

يؤشر مسلسل العنف غير المتناهي بكل من مالي ونيجيريا، على وجود أزمة في بنية الدولة؛ ما يمنح فرصاً كبيرة لانتشار الجماعات المتطرفة وبروز قيادات إرهابية، تحت يافطات عرقية ودينية.
وفي سياق هذا التناحر العرقي القائم، قُتل يوم 8 أبريل (نيسان) 2019 ما لا يقل عن 20 شخصاً، في أحدث هجوم قام به رعاة يشتبه في أنهم من الفولاني في قرية أنغوان أكو، بمنطقة كاجورو للحكم المحلي بولاية كادونا. ويعد هذا الحدث الدموي واحداً من المؤشرات المبرزة للتشابك العضوي بين الصراع العرقي والظاهرة الإرهابية، التي تعيشها دول الساحل وغرب أفريقيا.

جغرافيا المجازر
تأتي هذه العملية الإجرامية، لعرقية الفولاني المسلمة ضد قبيلة أدارا المسيحية، في إطار سلسلة من عمليات الاقتتال الديني والعرقي، الذي شهد تزايداً كبيراً منذ سنة 2012 بمنطقة الساحل، وبلغ حسب الأمم المتحدة ذروته سنتي 2016 و2018 بغرب القارة السمراء خصوصاً نيجيريا. غير أن مسار الأحداث الأخيرة، بكل من دولتي مالي ونيجيريا، يدل على حصول تحول نوعي في النزاع القائم، خصوصاً أن عرقية الفولاني بمالي، تناصر تنظيم محمد ممادو كوفا، بينما تعتبر الهوسا وتوابعها من الفولاني بنيجيريا من مؤيدي تنظيم «بوكو حرام».
في سياق هذا التحول النوعي، تفاجأ العالم بوحشية العملية الإجرامية التي أودت بحياة 160 شخصاً من الفولاني المسلمة، في مذبحة مروعة نفذها مسلحون من قبيلة الدوجون، العاملة بالصيد، ضد أهالي قرية أوجوساجو، في 23 مارس (آذار) 2019. ويبدو أن وحشية هذه العملية تعيد إلى السطح، ارتباط العنف القبلي والديني، بالتطهير العرقي، والممارسة الإرهابية.
وقد أشار إلى ذلك مراسل صحيفة «لوموند» الفرنسية بالقول إن المهاجمين «لم يتركوا أحداً، وعمدوا إلى حرق كل شيء بالبنزين وقتلوا كل شيء يتحرك بالأسلحة». وكان المهاجمون قد وصلوا إلى المنطقة بدراجات نارية فجراً وحاصروا المكان، قبل أن يفصلوا الرجال عن غيرهم ويقتلوا الجميع، ويحرقوا كل الأكواخ التي كان يسكنها القتلى.
وإذا كانت الفولاني، كما أشرنا أعلاه، تناصر فرع «القاعدة في المغرب»، فإن قبيلة الدوجون التي نفذت المجزرة الأخيرة، كونت بإشراف من دولة مالي ميليشيات مسلحة، غير خاضعة للجيش الرسمي. وبدأت هذه المجموعة العسكرية في الدفاع عن الدوجون منذ تأسيسها سنة 2016 تحت اسم «دانا أماساغو»، وهذا الاسم يحمل دلالة لا تخلو من نبرة دينية، حيث يعني «الصيادين الموقنين بالإله» بلغة الدوجون.
ويشار إلى أن الفولاني عرقية وقبائل مسلمة منتشرة في دول غرب ووسط القارة الأفريقية، مثل نيجيريا ومالي الكاميرون وغينيا والسنغال وموريتانيا، وعدد أفرادها نحو 40 مليون نسمة. وما زالت الفولاني تعيش على حياة الرعي والترحال، ما يسبب لها مشاكل مع القبائل الأكثر استقراراً، التي تمارس الزراعة.
وهذا ما يفسر الارتفاع المطرد لأعمال العنف والاقتتال بين هذه القبائل وغيرها بنيجيريا ومالي، غير أن هذا العامل لا يمثل السبب الوحيد، حيث نجد أن تداخل الفولاني مع الجماعات الإرهابية، يعكس من جهة، رغبة هذه العرقية في الدفاع عن مصالحها، وضمان حرية التنقل والأمن عبر طرق الصحراء المختلفة، التي تعرف مراقبة أو إشرافاً من تلك الجماعات المتطرفة في الساحل والصحراء، ومن جهة أخرى، فإن الفولاني تعتبر الأقرب لعرقية الطوارق بزعامة إياد أغ غالي زعيم تنظيم «نصرة الإسلام والمسلمين»؛ وهذا يفسر دخول كوفا أمير «جبهة تحرير ماسينا» بمالي، في وحدة اندماجية مع التنظيم الجديد لإياد أغ غالي، في مارس 2017.
وبالعودة للعملية المشار إليها، صباح يوم الاثنين 8 أبريل 2019 بشمال وسط نيجيريا، نجد أن شهود عيان يشيرون إلى أن المهاجمين كانوا يتواصلون بلغة الفولاني، ويرتدون الزي العسكري ومسلحين ببنادق كلاشنيكوف والسواطير والعصي، وقد أطلقوا النار بشكل عشوائي ولاحقوا الفارين في الأحراش، وقتل بعضهم هناك.
ورغم أن السكان أبلغوا السلطات النيجيرية الرسمية قبل أيام من وقوع الحادث بإمكانية حدوث مجزرة في المنطقة، فإن السلطات لم تعمد لنشر قواتها في التماس بين القبيلتين، بل إن الشرطة التي وصلت إلى منطقة العملية لم تتوغل في الأحراش وفضلت العودة لمقراتها المركزية بالمدينة. وربما هذا ما دفع دانلادي ياريما، الرئيس السابق لجمعية أدارا للتنمية إلى اتهام محافظ المنطقة، ناصر الرفاعي، بالتحيز والتلكؤ في معالجة الأزمة، وبالتالي تكرار ما حدث بمنطقة كاجورو في 10 فبراير (شباط) 2019، عندما هاجم رعاة من الفولاني أنجوان باردي، وهي جماعة من أدارا، في الليل، وقتلوا 11 شخصاً.
وكان رد فعل أدارا المسيحية عنيفاً، حيث قتلت في سلسلة من الهجمات نحو 131 شخصاً من الفولاني، كما أعلن محافظ المنطقة. كما أسفر هذا الاقتتال عن تشريد نحو 4 آلاف شخص، وهو ما دفع الوكالة الوطنية للطوارئ ووكالة الطوارئ الحكومية إلى المساعدة في إعادة بناء المنازل التي دمرت خلال الهجمات المختلفة على المجتمعات المحلية لتمكين المشردين داخلياً من العودة إلى ديارهم.

مواجهة الدولة للعنف
وعلى أثر مقتل 20 شخصاً في النزاع العرقي بشمال نيجيريا تدخل مجلس الشيوخ الفيدرالي، عبر خطوات عملية. فمن جهة أولى، عبر عن إدانته جميع أعمال القتل بالبلاد وعن قلقه المتزايد، من انعدام الأمن بنيجيريا. ودعا لخطوات عملية لاستتبابه، ومنها إنشاء شرطة الولاية للقضاء على العنف من جذوره.
ومن جهة ثانية، قرر مجلس الشيوخ لمعالجة الأحداث المؤسفة، لا سيما في ولاية زمفارا، تخصيص 10 مليارات نيرة في ميزانية 2019 (الدولار الواحد يباع بنحو 160 نيرة)، كصندوق تدخل لمعالجة مشكلة انعدام الأمن في الدولة، ودعماً لتلبية احتياجات المشردين داخلياً وغيرهم من الأشخاص المتضررين من أنشطة العصابات المسلحة في الدولة. كما دعا الحكومة الفيدرالية إلى تشكيل لجنة مخصصة تُعرف باسم المبادرة الرئاسية لولاية زمفارا، لإدارة الصندوق المذكور والمخصصات اللاحقة، التي ستدفع للصندوق.
يشار إلى أن هذا التدخل من المجلس جاء كذلك للتفاعل مع مقتل 33 شخصاً في 3 مناطق حكومية محلية بولاية كاتسينا، منهم 11 قتلوا من طرف من يطلق عليهم «قطاع الطرق» المسلحون. ورغم أن جهود المؤسسات الرسمية، تعزز ببعض جهود المؤسسات المدنية مثل منتدى أريوا الاستشاري وغيرها، فإن معالجة حالة انعدام الأمن المتزايدة في البلاد، تبدو بعيدة المنال، خصوصاً أن الدولة والجيش عاجزان عن فرض السيطرة على كل المناطق الشمالية بنيجيريا.
ولذلك تتجه الدولة لجهود الوساطة، ووجهاء القبائل، والرموز الدينية، ومن ذلك ما يشير إليه، تعهد الزعيم الديني الكبير للهوسا سلطان سوكوتو بحشد الحكام التقليديين الشماليين لدعم الشرطة في مكافحة اللصوصية المسلحة، وغيرها من الجرائم في البلاد.
على الجانب المالي، اتخذت الدولة المالية، منذ اليوم التالي للهجوم الوحشي على قبيلة الفولاني يوم 23 مارس 2019، إجراءات بعضها ذات طابع سياسي وبعضها عملي؛ فقد أقال الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا في اجتماع استثنائي لمجلس الوزراء، بعض الوزراء و8 مسؤولين كبار؛ بدءاً من رئيس الأركان العامة، قبل أن يزور قرية أوغوساغو التي تعرضت للإبادة من جماعة «الصيادين الموقنين بالله».
من جهتها، أصدرت الحكومة المالية قراراً يتم بموجبه حل جماعة «الصيادين». وأوضح رئيس الوزراء المالي، سميلو بوبايي ماغا، أن قرار الحل هذا الغرض منه «التوضيح للجميع أن حماية السكان ستظل حكراً على الدولة».
غير أن قرار الحل هذا فهم منه أن هناك علاقة عضوية بين الجيش المالي وجماعة «الصيادين»، حيث سبق للفولاني أن اتهمت الجيش بالتواطؤ مع الجماعات المسلحة المهاجمة لها في عدة مواقع.
ويستند زعم الفولاني هذا على سماح السلطات والجيش لميليشيا «الصيادين الموقنين بالله» باستعمال الدراجات النارية رغم أنها محظورة بالمنطقة بقرار رسمي. كما أن الأمم المتحدة أشارت سنة 2018، إلى أن ميليشيا قبيلة الدوجون، تستخدم بشكل منتظم الأسلحة نفسها والذخيرة المستعملة من طرف الجيش المالي.
ويبدو أنه من الصعب إقناع جزء من الجيش المالي وقبائل الدوجون بأن الفولاني ليست عرقية وجماعة إرهابية، وذلك ما يضعف فرص السلام بين الجانبين، ويقضي على الاتفاق المبرم بين الطرفين بوساطة الحكومة المالية سبتمبر (أيلول) سنة 2018.
ويمكن القول، استناداً على الخبرة التاريخية، إن هناك علاقات جدلية بين الإرهاب والعنف الديني بنيجيريا ومالي، وأن كلاً منهما ينعش الآخر. كما أن ضعف الدولة زاد من قدرة التنظيمات الإرهابية على التلاعب بالنسيج القبلي والعرقي وتناقضاته؛ الشيء الذي يرهق الدولة ويخلق فراغاً أمنياً ومؤسساتياً واسعاً. ومن هنا تعمل التنظيمات الإرهابية على استغلال الوضع والدفع بالعرف المحلي والفكر الديني المتشدد للواجهة.

مالي تسابق الزمن
وفي إطار تكملة الإجراءات المصاحبة لمواجهة العنف والإرهاب بالساحل، ترأس الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا يوم 8 أبريل، في باماكو، دورة طارئة للمجلس الأعلى للدفاع الوطني، الذي يضم الوزير الأول وزير الدفاع والمحاربين القدماء ووزير الأمن والحماية المدنية والمسؤولين السامين للجيش. وقد خصصت الدورة الطارئة لدراسة دور العدالة في تثبيت الاستقرار في كل من ولايتي موبتي وسيغو، وتقييم تنفيذ خطة التأمين المندمجة لمناطق الوسط، وعملية «دامبي» التي وضعت سنة 2018 وتتكون من 4 محاور: هي الأمن والحكامة والتنمية الاجتماعية - الاقتصادية والتواصل. وتهم الخطة المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة وعمليات إرهابية، بقصد القضاء عليها خصوصاً في ولايات موبتي في الوسط وبعض مناطق شمال سيغو، وتومبوكتو وغاو في الشمال وكيدال في أقصى الشمال، وكوليكورو في الشمال الغربي.
*أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.