إروين يتجاوز المركزية الغربية ويضع ابن خلدون في سياقه الحقيقي

كتاب جديد عن مؤسس علم الاجتماع تصدره جامعة برنستون الأميركية

تمثال ابن خلدون في العاصمة التونسية
تمثال ابن خلدون في العاصمة التونسية
TT

إروين يتجاوز المركزية الغربية ويضع ابن خلدون في سياقه الحقيقي

تمثال ابن خلدون في العاصمة التونسية
تمثال ابن خلدون في العاصمة التونسية

على هذه الصفحات كتبت في 20-6-2016 عرضا لكتاب باللغة الإنجليزية عنوانه «أشجار برتقال مراكش: ابن خلدون وعلم الإنسان» من تأليف ستفن فردريك ديل صدر عن مطبعة جامعة هارفارد الأميركية. واليوم يصدر كتاب جديد باللغة الإنجليزية أيضا عن ابن خلدون من مطبعة جامعة أميركية أخرى هو كتاب «ابن خلدون سيرة ذهنية» من تأليف روبرت إروين (مطبعة جامعة برنستون، 243 صفحة)
Ibn Khaldun: An Intellectual Biography، by Robert Irwin، Princeton University Press، 243 pp.
مما يشهد على تواصل الاهتمام في الدوائر الثقافية الغربية بهذا المفكر العربي الذي يعده الكثيرون مؤسسا لعلم الاجتماع. يمثل كتاب إروين إضافة إيجابية إلى المكتبة الخلدونية الضخمة (تذكر ببليوغرافيا جامعة شيكاغو على الإنترنت أن ثمة أكثر من 850 كتابا ومقالة عنه، أو كما يقول إروين: «لو أنك حاولت أن تقرأ كل شيء كتب عن ابن خلدون لوافتك المنية قبل أن تتم هذه المهمة»). كتاب إروين إضافة من ناحيتين: فهو - كما يدل عنوانه الفرعي - لا يعنى برصد الأحداث الخارجية في حياة ابن خلدون (سبق أن رصدتها كتب سابقة بما فيه الكفاية) قدر ما يعنى برسم خريطة لذهنه ورصد للمؤثرات الفكرية التي دخلت في تكوين فكره ويتتبع التحولات التي مرت بها حياته العقلية في غمرة عصر مضطرب وحياة قلقة عرفت التنقل بين شمال أفريقيا وإسبانيا ومصر مرورا أو إقامة بتونس وفاس وتلمسان وبجاية وغرناطة ودمشق والقاهرة.
والإضافة الثانية –وهي لا تقل عن الأولى أهمية - هي أن الكتاب يضع ابن خلدون في سياقه الحقيقي: سياق الثقافة العربية الإسلامية وليس سياق صلاته بالفكر الغربي. لقد بين ماليس رثفين –مؤلف كتاب «الإسلام في العالم» وأعمال أخرى - في مقالة له بـ«مجلة نيويورك لعرض الكتب» (7 فبراير/ شباط - 20 فبراير 2109) كيف أن ابن خلدون كان موضع تقدير كبير من مؤرخي الغرب. أرنولد توينبي وصف «مقدمة» كتاب «العبر» (المعروف باسم مقدمة ابن خلدون) بأنها «من غير شك أعظم عمل من نوعه أبدعه أي عقل في أي زمان أو مكان». وهيو تريفور روبر –وهو مؤرخ بريطاني آخر - وصف كتاباته بأنها «غنية متنوعة..... حاذقة عميقة بلا شكل مثل المحيط». والمؤرخ الأميركي مارشال هودجسون –مؤلف كتاب «مغامرة الإسلام: الضمير والتاريخ في الحضارة العالمية» يصف «المقدمة» بأنها «خير مدخل عام مكتوب» إلى الحضارة الإسلامية.
لكن هؤلاء المؤرخين جميعا كانوا بدرجات متفاوتة يقيمون أحكامهم على المؤرخ العربي على أساس اقترابه من الفكر الغربي. وإضافة إروين الكبرى هي أنه يتجاوز هذه المركزية الغربية ليرى موضوعه في إطاره الفكري والعقائدي والاجتماعي. يقول في تصدير كتابه «منذ القرن التاسع عشر فصاعدا كان ثمة اتجاه شعوري أو لا شعوري إلى إضفاء الطابع الغربي على فكره وإلى تقديمه كما لو كان سابقا لمفكرين غربيين من أمثال ماكيافيلي وهوبز ومنتسيكو وفيكو وماركس وفيبر ودوركايم. ثمة رغبة مفهومة في جعله مثيرا للاهتمام وذا صلة (بعصرنا)». لكن عالم ابن خلدون –كما يقول إروين - أوثق صلة بالثقافة الدينية والأدبية في عصره منه بهؤلاء المفكرين الغربيين في عصور تالية.
منذ مولده في تونس (732هـ-1332م) حتى وفاته في القاهرة (808هـ-1406م) تقلبت حظوظ ابن خلدون بين سعود ونحوس فهو مرة «يبدو على حافة أن يكون القوة الكامنة وراء العرش» ومرة أخرى «ينتهي به المآل في السجن أو هاربا». وعرفت حياته الخاصة كارثتين مهمتين: ففي سن السابعة عشرة فقد كلا أبويه وعددا من معلميه وأصدقائه من جراء الطاعون الذي ضرب شمال أفريقيا في 1348 - 1349. وعند وصوله إلى القاهرة –وكانت شهرته قد سبقته إليها - غرقت قرب شواطئ الإسكندرية السفينة التي كانت تقل زوجته وبناته الخمس ومعهن مكتبته. وكان من المفروض أن يلحقن به في العاصمة المصرية حيث عمل بالتدريس في الأزهر وتولى قضاء المالكية. ومن الأحداث المهمة في حياته أيضا –وقد خدم عدة مدن وولاة - أنه حين غزا تيمورلنك وجحافله البربرية سوريا ومصر كان ابن خلدون عضوا في الوفد الذي أرسل للتفاوض معه في دمشق. قضى خمسة وثلاثين يوما من المحادثات مع الطاغية التتري المرهوب وهي حكاية شائقة يقارنها إروين بلقاء الأديب الألماني جوته بالفاتح الفرنسي الكبير نابليون بونابرت في 1808. وكان التقدير متبادلا بين الرجلين رغم العداء التاريخي بين فرنسا وبروسيا (للأديب المصري الراحل علي أدهم فصل ممتع في أحد كتبه عن لقاء ابن خلدون وتيمورلنك).
ويوضح إروين أن ابن خلدون كان يؤثر الرواية الشفاهية على المكتوبة ويعد التدريس المباشر في حلقات أفضل من تأليف الكتب، متأثرا في ذلك باتجاه معلمه في شبابه عالم الرياضيات محمد إبراهيم الآبلي الذي قرأ ابن خلدون عليه دروسا في المنطق والفلسفة. وفي ذلك يقول إروين: «لقد كان النقل الشفاهي للمعرفة يأتي في المحل الأول. فابن خلدون لم يكن يثني على الكتب بوصفها أداة لنقل المعرفة قدر ما كان ينظر إليها على أنها حجاب يتعين على الدارس أن ينزعه لكي يفهم ما يدرسه حق الفهم». ويعلق ماليس رثفين على ذلك بقوله إن هذا توجه مفهوم في ثقافة كانت تعتمد على المخطوطات المكتوبة بخط اليد لا على الطباعة وتقوم على حلقات الدرس وجها لوجه في المساجد والمعاهد والمدارس.
ومما يؤكد اختلاف فلسفة ابن خلدون عن الفلسفات الغربية أنه –بخلاف هيجل الذي كان متفائلا ينظر إلى التاريخ على أنه عملية تطور مستمر إلى الأمام وتقدم للروح نحو اكتمال التحقق في الزمن - كان ابن خلدون أقرب إلى التشاؤم يرصد سقوط الحضارات ويعتقد أن نهاية العالم وشيكة.
إن ابن خلدون –مفكر القرن الرابع عشر - الذي يطالعك تمثاله اليوم في العاصمة التونسية وفي مدينة بجاية الجزائرية أيضاً - ما زال صاحب نظريات في التاريخ والسياسة والاجتماع والدين تدرس اليوم وتناقش. وفي الفصل قبل الأخير من كتابه يتتبع إروين مسيرة كتاب «المقدمة» بعد وفاة مؤلفه. لقد كان بين الأعمال التي نهبها الأتراك ونقلوها من القاهرة إلى إسطنبول بعد أن غزا السلطان العثماني سليم الأول مصر في 1517. وبحق يقول ماليس رثفين: «بعد أكثر من ستة قرون من وفاة ابن خلدون فإن لدى العالم الحديث الكثير كي يتعلمه من دراسته له». وهذا الكتاب القيم لروبرت إروين بما يشف عنه من علم غزير وتوازن في الأحكام وجاذبية في العرض –خطوة متقدمة في هذا السبيل.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي