حركة الشباب الصومالية تستعيد شبابها

حركة الشباب الصومالية تستعيد شبابها

قتلى وخراب ودمار عقب تفجير سيارة مفخخة وسط العاصمة مقديشو في مارس الماضي (إ.ب.أ)
قتلى وخراب ودمار عقب تفجير سيارة مفخخة وسط العاصمة مقديشو في مارس الماضي (إ.ب.أ)
TT

حركة الشباب الصومالية تستعيد شبابها

قتلى وخراب ودمار عقب تفجير سيارة مفخخة وسط العاصمة مقديشو في مارس الماضي (إ.ب.أ)
قتلى وخراب ودمار عقب تفجير سيارة مفخخة وسط العاصمة مقديشو في مارس الماضي (إ.ب.أ)

كثفت حركة «الشباب» الصومالية من هجماتها الإرهابية خلال الأشهر الأخيرة، في العاصمة الصومالية مقديشو وبعض الدول المجاورة، لتصبح واحدة من أكثر الحركات الإرهابية نشاطاً وخطورة في العالم، بعد انخفاض مستوى نشاط الحركات المتشددة في منطقة الشرق الأوسط وأفغانستان، ويبعث النشاط المتزايد لحركة «الشباب» الصومالية برسائل كثيرة، بعضها داخلي والآخر خارجي، ولكنه قبل كل شيء يؤكد أن مركز الحرب العالمية على الإرهاب قد تحول بالفعل إلى القارة السمراء، وأول مناطقها تضرراً هي منطقة «القرن الأفريقي» التي يمكن وصفها بأنها الخاصرة الرخوة للقارة.
ولقد استفادت حركة الشباب الصومالية من حالة الوهن والضعف التي يعاني منها الجيش الصومالي، فخلال الأسابيع الماضية تمكن مقاتلون من الحركة الإرهابية من السيطرة على منطقة من إقليم «شبيلى السفلى» المجاور للعاصمة مقديشو، وذلك بعد أن انسحبت منها كتيبة من الجيش، يرفض جنودها البقاء في مراكزهم بسبب تأخر رواتبهم لعدة أشهر.
وتعد هذه المنطقة محورية بسبب مرور الطريق الساحلي منها، وهو الطريق الرابط بين العاصمة مقديشو ومدينة «مركا»، عاصمة وكبرى مدن إقليم «شبيلى السفلى»، ولكن تخلي الجيش عنها يكشف عمق الأزمة التي يعاني منها الصومال، وهي أزمة تبدأ من هرم السلطة لتصل إلى عمق المؤسسة العسكرية، ما تستغله الحركة الإرهابية لصالحها من أجل تحقيق مكاسب وانتصارات على الأرض، والتطلع نحو استعادة السيطرة على العاصمة مقديشو، التي لا يكاد يمر يوم من دون أن تشهد هجوماً دامياً.
لا تخفي الحركة الإرهابية خططها لاستعادة السيطرة على مقديشو، أكبر مدن الصومال وأهمها (2.2 مليون نسمة)، فعلى الرغم من أن الحركة أخرجت بالقوة من المدينة قبل ست سنوات، فإنه قبل عدة أشهر ظهر قيادي بارز في الحركة وهو يتجول في مقديشو، ويحضر نشاطاً لتوزيع الزكاة على السكان وسط المدينة، ما يؤكد تمتعها بحاضنة شعبية لم تنجح الحكومة في اختراقها.

هجمات أكثر تنظيماً ودموية
وبدا واضحاً أن هجمات الحركة الإرهابية أصبحت أكثر تنظيماً ودموية، وتستخدم تكتيكات متطورة جديدة على أساليب الحركة، من ضمنها تفجير العبوات الناسفة، والكمائن على القوافل، والهجمات الانتحارية، والسيارات المفخخة، بالإضافة إلى الاغتيالات وعمليات التصفية، وأكثر من نصف هجماتها خلال العام الماضي استهدف مواقع ترمز لسيادة الدولة كالوزارات والجيش والشرطة، في محاولة لزعزعة ثقة الصوماليين في دولتهم التي تعاني من أزمات خانقة، كما تريد الحركة أن تثير الرعب في صفوف جنود الجيش وعناصر الشرطة.
وتستفيد الحركة الإرهابية من حالة التجاذب السياسي التي تشهدها الصومال، في ظل توتر العلاقة بين الحكومة الفيدرالية في مقديشو والولايات الإقليمية، وهي أزمة تعيق الرفع من مستوى التنسيق لمحاربة الإرهاب في الصومال، فالولايات الإقليمية تتهم الحكومة المركزية بالسعي نحو قلب الأنظمة الفيدرالية، بينما لا تبذل الحكومة المركزية أي جهد لتكذيب هذه التهمة، بل إنها تتخذ قرارات تعزز تلك الشكوك، على غرار مساعيها لتشكيل قوات مشتركة تقلص نفوذ الولايات، هذا الشرخ الحاصل بين مقديشو والولايات الأخرى منح الحركة الإرهابية مساحة تتحرك فيها.
يقول رولاند مارشال، وهو خبير وباحث في شؤون القرن الأفريقي، إن «حركة الشباب الصومالية تزيد قوتها لأن من يحاربونها على الأرض أكثر ضعفاً وأقل تنظيماً»، في إشارة إلى مستوى الضعف الذي تعاني منه السلطات المركزية في الصومال، ويضيف الباحث أنه «منذ انتخاب الرئيس الحالي مطلع عام 2017، ومقديشو لم تضع أي استراتيجية على المدى البعيد لمحاربة حركة الشباب».
ويذهب الباحث إلى أبعد من ذلك حين يؤكد أن الرئيس الصومالي الجديد محمد عبد الله محمد ارتكب الكثير من الأخطاء على غرار «تسييسه لوكالات الأمن الوطني، ما قلص من فعاليتها، لأنها فقدت ثقة المواطنين فيها، ثقة كانت تتمتع بها الحكومة السابقة».

حرب الأميركيين
وإن كان الصوماليون يواجهون مشكلات كبيرة في حربهم على حركة الشباب المجاهدين، إلا أن قوات دولية تساعدهم في تلك الحرب، على غرار الأميركيين الذين يشكلون رأس الحربة في مواجهة الحركة الإرهابية، فقد شنت الطائرات الأميركية أكثر من 100 غارة جوية ضد مقاتلي الحركة منذ أوائل عام 2017، فقد تضاعف النشاط العسكري الأميركي في الصومال عدة مرات منذ وصول دونالد ترمب إلى الحكم، وهو الذي أعلن جنوب الصومال «منطقة عمليات عدائية فعلية».
وقد أثمرت الاستراتيجية الأميركية الجديدة في الصومال 34 غارة في الصومال خلال الأشهر التسعة الأخيرة من 2017، أي أكثر مما كانت عليه في الفترة من 2012 إلى 2016، وفي العام الماضي وصلت إلى 47 غارة، أما في الشهرين الماضيين فقد وصلت إلى 24 غارة، ما يؤكد تصاعد الحرب الأميركية على حركة الشباب المجاهدين في الصومال، وهو ما يأتي في وقت تصمت الأسلحة الأميركية في سوريا وأفغانستان، ويتحدث الأميركيون عن تقليص نشاطهم العسكري في الخارج.
وتشير الكثير من التقارير إلى أن الأميركيين استخدموا في غاراتهم طائرات من طراز (AC - 130)، وهي طائرة تستخدم عادة في الدعم الجوي المباشر للمشاة، وليست معهودة لشن غارات جوية خاطفة ومعزولة، ما يرجح إمكانية انخراط الأميركيين في عمليات على الأرض، في ظل وجود 500 من عناصر القوات الخاصة الأميركية في الصومال، يتولون مهمة تدريب القوات الصومالية على محاربة الإرهاب، وتحسين قدراتهم على مواجهة حركة «الشباب».
وتقول القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) إنها «بالتنسيق مع الحكومة الفيدرالية في الصومال، نفذت ضربات جوية ضد مقاتلي حركة الشباب وذلك من أجل تدمير قدرتهم الحركة على التخطيط لعمليات إرهابية وتنفيذها ضد شعب الصومال»، والضربات الجوية الأميركية لم تعتد تقتصر على ذوي القيمة العالية من بين كبار قادة حركة الشباب، وإنما أصبحت تستهدف أي مقاتل من حركة الشباب، ما ضاعف من عدد القتلى، كما قلص الأميركيون من سلسلة إجراءات السماح بالقصف عن طريق طائرات «الدرون»، ليصبح الأمر سريعاً وسلساً وفعالاً.
وبحسب وثيقة رسمية تم نشرها في العشرين من شهر مارس (آذار) الجاري، فإن الجيش الأميركي باستخدام القصف الجوي، المنفذ في الغالب عن طريق طائرات «درون»، تمكن من القضاء على 800 إرهابي، منذ يونيو (حزيران) 2017، وهو ضعف ما قتله الجيش الأميركي في الصومال، خلال ولايتين رئاسيتين قضاهما باراك أوباما في البيت الأبيض، من 2009 وحتى 2017.
وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أعلن تقليص مستوى النشاط العسكري الأميركي في القارة الأفريقية، وفي الكثير من مناطق العالم (سوريا وأفغانستان)، فإن ما يحدث في الصومال على العكس من ذلك، فالأميركيون يضاعفون أنشطتهم العسكرية في هذه المنطقة من العالم، وقال مؤخراً قائد «أفريكوم» الجنرال توماس والدهزير: «إننا نحتفظ بقدرتنا على التدخل في هذه المنطقة».
وهناك حديث عن خطط جديدة لدى واشنطن ستفضي إلى تقليص نشاطها العسكري في الصومال، وخاصة ضرباتها الجوية ضد حركة «الشباب»، بدعوى أن الحركة الإرهابية لا تشكل خطرا مباشرا على الولايات المتحدة، رغم أنها لا تزال تمثل تهديدا للحكومة الصومالية والدول المجاورة، ونقلت وسائل إعلام أميركية عن مسؤوليْن أميركيين قولهما إن «وكالة الاستخبارات الأميركية ستتولى مسؤولية قصف العناصر الإرهابية في الصومال بدلا من الجيش الأميركي، في إطار الخطة الجديدة». ولكن انخراط الأميركيين المباشر في الحرب على «حركة الشباب» في الصومال، ووجود قوات أفريقية يبلغ قوامها 22 ألف جندي، كل ذلك لم يمنع حركة الشباب المجاهدين من التمدد خلال الأشهر الأخيرة، فقد تضاعفت هجماتها في مدينة مقديشو ومحيطها القريب، كما احتفظت الحركة بالسيطرة على نحو خمس مساحة البلاد، وهي في أغلبها مناطق ريفية، ويبلغ عدد مقاتلي الحركة ما بين 7 و9 آلاف مقاتل، من ضمنهم نحو ألف مقاتل أجنبي، من باكستان ودول عربية.

ولاء لـ«القاعدة»
تعد حركة «الشباب» في الصومال واحدة من الحركات الإرهابية التي احتفظت ببيعتها لتنظيم «القاعدة»، رغم الصعود القوي لتنظيم ««داعش»» الإرهابي خلال السنوات الأخيرة، ومبايعته من طرف تنظيمات إرهابية كثيرة في أفريقيا، على غرار جماعة «بوكو حرام» النيجيرية، إلا أن حركة «الشباب» ظلت متمسكة بتبعيتها لتنظيم «القاعدة»، رغم ما أصاب الأخير من وهن وضعف.
وتأسست حركة الشباب عام 2006 بصفتها «الذراع العسكري» لاتحاد المحاكم الإسلامية، وهو الاتحاد الذي كان يسيطر على العاصمة الصومالية مقديشو آنذاك، ويحاول فرض تطبيق فهم متشدد للشريعة، وقد نجحت الحركة الشابة في تحقيق انتصارات على الأرض، ولكنها سرعان ما تكبدت الخسائر بعد تدخل عسكري إثيوبي مدعوم من قوات الاتحاد الأفريقي التي استعادت السيطرة على العاصمة مقديشو عام 2008.
وتبعية حركة «الشباب» لتنظيم «القاعدة» طبخت لسنوات على نار هادئة، فمنذ 2006 وحتى 2009 ظل الوسطاء يتحركون بين الطرفين، حتى انتهت هذه الاتصالات بإعلان حركة الشباب مبايعتها لتنظيم «القاعدة» الإرهابي بشكل رسمي، وهو الولاء الذي تجدد تأكيده عام 2014، عندما قتل الأميركيون في غارة جوية زعيم الحركة «أحمد عمر أبو عبيدة»، وتم تنصيب قائد جديد كانت مهمته الأولى هي إعلان الولاء لتنظيم «القاعدة».
اليوم قامت الحركة بتجديد خطابها لتجنيد أكبر عدد ممكن من المقاتلين الشباب في الصومال، مستغلة وجود قوات أجنبية على الأراضي الصومالية، وانتشار الفساد والفقر والجهل والمرض، وهي بيئات خصبة لمثل هذا النوع من التنظيمات الإرهابية، وفق ما يقول الخبراء، ولكن الأهم هو أن حركة الشباب المجاهدين استفادت من الخسائر الكبيرة التي تكبدتها الجماعات الإرهابية في سوريا والعراق، والتي أدت إلى فرار آلاف المقاتلين الأجانب، تشير التقارير إلى أن أغلبهم توجه نحو القارة الأفريقية، المركز الجديد للحرب العالمية على الإرهاب.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.