إسقاط جنسيات {الإرهابيين العائدين»

إنهاء للتهديد أم دفع نحو «القتال الفردي»؟

عناصر «داعش» في سوريا
عناصر «داعش» في سوريا
TT

إسقاط جنسيات {الإرهابيين العائدين»

عناصر «داعش» في سوريا
عناصر «داعش» في سوريا

فيما عده مراقبون اتجاهاً مستقبلياً للتصدي لخطر «العائدين» من دول الصراعات، تقوم دول أوروبية بتحركات لسحب الجنسية عن «الإرهابيين» مزدوجي الجنسية. هذه الدول ترى أن هذه الخطوات فعالة لإنهاء تهديدات المقاتلين «العائدين»، إلا أن خبراء أمنيين ومختصين في الحركات الأصولية أكدوا أن «سحب الجنسية من (الإرهابيين) ليس عقاباً، بل هو وسيلة لتصدير أزمات جديدة»، موضحين أن «سحب الجنسية من الإرهابي يدفعه ليتحول إلى (ذئب منفرد)... والحل الأكثر نفعاً دمجه في المجتمع».

يُشار إلى أن الهزائم الكبيرة التي مُني بها تنظيم «داعش» الإرهابي في سوريا والعراق خلال الأشهر الماضية، فرضت ضغوطاً قوية على هؤلاء «المقاتلين»، خصوصاً في ظل إجراءات أمنية مشددة اتخذتها دولهم الأصلية، بهدف منع عودتهم مرة أخرى إليها، على نحو يُمكن أن يهدد استقرارها الأمني، ويزيد من احتمالات تنفيذ عمليات إرهابية على أراضيها. وبالفعل خطت بعض الدول خطوات لسحب الجنسية من «العائدين». فبلجيكا قررت سحب الجنسية من أي شخص يصدر ضده حكم بالسجن لمدة تزيد على 5 سنوات في أي قضية متعلقة بالإرهاب. وفرنسا اقترحت سحب جواز السفر من الأشخاص المرتبطين بتنظيمات إرهابية، مع ترحيلهم من أراضيها. وأقرّت كل من ألمانيا، وأستراليا، وبلجيكا، وكندا، وهولندا، وسويسرا، سلسلةً من الإجراءات والقوانين تفتح الباب أمام سحب جنسية رعاياها المنضمين إلى تنظيمات إرهابية، لقطع الطريق أمام عودتهم إلى بلادهم. أما هولندا فقد نزعت بالفعل جنسيتها عن 7 أشخاص في عام 2017. وبريطانيا ألغت جنسية 150 شخصاً منذ عام 2010.

خطر كبير

اللواء الدكتور محمد قشقوش، المحلل العسكري والاستراتيجي، أستاذ الأمن القومي الزائر بأكاديمية ناصر العسكرية العليا في مصر، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن سحب الجنسية من الإرهابي يدفعه ليتحول إلى «ذئب منفرد»... صحيح أن المتطرف ترك بلده، وأخذ موقفاً آخر بالانضمام لأحد التنظيمات، لكن عند عودته وسحب الجنسية، من المرجح أن يقوم بعمليات إرهابية بمفرده من دون أي تكليفات من أي تنظيم، وهذا هو الأخطر، لأن دولته الأم في هذا الوقت ستكون من وجهة نظره عدواً له، لافتاً إلى أن «سحب الجنسية من العائد للوطن الأم تصدير للأزمة إلى جهة أخرى، مثل القضاء».
وتحفّظ عمرو عبد المنعم، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أيضاً، على إجراءات بعض الدول بسحب الجنسية من «الإرهابيين»، مؤكداً أن سحبها ليس حلاً، وأمراً غير مؤثر، لأن «المتشدد» بعيد كل البعد عن فكرة الإيمان بأمر الجنسية أو الوطن، فهو مؤمن بـ«الأمة»، و«الخلافة»، و«المرجعية الدينية» لكل شيء، ومن ثم «سوف تجد أن فكرة سحب الجنسية ليست عقاباً له، بل هي تكئة يحفظ بها وجوده في أي مكان بالدول الغربية، عبر استغلاله لقوانين هذه الدول، التي تحترم الجنسية».
وقال عبد المنعم لـ«الشرق الأوسط» إن سحب الجنسية من الإرهابي ليس عقاباً له، بل وسيلة لتصدير أزمة من قبل «الإرهابيين» لدول أخرى، النرويج مثلاً سلمها العراق 12 «إرهابياً» وتدرس الآن إسقاط الجنسية عنهم، مضيفاً أن الإرهابي سوف يتحول لـ«ذئب منفرد» ويفكّر في القيام بعملية إرهابية قد تُحدث فوضى، لذلك فـ«الجهاد الفردي» أخطر من المواجهات الجماعية... وتنظيم «داعش» وصل الآن إلى مرحلة قتال «العملية الجهادية الواحدة» عن طريق «ذئب منفرد»، وقتال «العملية الواحدة» إما يكون عبر تعليمات مباشرة لعناصر التنظيم بالتنفيذ، أو عبر تعليمات غير مباشرة بأن يقوم بها «الانفرادي» عندما تكون الظروف متاحة له في الدولة التي يقيم بها، أو من خلال التجنيد اللحظي، عبر ترصُّد شخص مُعين وإقناعه بأفكار التنظيم ليقوم بتنفيذ عملية إرهابية.

خلايا نائمة

الكلام السابق اتفَقَ مع دراسة حديثة لمركز «المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة» في أبوظبي، أكدت أن «قوى اليمين في أوروبا أيدت سحب الجنسية من (الإرهابيين)، لا سيما بعد تصاعد عدد (الإرهابيين) من مزدوجي الجنسية، الذين كثيراً ما يتم استقطابهم من جانب المجموعات الإرهابية، وإقناعهم بالعودة إلى دولهم الأصلية بهدف زرعهم كـ«خلايا نائمة» قد تقوم بعمليات إرهابية مستقبلية... ومن ثم يؤكد البعض أن «هذه القرارات لا تمس سوى المقاتلين الأجانب مزدوجي الجنسية، لدفعهم إلى الرحيل لبلدانهم الأصلية».
المراقبون قالوا إنه حال تضييق الغرب على عناصر «داعش» سوف تنحصر مهمتهم في تجنيد عناصر جديدة... وقد يظن البعض أن رجوع عناصر التنظيم لدولهم قد يُثنيهم عن تطرف أفكارهم وإعلان التوبة، لكنهم للأسف يتسللون ويتخفّون لإيجاد مناخ يناسب تكتيكهم العسكري المتطرف.
فـ«العائدون» مصطلح شهد تغيّراً كبيراً بعد هزيمة «داعش» في سوريا والعراق، فقد كان يُطلق في البداية (قبل هزيمة التنظيم) على بعض المنضمين إليه ممن خُدعوا بدعايته ثم سرعان ما اكتشفوا (بعد انضمامهم إليه أن الأوضاع على أرض الواقع تختلف اختلافاً جذرياً عما يروجه التنظيم، لذا قرروا تركه والعودة إلى بلادهم). وبعد هزيمة التنظيم في سوريا والعراق أصبح المُصطلح يحمل معنى مغايراً تماماً؛ إذ لا يُمكن الجزم بما إذا كان هؤلاء «العائدون» لا يزالون يحملون الفكر الداعشي أم لا؟ وقد أعربت كثير من حكومات الدول الغربية عن خوفها الشديد من هؤلاء «المقاتلين العائدين».
وقال المراقبون إن «بعض هؤلاء المقاتلين كانوا يتولون مهام رئيسية داخل تنظيم (داعش) لقدراتهم القتالية والتنظيمية الكبيرة، خصوصاً في العمليات الانتحارية، أو الانغماسية، التي يكون الهدف منها الإيقاع بأكبر عدد من الخسائر البشرية».
دراسة «مركز المستقبل» قالت إن اليسار الأوروبي عارَض إجراءات التجريد من الجنسية، انطلاقاً من أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يؤكد الحق في امتلاك الجنسية، فضلاً عن اتفاقية صادرة عن الأمم المتحدة عام 1961 حظرت سحب الجنسية في الحالات التي يؤدي فيها سحبها إلى ترك الشخص بلا هوية.
وتساءلت الدراسة نفسها: هل تساعد إجراءات التجريد من الجنسية في تحجيم الإرهاب بأوروبا؟! وأجابت: «هُنا تبرز أطروحات تؤكد أن إجراءات نزع الجنسية عن (الإرهابيين) تمثل خطراً على الأمن العالمي، حيث سيبقون طُلقاء بعيدين عن مراقبة الأمن المحلي، كما أن الآراء التي تطالب بنزع الجنسية عن المواطنين الأوروبيين (الإرهابيين) تعني أن يتم إرسال التهديدات لدولة أخرى».

المناطق الفارغة

عبد المنعم حذّر من أنه حال سحب الجنسية من الإرهابي، فسوف يذهب إلى «المناطق الفارغة»، خصوصاً في صحراء دول أفريقيا، وسوف يتعامل مع الموقف بطريقة مختلفة، فـ«العائدون» من «داعش» كارثة تهدد الدول، والإحصائيات تقول إننا أمام 40 ألف مقاتل بعائلاتهم (زوجاتهم وأطفالهم) من دول أوروبا، و«داعش» أعلن من قبل أن «القتال والمعارك ستكون في عقر داركم»... ويتوعّد «داعش» الغربيين دائماً بهجمات «تنسيهم» (على حد زعمه) هجمات نيويورك في 11 سبتمبر (أيلول) من عام 2001.
وعن أفضل الحلول لمواجهة «العائدين»، أوضح اللواء قشقوش، أن علاج أزمة «العائدين» بالذوبان في المجتمع، وهذا الكلام ليس سهلاً، لأن معظم «العائدين» من الجيلين الثاني والثالث من الأفارقة والعرب، وهم ليسوا أوروبيي الأصل، فأوروبيو الأصل نسبة قليلة جداً، قد يكونون قد دخلوا الإسلام حديثاً، لافتاً إلى أن «بعض المجتمعات مُضطرة لأن تستوعب (العائدين)، مثل السويد والنرويج، لكن في فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، الأمر مختلفاً»، مضيفاً: «لا بد من الاستيعاب المجتمعي لـ(العائدين)، وتعديل الفكر السلوكي الإنساني لهم، مشيراً إلى أن (المهاجرين) أيضاً يمثلون إشكالية للدول مثل (العائدين)».
أما عمرو عبد المنعم، فقد فنّد الخيارات المطروحة لمواجهة «المقاتلين العائدين»، إما بالدمج في المجتمع، أو العقاب بالسجن على ما ارتكبوه بهروبهم من دولهم والانضمام لتنظيمات إرهابية وتنفيذ عمليات قتل، أو بالمراقبة، أو بردّهم بالكلية وطردهم وعدم الاعتراف بهم... وفي تصوري أن «الدول لا بد أن تستخدم أياً من تلك الخيارات».


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟