صحافيو معارك «داعش»... تغطيات تحت «مطر» الشظايا

حملوا عتادهم وتنقلوا في صحراء مترامية الأطراف لرواية فظائع التنظيم

الصحافية ناز السيد مراسلة قناة «الغد» العربية أثناء تغطيتها في جبهة الباغوز
الصحافية ناز السيد مراسلة قناة «الغد» العربية أثناء تغطيتها في جبهة الباغوز
TT

صحافيو معارك «داعش»... تغطيات تحت «مطر» الشظايا

الصحافية ناز السيد مراسلة قناة «الغد» العربية أثناء تغطيتها في جبهة الباغوز
الصحافية ناز السيد مراسلة قناة «الغد» العربية أثناء تغطيتها في جبهة الباغوز

صحافيون وصحافيات يقطعون مئات الكيلومترات، حاملين عتادهم من كاميرات وعدسات تصوير وأدوات الحماية الشّخصية. من مكان إلى آخر يتنقلون وسط صحراء مترامية الأطراف، سالكين طُرقاً وعرة وأماكن خطرة. من قلب الأرض المحفوفة بالمخاطر، حيث موت المئات من الأبرياء في كل لحظة، يروي لنا هؤلاء الصّحافيون تجربتهم الشّخصية لدى تغطيتهم المعارك ضدّ تنظيم «داعش» في شمال شرقي سوريا. هناك حيث تستعرّ المعارك صوّروا للعالم أحداث وروايات أشخاص عايشت الحرب، وكتبوا قصصاً وتقارير عن الفظائع والجرائم التي ارتكبها التنظيم المتطرف.
أجروا المقابلات مع أخطر المقاتلين في العالم، وشاهدوا كيف يستسلمون ويعلنون خسارتهم العسكرية، وتعرفوا عبر تسجيلاتهم على المتطرفين القادمين من جميع أنحاء العالم. فقبل سنوات عمدوا إلى نشر الرّعب والهلع بمشاهد قطع الرؤوس، وحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، ونحر أبناء عشيرة الشعيطات السورية. واليوم قد جاء ليشهد هؤلاء الصّحافيون نهاية التنظيم في أكثر بقع الشرق الأوسط سخونة منذ ثمان سنوات.
- هشام وتحدي نقل الحقائق
هشام عرفات المتحدر من مدينة رأس العين أو (سري كانيه)، كما يسميها سكانها الأكراد، وتقع أقصى شمال سوريا، صحافي كردي سوري، غطى المعارك ضد «داعش» في كل من مدينة الموصل في العراق، ومدن وبلدات منبج والرّقة ودير الزور في سوريا أخيراً. يكتب باللغة العربية والإنجليزية منذ عام 2006 في صحف محلية وعالمية. عمل محرّراً للأخبار ومعدّاً للبرامج في «تلفزيون الشارقة» بالإمارات، من ثمّ مراسلاً لجريدة «الإندبندنت» البريطانية في إقليم كردستان العراق، أثناء تغطية المعارك ضد «داعش» المتطرف، ويعمل حالياً كاتباً في القسم الإنجليزي لموقع فضائية «كردستان 24».
خلال تغطيته معركة الباغوز، وقبلها معركة هجين في ريف دير الزور الشمالي، نشر عرفات، العشرات من التقارير الإخبارية باللغة الإنجليزية، وقد كان يسلّط الضوء على المجرى الرئيس للأحداث، خلافاً لباقي الصّحف والمواقع الأجنبية التي كانت تنشر قصصاً ومواضيع معينة. وعن تجربته يقول إنّ «معظم المواضيع التي ركّزت عليها كانت عن المناطق التي حُرّرت حديثاً من قبضة التنظيم. أتناول التفاصيل والمواضيع التي تكشف حكم عناصر (داعش) ووسائل دفاعه وهجماته».
يرى عرفات أنّ الصحافي مطالب بالمزيد من الدّقة والموضوعية في توضيح مجرى الحدث، خصوصاً إشكالية التقدم والتحرير لكل طرف عسكري والحرص في نقل صورة المدنيين، وتجنبهم من القتال في الوقت ذاته، كما أجرى الكثير من اللقاءات مع عناصر التنظيم الإرهابي أثناء خروجهم من الباغوز واستسلامهم، وفي السجون.
وكان التنظيم قد أعلن في يناير (كانون الثاني) 2014، سيطرته على مساحات واسعة، خصوصاً في ذروة قوته، أي منتصف عام 2015، ليعود بعدها ويشهد خسائر ميدانية كبرى خلال العامين الأخيرين، على وقع هجمات شنتها أطراف عدة، أبرزها «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن، ومشاركة 79 دولة غربية وعربية.
يتحدث عرفات عن أبرز التحديات والعقبات التي كانت تواجه عملهم أثناء هذه التغطية قائلاً: «بدءاً بنيران المعارك، ومروراً بخطر القناصين والألغام والصّواريخ الحرارية التي كان يطلقها التنظيم، وانتهاءً بشظايا طائرات التحالف». يذكر أنه في معركة الباغوز منتصف شهر فبراير (شباط) الماضي، كادوا يُصابون بشظية كبيرة من نيران طائرات التحالف، وأضاف: «كنا موجودين في نقطة متقدمة نحو 400 متر فقط من عناصر التنظيم. كان بالإمكان رصد حركتهم بوضوح خلال هدنة مؤقتة، وعند القصف تطايرت الشّظايا بالقرب منّا. حقيقة، المشهد كان مرعباً».
وأعلنت «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية - العربية، بدء مرحلة جديدة في محاربة «داعش» في سوريا، عبر كلمة ألقاها القائد العام مظلوم عبدي في مراسيم إعلان القضاء على التنظيم الإرهابي في 23 مارس (آذار) الماضي، حين قال: «نعلن عن بدء مرحلة جديدة في محاربة (داعش)، وذلك من خلال الاستمرار بحملات عسكرية وأمنية دقيقة بالتنسيق مع قوات التحالف الدُّولي بهدف القضاء الكامل على الوجود العسكري والسّري للتنظيم»، مشيراً إلى خطورة خلاياه النائمة «التي لا تزال تشكل خطراً كبيراً على منطقتنا والعالم بأسره».
- ناز في مواجهة غسل الأدمغة
ناز السيد، مراسلة قناة «الغد» العربية. تتحدّر من مدينة القامشلي الواقعة أقصى شمال شرقي سوريا. كانت من بين أول المراسلين الذين أعلنوا خبر القضاء على تنظيم «داعش» في 23 مارس من العام الحالي، وانتهاء «خلافته» المزعومة. وأعربت السّيد عن مشاعرها قائلة: «هذا يجعلك تنسى كل ما عانيناه خلال الشهور الطّويلة التي قضيناها في الصّحراء القاحلة وسط معارك عنيفة ونيران الصّواريخ وأصوات لم تهدأ». وتضيف: «لا أحد سوى زملائي الصّحافيين يستطيع مشاهدة الحدث من زاويتنا». وتقول: «لن أنسى هذه اللحظات طوال حياتي».
وبعد إعلان تحرير بلدة الباغوز، دخلت إلى المخيم؛ البقعة الجغرافية الأخيرة حيث يتحصّن عناصر «داعش». وقالت السيد: «استهدفنا من قبل القناصة الموجودين في أحد جحور التلال المطلّة على البلدة. أيقنت حينها، أنّهم بالفعل متمسكون بأفكار التنظيم المتطرف وعقيدته. وتبادر إلى ذهني أسئلة كثيرة، من هو هذا المقاتل؟ ومن يكون؟ وما الذي يجعله متمسكاً بهذه العقيدة على الرّغم من سقوط خلافته المزعومة».
وتروي المشاهد الأولى من المخيم الذي وصفته السّيد، بأنّه كومة خردة من سيارات مكسّرة وخيم مهترئة، ووجود شبكة أنفاق محفورة تحت الأرض وسواتر ترابية، وتزيد: «تدلّ هذه المناظر على أنّ مقاتلي التنظيم وعائلاتهم كانوا مقتنعين بعقيدته، كما ثقتهم بزعيمهم البغدادي، وبأنّه سيبقى كما العقيدة». وتضيف: «الحرب لم تنته والمرحلة المقبلة هي الأصعب، في محاربة خلاياه النائمة».
وعملت ناز السيد مراسلة حربية غطت معركة عفرين في ريف حلب الشمالي، وقبلها معركة الرقة وسقوط «داعش» و«خلافته» المزعومة هناك، إلى جانب تغطيتها معركة منبج منتصف 2016، وبعدها جبهة الطبقة، وتضيف: «كانت معركة الباغوز الأصعب، نظراً لوعورة المنطقة الصحراوية، وجغرافيتها مترامية الأطراف». وتابعت «أنّ أصعب ما عايشته، مشاهدة أشخاص لا يزالون يحملون فكر التنظيم على الرّغم من القضاء عليه عسكرياً. والمعركة الأهم هنا، هي كيف نستطيع توعيتهم، وتأهيلهم وإعادتهم إلى الحياة الطبيعية، لا سيما الأطفال منهم».
معركة الباغوز لم تكن تشبه أي معركة أخرى، فقد كانت حاسمة. فيها أصيب صحافي إيطالي بجروح بليغة، جراء تغطيته لها. وتابعت ناز قائلة: «بعد إصابته، انتابتني مشاعر مشوشة، هل أستمر في تغطية المعركة؟ التحديات كانت كبيرة بالفعل».
وتُخبر ناز: «واجهتني مواقف صعبة، فعندما كنت أوّجه أسئلة إلى أسر التنظيم وعائلاته، تعرضت لكلمات وشتائم وصراخ. مشهد سأبقى أتذكره مهما حييت. فالنساء كن يصرخن: إنّها باقية وتتمدد (أي «داعش»)، والأطفال يرفعون الإبهام ويرددون شعارات متطرّفة تعلموها من التنظيم».
- قاطرات «مركونة» بذاكرة رامان
بالنسبة لرامان عيسى، مدير مكتب شبكة «أورنينا»، السوري من الحسكة، لم تكن هذه أول تجربة في تغطية المعارك، لكن معركة دحر الإرهاب في ريف دير الزور الشّمالي كانت من أقوى المعارك، حسب رأيه، وقال إنّ «اختلاف الجغرافيا وتقلبات المعركة كانت تخلق مناخاً من الخوف والهلع بالنسبة للمصور والصحافي، خصوصاً أثناء الوجود في نقاط الاشتباك»، وأضاف: «بكل تأكيد أشعر بالفرح لهزيمة التنظيم. وأعتبرها لحظة الانتهاء من حقبة سوداء عاشها الكثير من أبناء منطقة شرق الفرات. نعم كانت حقبة من الظلام والإرهاب».
وأشار إلى أنّ أكثر الصّور التي تتوارد على ذهنه، هي مشاهد الناقلات والقاطرات التي كانت تحمل عوائل وأسر من يشتبه بانتمائهم للتنظيم إلى المناطق المحررة، وأضاف عيسى: «أنّه بعد الهزيمة، كان الأطفال يلوحون رافعين أيديهم الصغيرة راسمين بأصابعهم شارة النّصر، يلقون التحية على الصحافيين أثناء عبورهم من الممر الإنساني. والفرحة على وجوههم واضحة بعد خلاصهم من ظلم التنظيم».
من ناحيته، استعبد رامان عيسى القضاء على التنظيم جغرافياً، كما زواله عسكرياً عن الأرض. بمعنى انتهاء حقبة «داعش» بشكل كامل، نظراً لانتشار خلاياه النائمة في أغلب المناطق، خصوصاً في ريف دير الزور وبادية الشّام. وقال: «كنا نسمع أحاديث من المدنيين كيف يخرجون في الليل، أو عند اشتداد العواصف والأمطار، ويرعبون الناس وينشرون الخوف باغتيال شخص ما أو بعملية انتحارية».
- عندما صلب شقيق رضوان أمامه
من قناة «كردستان 24»، يقول مراسلها رضوان بيزار المتحدر من مدينة تل أبيض التابعة لريف الرقة الشّمالي، إنّه تعرض وعائلته للتهجير على يد فصائل وجهات «إسلامية متشددة» منتصف 2013، ولجأوا إلى مدينة أورفا التركية المجاورة لسوريا. وبسبب أنشطته وتغطياته الإعلامية، نشر عناصر تنظيم «داعش»، اسمه وأسماء عدد من زملائه، ولصقوا القائمة على جدران تل أبيض التي كانت خاضعة لسيطرتهم آنذاك، قبل طردهم صيف 2015، وذلك للتحذير من التعامل معهم. بعد طرد «داعش» من مدينته، عاد بيزار إليها واستأنف عمله في الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة. يروي أنّ أول المشاهدات التي لاحظها في مدينته، كانت قفصاً حديدياً موضوعاً في مركز تل أبيض، وهو عبارة عن مكان لمعاقبة المخالفين لقوانين التنظيم، يتذكر صوت الرجل الذي قال له إنّ عناصر «داعش» صلبوا أخاه أمام ناظريه، وتُرك ثلاثة أيّام من دون السماح بدفن جثته.
وقال رضوان: «أثناء تغطيتي لمعركة طرد التنظيم من الطبقة، اجتزنا نهر الفرات بقوارب صغيرة تسمّى محلياً بـ(البرك)، يومذاك حلّقت طائرة مسيرة عائدة للتّنظيم فوقنا وأطلقت قنبلة، ولكن لم يصب أحد منّا بأذى». وتعرض رضوان لحادث آخر أثناء تغطية معركة الرقة في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، حيث استهدف من قبل عناصر «داعش» بقنبلة فراغية عبر طيارة من دون طيار، فأصيب بجروح طفيفة مع اثنين من زملائه. كما يخبرنا بأنّه تعرض لحادث كاد أن يودي بحياته: «عندما فجّر اثنان من الانتحاريين من (داعش) نفسهما بسيارة مفخخة في حي المشلب شرق الرقة، أصبت مع زميلي علاء سعدون بجروح بليغة، وعلى الفور أسعفنا إلى المستشفى وبعد أيام تماثلنا للشفاء».


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.