يحلو للفرنسيين أن يذكروا أن الجنرال ديغول، رئيس الجمهورية الأسبق، أقفل الباب في الستينات مرتين في وجه دخول بريطانيا إلى ما كان يسمى سابقا «السوق الأوروبية المشتركة». كذلك، لم ينسوا «المعارك الدامية» التي خاضها الرئيس جاك شيراك مع رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر حول الميزانية الأوروبية والسياسة الزراعية والخارجية. وها هو الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون يستعيد التراث الديغولي - الشيراكي، و«يشاغب» في ملف بريكست حيث فقد صبره، ويرى، وفق ما أسرّ به أحد مستشاريه يوم الثلاثاء الماضي، أنه «حان الوقت ليقرر البريطانيون ما الذي يريدون القيام به: البقاء داخل الاتحاد، والخروج وفقا للاتفاق الذي تم التوصل إليه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، أم الخروج الفوري من دون اتفاق». ويضيف المستشار المذكور أن فرنسا «احتاطت لكل الاحتمالات»، بما في ذلك الخروج الفوري.
وقبل دخوله إلى قاعة الاجتماعات في بروكسل، أسرّ ماكرون بأن قبول منح تيريزا ماي «مهلة إضافية طويلة ليس أمرا مكسوبا سلفا». وأكثر من ذلك، حرصت باريس على دعوة ستة بلدان لقمة مصغرة من أجل تنسيق المواقف وقطع الطريق على حصول رئيسة الوزراء البريطانية على مهلة طويلة قدّرها رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك بعام كامل، وهو ما وافقت عليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وتفيد أوساط الإليزيه بأن قمة ليل أول من أمس كانت «ساخنة»، لأن ماكرون لم تسانده سوى بلجيكا وإسبانيا ولوكسمبورغ ومالطا في مطالبته بإعطاء لندن مهلة قصيرة لتقرر ما تريد فعله. واللافت أن ما دافع عنه ماكرون يتوافق تماما مع ما طلبته رئيسة الوزراء البريطانية في كتابها الرسمي إلى دونالد توسك، إذ دعت إلى منحها مهلة تنتهي في 30 يونيو (حزيران)، لكن القادة الأوروبيين اعتبروها «غير كافية».
وبين من طالب بمهلة قصيرة وعلى رأسهم ماكرون، والأطراف المتساهلة التي فضلت إعطاء الوقت الكافي لماي من أجل التوصل إلى تفاهم مع حزب العمال بشأن تسوية تتيح لها الحصول على موافقة مجلس العموم على الاتفاق المبرم، وقع التفاهم على حل وسط هو منح بريطانيا مهلة ستة أشهر تنتهي في 31 أكتوبر (تشرين الأول) لترتيب البيت البريطاني على أن تكون هذه المهلة الأخيرة من نوعها.
وأمام لندن ثلاثة سيناريوهات، كما شرحها ماكرون، وهي: إما التصديق على الاتفاق في البرلمان، أو سحب طلب الخروج أي عكس طلب تفعيل المادة خمسين التي تتيح الطلاق من الاتحاد بحيث تبقى بريطانيا عضوا، وأخيرا الخروج من غير اتفاق في اليوم التالي الخميس 31 أكتوبر، وهو ما يدفع إليه الجناح المتشدد في حزب المحافظين.
حقيقة الأمر أن ماكرون الذي لم يحظ موقفه بدعم أكثرية القادة الأوروبيين، أصيب بنصف هزيمة. لكنه في المقابل حصل على «ضمانات» لجهة ألا تعمل بريطانيا في الأشهر المقبلة على تعطيل عمل المؤسسات الأوروبية، وعلى رأسها إقرار الميزانية، وأن تشارك في الانتخابات المقررة نهاية شهر مايو (أيار) إلا إذا قررت الخروج من غير اتفاق قبل ذلك التاريخ أو صادقت على الاتفاق المطروح.
والحجة الرئيسية لماكرون عنوانها المحافظة على المشروع الأوروبي وعلى عمل المؤسسات. وقال عقب انتهاء الاجتماع الذي دام ثماني ساعات إن الاتفاق جاء بوصفه «أفضل تسوية ممكنة» وساهم في المحافظة على «وحدة» القادة الـ27، وإن اختيار تاريخ 31 أكتوبر مردّه لتسلم المفوضية الجديدة مهماتها. وبينما اعتبر ماكرون أنه من «الغريب» أن يشارك البريطانيون في الانتخابات الأوروبية في حين يتهيأون للخروج من الاتحاد، عاد ليشدد على أن زمن اتخاذ القرارات «قد حان».
يبقى أن ماكرون الذي جاء إلى السلطة حاملا مشروع إعطاء دفعة جديدة للاتحاد يرى أن مسلسل بريكست يعطل طموحاته، ويوفر لليمين المتطرف وللشعبويين والرافضين لأوروبا حججا إضافية للتصويب عليها وعليه. لكن اللعبة الديمقراطية في طريقة اتخاذ القرارات «بالإجماع» داخل المجلس الأوروبي جعلته هذه المرة في موقع الأقلية، الأمر الذي لم يمنعه من الدفاع عن مواقفه المتشددة في ملف حيوي بالنسبة إليه.
ماكرون يلعب ورقة التشدد في ملف «بريكست»
ماكرون يلعب ورقة التشدد في ملف «بريكست»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة