ويليام بار... الوزير الذي أعاد وزارة العدل الأميركية إلى سلطة ترمب

بعد أكثر من سنتين من التشكيك والفوضى من جرّاء ملف روسيا

ويليام بار... الوزير الذي أعاد  وزارة العدل الأميركية إلى سلطة ترمب
TT

ويليام بار... الوزير الذي أعاد وزارة العدل الأميركية إلى سلطة ترمب

ويليام بار... الوزير الذي أعاد  وزارة العدل الأميركية إلى سلطة ترمب

عندما قرّر الرئيس الأميركي دونالد ترمب الاستغناء عن جيف سيشنز، وزير العدل (المحامي العام - كما يُعرف في الولايات المتحدة) السابق وصديقه المقرّب وأكثر أعضاء الكونغرس حماسة وتأييداً له خلال حملته الانتخابية، قال إنه «لو كان يعلم بأن سيشنز سينأى بنفسه عن التحقيق في ملفّ التدخل الروسي المفترض، لكان اختار مدعياً عاماً بديلاً عنه بسرعة».
وعثر ترمب على هذا الرجل في شخص ويليام بيلهام بار، الذي أقسم اليمين وزيراً جديداً للعدل يوم 14 فبراير (شباط) الماضي، ليغدو الشاغل الخامس والثمانين للمنصب في تاريخ الولايات المتحدة، وأول شخص يجري تعيينه لولاية ثانية وزيراً للعدل منذ جون كريتيندين عام 1850.
وبالفعل، لم يخيب بار أمل الرئيس ترمب، إذ سارع على الفور إلى تولي ملف هذه القضية التي سمّمت أجواء نحو سنتين من ولايته الرئاسية الأولى. وعلى الرغم من أن نتائج التحقيق في هذا الملف خلُصت إلى تبرئة ترمب من تهمة التواطؤ مع روسيا، فإن القضية تحوّلت إلى نزاع سياسي، كشف عن أزمة عميقة تعيشها الديمقراطيات الغربية في تعاملها مع صعود اليمين المتشدد، وعجزها عن حل أزمة التمثيل السياسي، والرد على التحديات الاقتصادية التي أنتجتها العولمة وتداعيات قضية الهجرة والمهاجرين.

على الرغم من الاعتقاد بأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب ووزير عدله (المحامي العام) ويليام «بيل» بار صديقان حميمان منذ الثمانينات، ويتبادلان الزيارات العائلية، كان بار ينتقد علناً تحقيق المحقق الخاص روبرت مولر في قضية التدخل الروسي، إذ كتب بار عام 2017 أن مولر «أخطأ في تعيين محققين في فريقه ساهموا في دعم سياسيين ديمقراطيين»، في إشارة إلى هيلاري كلينتون. وأضاف أن «فريقه (أي فريق مولر) كان يجب أن يكون أكثر توازناً، كما كان التحقيق قاصراً، لأن هدفه كان الإطاحة بالرئيس». وفي يونيو (حزيران) عام 2018، أرسل بار مذكرة من 20 صفحة إلى نائب وزير العدل رود روزنشتاين، قال فيها إن «نهج مولر حول إثبات أن ترمب يسعى إلى عرقلة محتملة للعدالة، كان أمراً قاتلاً، لأن تصرفات الرئيس كانت ضمن سلطته الرئاسية».
ثم، وفي 7 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن ترمب ترشيحه لبار خلفاً لسيشنز، الأمر الذي وُصف بأنه بمثابة تعيين كبير المحامين للدفاع عنه في ملف التحقيق الذي يتولاه روبرت مولر.

- مدافع مخلص عن ترمب
جدير بالذكر أيضاً، أن بار كان قد دعم قرار الرئيس ترمب بطرد جيمس كومي، المدير السابق لـ«مكتب التحقيقات الاتحادي» (إف بي آي) عام 2017، قائلاً إن الرئيس لم يرتكب خطأً عندما دعا للتحقيق مع هيلاري كلينتون حين كان الاثنان يتنافسان على الرئاسة، ورغم أنه لم يدعُ إلى سجنها أو مقاضاتها، فإنه اعتبر التحقيق معها أمراً واجباً. وقال إن الجدل كان يجب أن ينصب حول قضية اليورانيوم الروسي المتهمة فيه كلينتون، بدلاً من النظر فيما إذا كان ترمب يتآمر مع روسيا للتأثير على انتخابات عام 2016.
وفي تطوّر ينذر بالتحوّل إلى أزمة سياسية جديدة، لكن هذه المرة بمبادرة من الجمهوريين، أعلن بار يوم الثلاثاء الماضي أنه سيشكّل فريقاً لمراجعة قرارات مكافحة التجسّس التي اتخذتها وزارة العدل ومسؤولو «إف بي آي»، بما في ذلك الإجراءات المتخَذة خلال التحقيق في حملة ترمب صيف 2016. وتابع أن «التجسس على حملة سياسية يُعدّ أمراً كبيراً»، في إشارة إلى «إف بي آي»، الذي يتهمه بار بأنه بادر إلى فتح تحقيق ضد حملة ترمب لأسباب سياسية، في ترديد للأوصاف التي استخدمها الرئيس ومؤيدوه.

- الشهادة المكتوبة
يوم 14 يناير (كانون الثاني) 2019، أي قبل يوم واحد من بدء جلسات الاستماع لتعيين بار، أرسل الأخير شهادة مكتوبة إلى اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ حول تقرير مولر النهائي، قال فيها: «مهم جداً إطلاع الجمهور والكونغرس على نتائج التحقيق، وهدفي كمحامٍ عام توفير أكبر قدر ممكن من الشفافية بما يتسق مع القانون».
وفي 22 مارس (آذار) 2019، أنهى مولر تحقيقه وقدّم التقرير النهائي إلى بار لدراسته. وبعد يومين قدّم بار تقريراً من أربع صفحات إلى الكونغرس لخّص فيه الاستنتاجات الرئيسية للتقرير، وهي: أولاً أن التحقيق لم يثبت وجود مؤامرة أو تنسيق بين حملة ترمب وجهود روسيا للتدخل في انتخابات عام 2016. وثانياً، لم يطلب مولر أي إجراء إضافي لاتهام ترمب بعرقلة العدالة، وأن «التقرير لا يخلص إلى أن الرئيس ارتكب جريمة وإن كان لا يعفيه».
ثم يوم الاثنين الماضي، بعد ردات فعل عنيفة ومطالبات مجلس النواب بنشر تحقيق مولر بالكامل، وافق بار على نشر أجزاء أوسع منه، محتفظاً بحق حجب كثير من المعلومات، التي اعتبر كشفها «مضراً بالأمن القومي».

- بار... وتاريخه السياسي
أثبت إذن ويليام بار ولاءه المبكر لدونالد ترمب «لأنه بعد كل شيء، ما الواجب الأعلى الذي يمكن أن يقوم به المحامي العام للولايات المتحدة غير المزايدة الشخصية للرئيس؟»، بحسب ما كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» أخيراً. لكن الأمر قد لا يبدو على هذا النحو بالنظر إلى تاريخ الرجل، الذي تقلد مناصب حكومية كثيرة، ولو كانت مواقفه تعكس على الدوام انتماءه الحزبي وقناعاته السياسية. بل إن بار، حقاً، عضو في الحزب الجمهوري، وسبق له أن تبّرع للمرشح الجمهوري جيف بوش خلال حملة 2016 بمبلغ 50 ألف دولار.
وُلِد ويليام بار في مدينة نيويورك يوم 23 مايو (أيار) 1950، وهو محامٍ سبق له أن شغل منصب نائب المحامي العام عام 1991، ثم تولى منصب وزير العدل من 1991 إلى 1993، بعدما أُعجب الرئيس الأسبق جورج بوش الأب بإدارته لملف 9 رهائن في أحد السجون الاتحادية، احتجزهم 121 نزيلاً كوبياً كانوا ينتظرون ترحيلهم إلى كوبا. ويومذاك، طلب بار - الذي كان نائباً لوزير العدل في تلك الفترة - من فريق إنقاذ تابع لـ«إف بي آي» مهاجمة السجن، ما أدى إلى إنقاذ جميع الرهائن من دون خسائر في الأرواح.

- موقفه من الإجهاض
كانت جلسة تعيين بار وزيراً للعدل للمرة الأولى عام 1991 هادئة بشكل غير عادي. وحظي باستقبال جيد من الجمهوريين والديمقراطيين في اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ، بخلاف جلسة تثبيته الأخيرة وزيراً للعدل، في فبراير الماضي.
وفي حينه، ورداً على سؤال عما إذا كان يعتقد أن الحق الدستوري في الخصوصية يشمل الحق في الإجهاض، أجاب بار بأنه يعتقد أن الدستور لم يكن في الأصل يهدف إلى إنشاء حق في الإجهاض، الذي هو قضية مشروعة لمشرّعي الولايات، وليس لديه آراء ثابتة أو مستقرة بشأنه.
هذا الرد حدا برئيس اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ - آنذاك - جو بايدن (نائب الرئيس الأميركي لاحقاً) بالقول إنه على الرغم من اختلافه مع بار، فإن كلامه هو أول إجابة صريحة يسمعها من أحد المرشحين لمنصب وزير العدل حول سؤال يجري التهرُّب منه عادة، ثم وصفه بأنه «رجل يعيدنا إلى الأيام التي كان لدينا فيها محامون بالفعل».

- الخلفية الاجتماعية
والدة وزير العدل، ماري مارغريت، ووالده، دونالد بار، كانا عضوين في هيئة التدريس بجامعة كولومبيا العريقة في مدينة نيويورك. وللعلم، فإن والده من أصل يهودي لكنه اعتنق الكاثوليكية وأنشأ ابنه في مدرسة كاثوليكية. وحصل ويليام على شهادة البكالوريوس عام 1971 وشهادة الماجستير في الدراسات الحكومية والصينية عام 1973 من جامعة كولومبيا، ثم حصل على درجة الإجازة (الدكتوراه) مع مرتبة الشرف العليا عام 1977 من كلية الحقوق بجامعة جورج واشنطن في العاصمة واشنطن.
في مقالة علمية له عام 1995 كتب بار بأن الحكومة الأميركية «مبنية بدقة» على نظام القيَم اليهودي - المسيحي. وصارع العلمانيين والليبراليين بشدة، قائلا إنهم يستخدمون ثلاث طرق لتغيير النسق القائم:
- القانون، كسلاح للقضاء على القواعد الأخلاقية التقليدية عبر إزالة الحواجز التي تحول دون الطلاق.
- تعزيز النسبية الأخلاقية، من خلال إقرار القوانين التي تحل الإجماع الأخلاقي، وفرض الحياد، لإعطاء المثليين حقوقاً كغيرهم من الأشخاص.
- استخدام القانون مباشرة ضد الدين لاستبعاد المواطنين ذوي الدوافع الدينية من الساحة العامة.
وختم بار بالتذكير بضرورة الحاجة إلى إعادة هيكلة التعليم، والاستفادة من التخفيضات الضريبية للمؤسسات الخيرية لتعزيز التعليم الكاثوليكي.

- في الاستخبارات
من عام 1973 إلى عام 1977، عمل بار في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه). كذلك عمل في فريق السياسة المحلية في البيت الأبيض إبان عهد الرئيس رونالد ريغان بين مايو 1982 وسبتمبر (أيلول) 1983، مع لقبه الرسمي نائباً مساعداً لمدير السياسة القانونية.
واشتهر بار، منذ ذلك الحين، بأنه مدافع قوي عن السلطة الرئاسية، وكتب مطالعات تبرّر الغزو الأميركي لبنما، واعتقال رئيسها مانويل نورييغا. وله رأي مثير للجدل يعطي «إف بي آي» الحق بدخول الأراضي الأجنبية دون موافقة الحكومة المضيفة، للقبض على الهاربين المطلوبين من قبل حكومة الولايات المتحدة، في تهم الإرهاب أو الاتجار بالمخدرات.
وفي 24 ديسمبر 1992، وقبيل نهاية ولايته بعد هزيمته من قبل بيل كلينتون، أصدر الرئيس جورج بوش الأب عفواً عن ستة من مسؤولي الإدارة، خمسة منهم أدينوا بتهم تتعلق بما عُرف بـ«فضيحة إيران - كونترا» بعد التشاور مع بار. ولقد دافع الأخير بشكل خاص عن وزير الدفاع السابق كاسبار وينبرغر، الذي لم يُحاكَم قَط.

- موضوع الهجرة
ودافع بار أيضاً، بعد سنوات كثيرة، عن قرار الرئيس ترمب فصل المدعية العامة بالوكالة سالي ييتس بسبب رفضها الدفاع عن الأمر التنفيذي الذي أصدره ترمب لمنع دخول مواطني سبع دول غالبيتهم من الدول الإسلامية. يُذكر أنه عندما كان نائباً لوزير العدل عام 1990، قاد بار بنجاح، إلى جانب آخرين في وزارة العدل، جهود سحب اقتراح من وزارة الصحة والخدمات الإنسانية كانت ستسمح للأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسب (إيدز) بدخول الولايات المتحدة. كذلك دعا إلى استخدام قاعدة خليج غوانتانامو الأميركية لمنع اللاجئين الهايتيين والأفراد المصابين بفيروس «الإيدز» من طلب اللجوء في الولايات المتحدة. ووفقاً لمحطة «فوكس نيوز» في ديسمبر 2018، دعم بار أجندة «القانون والنظام» ضد الهجرة، حين كان وزيراً في إدارة بوش الأب.

- مكافحة الجريمة
آيديولوجياً، عندما عُيّن بار وزيراً للعدل عام 1991 وصفته وسائل بأنه «محافظ متشدد». وقالت صحيفة «نيويورك تايمز» إنه يؤمن بأن مكافحة الجريمة العنيفة مستحيل إلا من خلال توسيع السجون الاتحادية وسجون الولايات لحبس المجرمين العنيفين.
واتخذ على الفور تدابير لمكافحة الجريمة في محاولة لإعطاء الأولوية لهذا الملف. وأعاد تشكيل 300 من عملاء «إف بي آي»؛ من العمل في مكافحة التجسس إلى التحقيق في عنف العصابات، وهو ما وُصف بأنه أكبر تغيير في القوى العاملة بتاريخ «إف بي آي».
وفي تأكيد لنهجه المحافظ المتشدد يؤيد بار عقوبة الإعدام، لأنه يعتقد أن قوانين عقوبة الإعدام الأكثر صرامة تقلل من الجرائم. وكان قد دافع عن مشروع قانون دعمه الرئيس بوش الأب، يوسع أنواع الجرائم التي يمكن معاقبتها بالإعدام. ودعا لأن يقتصر السجناء المحكوم عليهم بالإعدام في الطعن بأحكامهم على القضايا التي لا تستمر لسنوات طويلة. وقال إن «القضايا التي لا نهاية لها تدمر نظام العدالة الجنائية، وتقلل من تأثير القوانين وتستنزف موارد النيابة العامة وتعيد باستمرار فتح جروح الضحايا والناجين»، على حد قوله.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.