كل شعب من الشعوب له خصوصيته الثقافية التي تتمظهر عادة في إحياء الشعائر والطقوس وبعض الممارسات التي تتخذ عمقاً في التراث والفلكلور، ولم يكن الكاتب والمبدع عامة، والروائي بشكل خاص، بعيداً عن هذه الخصوصية، بل حاول توظيفها في نصوصه السردية. وحين نعود إلى الرواية العربية، فإن خصوصيتها الثقافية تكمن في تفاعل الكاتب مع مخزونه التراثي والثقافي، وكيفية حضوره في العمل الإبداعي، وهذا ما يجعلنا نحدد، أو على الأقل نعرف، العناصر التي هي فعلاً تمثل خصوصية هذا المكان أو ذاك، حيث الرواية العربية ليست خصوصيتها واحدة في كل الأقطار العربية، إذ هناك خصوصية ثقافية تمكن الكاتب من الحديث عنها وفيها، بحثاً وتحليلاً، وجعلها متكأً للنص، كالتراث العربي القديم والأعراف والعادات والتقاليد العربية، وكذلك بعض ملامح الثقافة غير العربية.
أما القضايا العامة التي نجدها في الرواية العربية بشكل عام، فتتمثل في العلاقة الأسرية - الحب والعاطفة - وضع المرأة - التعليم - الزواج - الطلاق، ثم طرحت بعض القضايا التي تتمثل في الحرية والديمقراطية والهوية، في سياقات مختلفة سياسية أو اجتماعية أو دينية، غير أن التطور الذي يطرأ على الكتابة وموضوعاتها ومادتها يؤكد ما نراه ونقرأه حالياً في كثير من الأعمال السردية التي نظرت إلى ما يتمظهر في المنطقة العربية من تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية، فضلاً عن تلك الدعوات التي تنادي بها جماعات هنا وهناك، كالحرية والعدالة وتحقيق أحلام الناس، وغيرها من الأحلام الوردية التي كشف زيفها ما حدث للعالم العربي من تحديات وانتفاضات بدءاً من العام 2011.
هناك كثير من كتاب السرد يضعون في اعتبارهم وهم يفكرون بكتابة أعمالهم الروائية الذاكرة الاجتماعية، لما لها من أهمية بالنسبة إلى الكاتب نفسه، حيث تمكنه من الولوج إلى الفضاء الروائي، ولأهمية الذاكرة الاجتماعية الفردية أو الجماعية، فإنها كما يشير إدريس الكريوي في كتابه «بلاغة السرد في الرواية العربية»: «ملح الطعام، فتارة صفحة بكر، وتـارة مسوّدة، تتسـع صفحاتهـا لملايين الأحداث، أو تضيق حتى تكـاد تختنـق، ويتحكـم صاحبهـا فـي ضبطها وتوضيحها تارة، وتتمرد عنه أخرى، يمتلكها وتمتلكه، ويمتلكها غيره، هي جزء منه، يحس قبل بقية الأعضاء، ويظل يبحث عنه في الأغوار والخلجات النفسية، وفي التيه والضلال والأحلام». (ص17)
أما التعاطي مع البنى الثقافية، من مؤسسات وأفكار وأفراد وكتابات، فهي تدور في فلك الثقافة الإنسانية التي يشترك فيها جميع بني البشر، وإن كانت هناك خصوصية لكل مجتمع أو قوم أو أمة ذات ملامح ومرتكزات تتباين مع غيرها، فإن الثقافة في حد ذاتها لا تتعلق بالجنس أو اللون أو القومية، وكأنها ثقافة فطرية فطر الإنسان عليها منذ ولادته، بل هي ثقافة مكتسبة وغير متوارثة بين البشر، لما لها من علاقة بالأفكار والقيم وطرح الأسئلة الدائمة، وهذه الذاكرة لا تأتي كيفما اتفق، وكأنها جاهزة مستعدة إلى الظهور متى أراد صاحبها، إنما تحضر الذاكرة بحسب الحالة والفكرة والموضوع، وليس كل الذاكرة أيضاً، أي تأتي بحسب الموضوع والمثير الذي يراد منه فتح بوابة هذه الذاكرة التي تكون ذات فعل قوي كلما كانت ذاكرة جماعية، وليس ذاكرة فردية، وخصوصاً حين تكون هذه الذاكرة أحد العوامل التي تشكل الهوية والانتماء، بل تؤكد على طبيعة الترابط الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، حيث هناك كثير من القيم التي حفظها تاريخنا وموروثاتنا الثقافية والاجتماعية، وباتت تتمظهر بين الحين والآخر في سياق تفكيرنا حتى لو لم نفكر فيها.
وحين ترى موقفاً ما، تقع بين الرفض والقبول، أي قد نراه طبيعياً في هذا المكان، وغير طبيعي في مكان آخر. وهنا مباشرة تدخل في الذاكرة المتوازنة تلك السياقات الاجتماعية والثقافية لهذا المكان أو ذاك، مما يعطينا تأكيداً غير مباشر أن الذاكرة لها صلة بالخصوصية، ليست الاجتماعية فحسب وإنما بالخصوصية الثقافية والحضارية أيضاً، ويبقى السؤال: هل الانحياز الثقافي في الكتابة الإبداعية مثلاً يعتمد على السياق الاجتماعي؟ إننا نقول غير ذلك، إذ إن كل السياقات الاجتماعية والثقافية والتاريخية والتراثية وغيرها هي سياقات تدخل في دائرة المرجعيات التي يتكئ عليها أي مبدع كان، شاعراً أم سارداً.
عندما يكتب الروائي نصه السردي، هل يقف محصوراً بين الذاكرة الاجتماعية والذاكرة الثقافية، وبالأفكار التي جاءته معلبة محنطة، ومغلقة بنظرة أحادية تجاه الواقع المعيش والإنسان والحياة والمستقبل، أم أنه يسعى إلى تفتيت كل هذه العناصر ليقدم رؤية أخرى تتمكن من مناقشة القضايا المعيشة في سياق المقاربات والمقارنات، مع تحليل قضايا الماضي، وكيفية التبئير تجاه المستقبل، أم يسعى كما سعى روائيون آخرون إلى الارتباط بالسرد القديم؟
مما لا شك فيه أن البنية الثقافية في النص لا تنفصل عن البنيات الأخرى، وبالأخص البنية الاجتماعية التي تتمظهر بين الحين والآخر، لذلك أي عمل روائي يستند في تكوينه إلى الموضوع الذي يكون محور هذا التكوين السردي، من حيث نصية العمل، ولكن في الوقت ذاته هو (أي الموضوع) بحاجة إلى زمن وصياغة ورؤية من أجل تشكيل هذا النسيج النصي الروائي، وفي الوقت ذاته نرى أن كل شعب من الشعوب المنطقية في العالم العربي له خصوصية ثقافية منفردة عن غيره، تتمظهر عادة في بعض الشعائر والطقوس والممارسات التي تنحدر من عمق التراث والفلكلور، ولم يكن الكاتب والمبدع في هذا الخضم بعيداً عن هذه الخصوصية أو تلك، بل حاول توظيفها في نصوصه السردية.
وحين نعود إلى الرواية العربية، فإن خصوصيتها الثقافية تكمن في مدى تفاعل الكاتب مع مخزونه التراثي والثقافي، الذي يراه منجزاً ثقافياً خاصاً به وله، وكيفية حضوره في العمل الإبداعي. وهذا ما يجعلنا نحدد على الأقل تلك العناصر التي تمثل هذه الخصوصية لهذا المكان العربي أو ذاك، وهنا نرى أن بعض المناطق العربية تمثل خصوصيتها الثقافية النابعة من تراثها وأمكنتها وحضارتها ما يعطيها حق تمثل هذه الخصوصية من غيرها، فمصر مثلاً لديها خصوصية ثقافية وحضارية تتمثل في الحضارة الفرعونية، كما هي الخصوصية الثقافية في العراق التي تتمثل في الحضارة البابلية، لذلك الكاتب الخليجي مثلاً لن يستطع الولوج إلى عمق الخصوصية الثقافية الفرعونية، إذا أراد الكتابة عنها، وفي الوقت عينه الروائي المصري سيجد صعوبة كبيرة لو أراد أن يكتب عن منطقة الخليج التي لها خصوصيتها الثقافية.
ولنضرب مثالاً آخر، وهو حركة التصوف التي لها مساحة جغرافية واضحة في مصر والسودان والمغرب العربي، فلو طلبنا من روائي واحد من كل هذه الأقطار العربية أن يكتب عملاً روائياً يتناول التصوف، سنجد التباين واضحاً، ليس في بناء النص وجماليته ولغته، وإنما في تناول الموضوع ذاته، حيث ستكون الخصوصية الثقافية الخاصة بهذا المكان أو ذاك مسيطرة ومهيمنة على تفكير الكاتب لما لها من سطوة في ذاكرته الثقافية. وهنا، ربما سنجد الروائي المغربي مثلاً سيتناول الموضوع من زاوية فلسفية كلامية ثقافية فكرية، وقد يتناولها الروائي السوداني من زاوية الطقوس والممارسات والعتبات، وقد يكون العكس. وهذا ما يجعل الخصوصية الثقافية الدينية تتفاوت في توظيفها من مكان لآخر، حتى بعض المفاهيم والقيم الإنسانية نجد محتواها وهضم دلالتها ليس بالدرجة نفسها، فالحرية الفردية أو الحرية الجماعية أو الحضور النسائي في المجتمع خصوصية ثقافية ناتجة عن وعي ثقافي واجتماعي، بعد تراكم معرفي وتعليمي واحتكاك بالآخر، وحضور هذا الآخر في الثقافة، وهذا ما ينتج عنه خصوصيات ثقافية، وليس خصوصية ثقافية؛ الروائية في منطقة الخليج لا تزال تكتب عن حرية المرأة في اختيار شريك حياتها، وعن حقها في التعليم والسفر، في الوقت الذي تجاوزت الراوية في مصر والمغرب العربي مثلاً هذه الخصوصية، لتطرح قضايا المرأة في سياق التحديات العالمية وحضورها الفاعل.
وفي خضم الأحداث التي مرت بها بعض الأقطار العربية بعد سقوط النظام العراقي، ودخول الأميركان بغداد، تحولت المنطقة العربية تدريجياً إلى ساحة نزاع وطائفية، وأحزاب المصالح الفردية والعشائرية والدينية، وزاد هذا التراكم المأساوي بالحراك الذي حدث في العام 2011، ونتج عنه تصدع البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كان المنتفضون ينادون بإصلاحها، حيث الشعارات تغيرت وتبدلت وتحولت إلى مصالح ونفوذ، وبهذه الخصوصية تشكلت أيضاً خصوصية لدى الروائي العربي وآليات تفكير في تناول موضوعات أعماله، وهو ما حصل في العراق مثلاً، إذ انصب كثير من الأعمال الروائية في مناقشة تلك الخصوصية التي أفرزتها أحداث العراق منذ حرب الخليج الأولى، لذلك صدرت روايات تناولت هذه الخصوصية التي شكلت بعداً ثقافياً في الذاكرة العراقية.
- كاتب بحريني
الرواية العربية والخصوصية الثقافية
الرواية العربية والخصوصية الثقافية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة