الرقص الشرقي... «العشق السري» للمثقفين

من مصر إلى كولومبيا فنّ واحد شغل الكثيرين

صلاح عبد الصبور  -  سعاد حسني  -  تحية كاريوكا  -  إدوارد سعيد
صلاح عبد الصبور - سعاد حسني - تحية كاريوكا - إدوارد سعيد
TT

الرقص الشرقي... «العشق السري» للمثقفين

صلاح عبد الصبور  -  سعاد حسني  -  تحية كاريوكا  -  إدوارد سعيد
صلاح عبد الصبور - سعاد حسني - تحية كاريوكا - إدوارد سعيد

تفتقد المكتبة العربية لمؤلفات جادة مخصصة للرقص الشرقي، رغم أن هذا الفن يشغل حيزاً مهماً من الأفلام والحفلات وأعمال الفن التشكيلي، ولا يتعفف عنه المثقفون والكتاب والشعراء ورجال السياسة، بل إن علاقة الراقصات المعروفات بالسياسة والساسة هي بحد ذاتها موضوع يمكن أن يكتب عنه الكثير. ومع ذلك، ترك الموضوع منذ زمن طويل للمستشرقين يقرأونه ويقدمونه للقراء من وجهة نظرهم. كتاب الأديب الصحافي محمد الحجيري «العشق السري.. المثقفون والرقص الشرقي»، الصادر عن «دار رياض الريس» في بيروت، هو بحث شيق رصين، يطارد معلومات قليلاً ما شغلتنا، ليكشف كيف أن الرقص الشرقي بقدر ما همش وعومل بازدراء، كانت في المقابل حياة نجماته تتمفصل مع أحداث تاريخية، ويشكل جزءاً حيوياً من الحياة اليومية للناس.
يسير الكتاب في عدة اتجاهات؛ من جهة يحاول أن يتخذ منحى أنثروبولوجياً، مع إطلالة على الجانب التاريخي، في مقدمة مسهبة. ثم يذهب إلى حياة أبرز الراقصات العربيات المعاصرات، ليطلعنا على مساراتهن، وبعض خفاياهن التي توضح المستور وتكشف بعض المسكوت عنه.
يتساءل الكاتب: لماذا لم يتحول الرقص الشرقي إلى «علامة وطنية» أو «رمز قومي»؟ فالمنتخب الأرجنتيني لكرة القدم يحمل اسم «منتخب التانغو»، الرقصة الشهيرة في تلك البلاد، وكذلك الحال بالنسبة لـ«منتخب السامبا» البرازيلي، و«منتخب الفلامنكو» الإسباني. وبرزت فرقة «البولشوي» في روسيا حتى لتكاد تصبح من أهم المعالم الوطنية التي يباهى بها. ويذكّر المؤلف بأن وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كسينجر كان يتقصد زيارة مصر ليشاهد رقص نجوى فؤاد، معتبراً إياها «أحد أهم الأشياء الجميلة التي عرفها في العالم العربي، إن لم تكن الأمر الوحيد». ومع أن الرقص الشرقي بقيت تعج به الملاهي الليلية، فإنه وضع في خانة «أعمال الشيطان»، وابتذل على اعتباره فحشاً وإغراء، ولم تنج الراقصات من ظلم الآراء الجاهزة. ونقرأ في الكتاب أن والي مصر محمد علي باشا منع الرقص الشرقي، وقمع الراقصات. كما يشير الكتاب بأصابع الاتهام إلى السينما المصرية التي قدمت الراقصات بصور سلبية، وساهمت في تكوين أفكار حولهن فيها دونية ليست بالقليلة.
الكاتب، في مقدمته، يحاول أن يحيط بتاريخ الرقص الشرقي وأصوله والمواقف الثقافية منه، ليقول: «ليس الرقص الشرقي لشعب بعينه، بل هو موجود في ذاكرة كل شعوب الدنيا»، عائداً إلى الزمن الوثني، والنقوش التي وجدت على المعابد الفرعونية، معتمداً على استشهادات تعود إلى المسعودي وابن خلدون وغيرهما.
وحين نصل إلى تحية كاريوكا، نقرأ أنها كانت «أيقونة المثقفين» و«فاكهة الرقص» و«نقيبة الفنانين»، التي حصلت على أصوات لم ينلها أشهر الممثلين من الرجال في زمنها، وتنازلت عن منصبها طوعاً. وقع في غوايتها، وسحر بشخصيتها، عدد كبير من الكتاب، بينهم سلامة موسى، وأشهرهم إدوارد سعيد، حتى حين كانت قد كبرت في السن، وقال فيها: «لم تكن تحية كاريوكا راقصة جميلة فحسب، وإنما كانت فنانة لعبت دوراً مهيمناً في تشكيل الثقافة المصرية»، بل يستنتج صاحب كتاب «الاستشراق» أن تحية كاريوكا تقف في قلب النهضة المصرية، إلى جانب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وأم كلثوم وعبد الوهاب ونجيب الريحاني.
ومن الصعب تلخيص الصفحات الطوال، وذكر التفاصيل الكثيرة الشيقة التي سطرها محمد الحجيري عن تحية كاريوكا، لكن لا بد من المرور على دورها السياسي، وتحدرها من أسرة مناضلة، حيث تأتي سيرتها السياسية قرينة لمسارها الفني. هي «أم اليسار» وابنة ثورة 1919 في تمردها الشخصي. عام 1948، ساعدت الفدائيين، وخزنت السلاح في مزرعة أختها. كما اعتقلت عام 1954 بتهمة العمل ضد النظام. وقالت وهي في السجن عن عهد جمال عبد الناصر: «ذهب فاروق، وجاء فواريق». كان لها مواقف جريئة دفاعاً عن فلسطين. وفي مهرجان كان عام 1956، وبخت الوفد الإسرائيلي، وطلبت من رئيس الوفد المصري الانسحاب، لكنه رفض. وطنية كاريوكا تجاوزت موقفها من النظام الناصري عند الشدة، وجمعت التبرعات للجيش المصري بعد هزيمة 1967، مما دفع بعبد الناصر، رغم خلافها معه، لأن يقول لها: «إنت ست بألف راجل، يا تحية».
الكتاب أقرب إلى أبحاث متتابعة تعتمد على مراجع واستشهادات، وتوثق المعلومات، ومن جميل ما يمكن أن يطلع عليه القارئ قصاصات من صحف عتيقة، وصور نادرة. ففي الصفحات المخصصة لبديعة مصابني صورة لهذه الراقصة جمعتها إلى تحية كاريوكا ومحمد فوزي، وأخرى في قسم آخر من الكتاب تجمع عبد الحليم حافظ مع الشاعر صلاح عبد الصبور. مصابني المولودة من أم شامية وأب لبناني حاربت حد الجنون إلى أن وصلت إلى مصر، وبقيت هناك وعملت ما كانت تحلم به. بين الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، كانت مصابني سيدة أعمال كبيرة في مجال تقديم العروض الراقصة واستثمار المسارح. وبعد أن تزوجت نجيب الريحاني وتركته، صار لها مسرح باسمها، وغيره بأسماء أخرى. وغزلت علاقات قوية خلال تلك الفترة مع رجال سياسة ومسؤولين كبار. وفي سن الرابعة عشرة، بعد موت والدها وتفرق أفراد عائلتها، وهرباً من فقر كبير، وصلت إلى مصر مع والدتها، لكنها سرعان ما هربت منها. حاولت أن تنهي تلك الأيام العجاف بالمال والسلطة، لكن مع وصول الضباط الأحرار إلى الحكم، تغيرت الأحوال، وانطفأت أنوار شارع محمد علي، وطولبت بضرائب لم تتمكن من دفعها، وعادت هاربة إلى وطنها لبنان بحيلة وصفت بأنها تشبه الخيال، بعد أن تزعمت المسرح الاستعراضي (الفودفيل) أكثر من ثلاثين عاماً في مصر.
لكل راقصة قصة تستحق فيلماً بمفردها، فهل المهنة هي التي كانت تدفع بهؤلاء النساء إلى عيش تفاصيل مثيرة، وإقامة علاقات تؤمن لهن حمايتهن من مجتمع يضطهدهن، أم أن النساء اللواتي اخترن هذه المهن هن اللواتي يجلبن لأنفسهن المتاعب؟ قد تكون الجدلية قائمة. فسامية جمال، التي حملت لقب «حافية القدمين»، أطلق الشاعر نزار قباني على أدائها تسمية «رقص الخيول». وهي لم تفتن الشعراء فقط، بل كانت معشوقة السياسيين ونجوم الشاشة. وهي، كغالبية اللواتي احترفن الرقص الشرقي، آتية من طفولة قهر وحرمان وفقر أيضاً. ربطت هذه الفلاحة البسيطة التي صارت نجمة الصحافة قصة حب كبيرة مع فريد الأطرش، سليل العائلة الكبيرة. وفي عهد الملك فاروق، تم اختيارها لتكون الراقصة الرسمية للقصر. ويبدو أنها تحولت إلى سبب للصراع بين المطرب الشهير والملك. وقد كتب الشاعر إبراهيم ناجي قصيدة في سامية جمال، يقول فيها: «يا من تمنيت شعراً يكون كفء جمالك، وليس في الكون شعر أراه كفئاً لذلك»، بينما اعتبر الروائي خيري شلبي أن رقصها «نوع من الأدب»، وأنها تعتمد على «الإبداع الصرف».
نجمة أخرى في الكتاب خصصت لها الصفحات الطوال، مع أنها غير محسوبة على الراقصات الشرقيات، ألا وهي سعاد حسني. رقصها الذي لم يُنسَ في بعض أفلامها، ولا بد أن أشهرها «خلي بالك من زوزو»، ومن ثم الضبابية التي لفت حياتها بسبب موتها الغامض؛ كلها عوامل منحت هذه النجمة بعداً أسطورياً، وإن كانت علاقة سعاد حسني بالسياسة قد بقيت موضع أسئلة، إلا أن صلتها بالأدباء أكثر وضوحاً، فقد وصفها صلاح جاهين بأنها «زي الفراشة»، وهي من أبرز الممثلات اللواتي أدين أدوراً في الأفلام المأخوذة عن روايات نجيب محفوظ. غنت لأحمد فؤاد نجم، وقال الشاعر السوري محمد الماغوط ذات يوم في حوار له: «ليس هناك في مصر سوى سعاد حسني»، وهي المقولة التي جلبت له كثيراً من المتاعب. ويقال إن الماغوط كان يحتفظ لها بصورة في بيته، إلى جانب صورة لجمال عبد الناصر. وقصتها الأشهر مع الأدباء هي مع الشاعر الرائد صلاح عبد الصبور، وهي التي قالت بعد وفاته إنها من خلاله قرأت وفهمت وعاشت بالقرب من الشاعر حين يهبط عليه الوحي، وإنها كانت «الملهمة التي تستمتع بدورها في جمع زهور الإلهام لتقدمها للشاعر». وفي الكتاب أيضاً سهير زكي التي اشتهرت بالرقص أمام السياسيين، والسيرة العجائبية للراقصة من أصول هندية في أوروبا ماتا هاري التي تحولت إلى مادة أدبية وسينمائية بسبب سيرتها الغامضة، وهي التي قرنت الجاسوسية بالرقص الشرقي والهندي والسالومي، وقد أطاحت برؤوس كبار لتدفع الثمن في النهاية رأسها الشخصي. وكذلك نقرأ عن شاكيرا وما كتبه عنها غابريل غارسيا ماركيز من أنها «الوردة النارية» و«أجمل مجنونات العالم». الرقص الشرقي من مصر إلى كولومبيا، مروراً بأوروبا، ليس فناً هامشياً، كما يقول الكتاب، بل هو من أكثر الفنون تمفصلاً مع يوميات الناس، ومن أكثر ما اجتذب رجال السياسة، وكان له الأثر الكبير في المثقفين.



هل مات جاك بيرك مسلماً؟

جاك بيرك
جاك بيرك
TT

هل مات جاك بيرك مسلماً؟

جاك بيرك
جاك بيرك

حينما قرأت نعي المستشرق أو قل المستعرب الفرنسي جاك بيرك في الصحف... وأنه مات على إثر نوبة قلبية داهمته وهو في قرية سان جوليان «ون يورن» حيث كان عاكفاً على ترجمة أجزاء من السنة النبوية الشريفة – شخصت أمامي على الفور تلك اللحظات التي قضيتها معه قبل سنوات قليلة حين زار الرياض في نهاية السبعينات الميلادية مستشاراً من قبل بضع الجهات في دراسة مظاهر التغيير الاجتماعي التي حدثت في بلادنا بعد حدود الطفرة النفطية في منتصف السبعينات.

كنت قرأت له بعض الدراسات حول التاريخ الاجتماعي والسياسي في المغرب الحديث، وحركة الريف التي قادها عبد الكريم الخطابي ضد الاستعمار، وكذلك فقد كان كتابه الذائع الصيت «العرب من الأمس إلى الغد» طاغي الحضور في الأوساط العربية المحتفية بجاك بيرك فرنسيّاً درس حضارة الإسلام وحياة العرب المعاصرين في المغرب العربي ومصر... بحب موضوعي الأسلوب، وله في ذلك كتابان شهيران.

وكان حضوره طاغياً لأنه من الأجانب القلائل الذين أنصفوا العرب وقدّروا الإسلام... ولأنه كان ذا نزعة آيديولوجية مناهضة للاستعمار والتغريب، فقد جاء إصراره في معظم ما يكتب على أن الصيغة المناسبة لفك اشتباك الهوية بين الأنا والآخر في العالم العربي والإسلامي هي إحياء إسلام عصري.

ولم يكن قول بيرك هذا خطاباً استهلاكيّاً يصرِّح به لهذه الصحيفة العربية أو تلك ليكسب مزيداً من المكانة المزيَّفة في المجتمع العربي... كلَّا. إنما كان يقول ذلك عن فهم دقيق لخصائص المجتمع العربي الذي وُلِدَ فيه. فجاك بيرك ولد سنة 1910م في قرية تابعة لولاية وهران الجزائرية حيث كان والده موظفاً مدنيّاً معروفاً في الإدارة الفرنسية المهيمنة على مقدرات الجزائر... ولكن هذا لم يمنع الأب والابن على السواء من التأثُّر بخصال المجتمع العربي هناك... وبعد تخرجه الأولي في مدارس الجزائر الفرنسية، ذهب وهو فوق العشرين موظفاً ذا سلطة في المغرب... إلَّا أن هذا لم يمنعه من الاحتكاك بالمجتمع وهمومه وقضاياه، ولتعرفه على عقلية المجتمع المغربي طفق يُثني ركبتيه في جامع القرويين أمام مشايخ المغرب ليدرس الفقه الإسلامي... كما يؤكد ذلك ألبرت حوراني في كتابه الأخير قبل رحيله، وهو «الإسلام في الفكر الأوروبي».

وقد أدهشني حقاً وأنا أسجل معه حواراً تلفازياً في برنامجي الأول «الكلمة تدق ساعة» كيف أبكى جمهور قريته الفرنسية، وهو يقرأ أمامهم - في لقاء أدبي - قصيدة «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، فوجدهم متفاعلين مع صور القصيدة، التي استوحاها الشاعر العراقي من طبيعة قريته جيكور، ونهيرها الصغير (كما وجدته).

ولنا هنا أن نقف باندهاش وتساؤل وتفكير أمام ما يقول حوراني في صفحة 164 من كتابه عن جاك بيرك: «إن كتابات بيرك مليئة فعلاً بالمشاهد والأصوات، بالروائح والمذاقات، لقد تشرَّب هذا الرجل العالم العربي بكل جوارحه، إنه لا يُصادق ببساطة في كتبه، إنه شخص يُرى سائراً في شوارع فاس الضيقة... عيناه منخفضتان، سجادة الصلاة تحت إبطه... خطواته تنم عن احتقاره لمشاهد العالم من حوله... كياسته الزلقة، أعصابه أعصاب أحد سكان المدن القدامى، حيلته كحيلة أحد رجال الحاشية القدامى، تعلقه بالمخمل المستعمل للزينة والحصى المنحوت في المنازل الرائعة، يجعله البطل المثقف لحضارة تعبر عنها جيداً موسوعية رجل الفكر، ومهارة الحرفي، ومتعة مآكلها».

ويواصل ألبرت حوراني حديثه عن جاك بيرك مسترشداً هنا بكتابه «عربيات» الذي هو كتاب سيرة ذاتية أملاه سنة 1978م على الباحثة اللبنانية دنيز عكر، يقول حوراني:

«هكذا يستحضر الجزائر التي عاش فيها طفولته بالمشاهد والروائح... ضوء ما بعد الظهر المتلألئ، رائحة (البرانس) الملوثة بالشحم، رائحة الأفاوية، والمغرب بطبقها الملوكي، فطيرة الحمام واللوز (البستيلا)، مثل هذه الانطباعات المحسوسة في كتاباته تصبح رموزاً لطبيعة الغرب المحددة، ولقبوله الخاص لها، ليس عنده شيء من فقدان السهولة، التي رسمت اتصال العديد من العلماء من الجيل السابق لجيله بالحقيقة الإنسانية التي درسوها، ببساطة - يقول جاك بيرك - إنني أذهب إلى البلدان العربية لأنني سعيد هناك».

في بحث للمستشرق الفرنسي روبير منتران، كتبه بمناسبة زيارته لبعض الجامعات العراقية قبل سنوات حول «الاستشراق الفرنسي، أصوله، تطوره، آفاقه» طفق منتران يقدم عرضاً بانوراميّاً عن تاريخ الاستشراق الفرنسي وظروف نشأة الاستشراق في الغرب عامة بعد الحروب الصليبية، وكذلك ذكر رموز الاستشراق الفرنسي وأعمدته... ودور مدرسة اللغات الشرقية والمكتبة الوطنية التي أنشئت بباريس في بداية الأمر لدراسة واقع الشرق المستعمر هنا وهناك في العالم الإسلامي.

حين مرّ روبير منتران على هذا كله، لم يتمالك من رمي بعض حصوات النقد في بركة الاستشراق الفرنسي التي اكتشف أنها تقف في مستوى تقليدي ساكن، رغم ما قدمته من خدمات إجرائية لدراسة التراث العربي والإسلامي... ولذلك فهو يطالب في بحثه الذي نشر في دورية «الاستشراق» البغدادية الصادرة في فبراير (شباط) سنة 1987م بالخروج من مفاهيم الاستشراق التقليدية، وذلك «بربط الموضوع (المدروس) بوشائج المجتمع العربي والإسلامي، أي في البيئة التي عرف فيها هذا الأدب ولادته وانتشاره».

وهذا ما حدث فعلاً لجيل المستشرقين الجدد في فرنسا، الذين واكبوا حركة المتغيرات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي مؤخراً، ومنهم جيل كيبيل وريان يشار وأوليفيه روا في دراساتهم عن تجربة الإسلام السياسي... غير أن الإنصاف العلمي ينبغي أن يرجح شيخ المستشرقين الفرنسيين المعاصرين جميعاً «جاك بيرك»، فهو الذي خرج بالمفهوم التقليدي للدراسات الاستشراقية أو الاستعرابية إلى آفاق جديدة حين تم ربط الظاهرة الفكرية والأدبية بجذورها الاجتماعية من خلال تخصصه كعالم اجتماع درس «التاريخ الاجتماعية لقرية مصرية في القرن العشرين» حيث تطور هذا البحث إلى كتابه ذائع الصيت «مصر الاستعمار والثورة».

ويذكر الكاتب اللبناني حسن الشامي في مقالة بجريدة الحياة ملمحاً مهمّاً في هذا الجانب من حياة بيرك العلمية، وهو المتعلق بأول بحث نشره في الجزائر سنة 1936م، فقد كان بعنوان «الوثائق الرعوية لبني مسكين».

لهذا، فلم يكن مستغرباً أن يتصاعد تفاعل بيرك بالمجتمع العربي ودراسة همومه وقضاياه وفكره، فإذا به يعكف في السنوات العشرين الأخيرة على إعداد ترجمة واسعة ومميزة للقرآن الكريم، أكملها في أخريات حياته، كشفت بعمق عن تعلق عاطفي وعقلي بكل ما لدى العرب من فكر وحضارة ودين، شغل لبّ المستعرب الفرنسي الذي كان كما يقول ألبرت حوراني: «يتأبط سجادة الصلاة في أزقة فاس».

هل كان جاك بيرك مسلماً؟

إنه سؤال يستحق اهتمام الدراسين، خصوصاً أن الرجل أنهى حياته بدراسة مصدري الدين الإسلامي الحنيف؛ القرآن الكريم والسنة النبوية.

بل السؤال المحير الذي تم تجاهله...

لماذا أوصى جاك بيرك بدفن نسخة من ترجمته للقرآن الكريم معه في قبره، رغم الحملة الشرسة التي طالت هذه الترجمة، من قبل بعض المسلمين، في الوقت الذي كان عاكفاً على دراسة السنة النبوية في أخريات أيامه سنة 1995م؟!

كما أنه أوصى بأن تنقل مكتبته الضخمة من بيته في باريس، إلى مسقط رأسه في مدينة فرندة الجزائرية، حيث ولد هناك سنة 1910م.