بروفايل: المحامي مصطفى بوشاشي «أيقونة» الحراك في الجزائر

مرشح لنقل البلاد إلى «الجمهورية الثانية» رغم زهده بالسلطة

بروفايل: المحامي مصطفى بوشاشي «أيقونة» الحراك في الجزائر
TT

بروفايل: المحامي مصطفى بوشاشي «أيقونة» الحراك في الجزائر

بروفايل: المحامي مصطفى بوشاشي «أيقونة» الحراك في الجزائر

في عزّ موجة الغضب العارم التي تجتاح الجزائر، منذ 22 فبراير (شباط) الماضي، قفز إلى ساحة النقاش اسم المحامي الشهير مصطفى بوشاشي، بديلاً محتملاً مؤقتاً أو دائماً للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي تخلى عن رغبته في تمديد حكمه تحت ضغط الشارع. واقترحه ناشطون بالحراك ليقود فترة انتقالية مدتها ستة أشهر، تنتهي بتسليم السلطة إلى رئيس جديد منتخب، في حين يراه آخرون رئيساً بكامل الصلاحيات في انتخابات تنظّم مباشرة، دونما حاجة إلى مراحل انتقالية تحيل الجزائريين إلى نماذج سيئة من تسيير البلاد في تاريخ غير بعيد.

في أحدث تصريحاته للصحافة، رفض بوشاشي كلتا الصيغتين؛ فهو يفضّل - كما قال - أن يظل «مناضلاً بسيطاً يدافع عن الحقوق والحريات». وعلى عكس بعض النشطاء، رفض بوشاشي مقترح الجيش تطبيق المادة 102 من الدستور، التي تتحدث عن عزل الرئيس بسبب مرض خطير ومزمن. وقال بهذا الخصوص: «المطلوب تطبيق المادة 7 من الدستور التي تقول إن الشعب هو مصدر السيادة. فالشعب طالب بالتحرر من هذا النظام، ولا يريده أن يشرف على ترتيبات تخص مستقبله. إن صرخة الشعب وصل صداها إلى كل بقاع العالم، من كندا إلى آسيا، إلا نظام الجزائر الذي يرفض أن يسمعها».
واعتبر بوشاشي أن «الشباب الذين خرجوا منذ 22 فبراير أعادوا لنا الكرامة والعزة التي افتقدناها، وكنا نخجل عندما نتحدث إلى شعوب العالم... يجب علينا جميعا أن نقدّس هذه الثورة السلمية ولا نختزلها في نقاش دستوري ولا في اختيار شخص يقود البلاد... إنها أكبر من ذلك بكثير». لكن هل هذا «الزهد» في المسؤولية، من جانب المحامي والناشط الحقوقي، يبعد عنه ضغط بعض أطراف الحراك الذي يريده رئيساً؟ يرفض بوشاشي الخوض في هذه المسألة نهائياً من منطلق «أنني لا أطلب شيئاً لنفسي وإنما أناضل من أجل أن يحكم بلدي شخص نزيه ونظيف اليد، صارم في تطبيق القانون على الجميع».

- البلد في حاجة إلى آليات وليس إلى أشخاص
يقول أستاذ التاريخ والناشط السياسي المعروف، محمد إرزقي فرّاد: «يمر الشعب الجزائري بمرحلة حاسمة، تتمثل في التحول نحو الجمهورية الثانية التي لا مفر منها، بعد خروجه إلى الشارع بالملايين». وإن كان فرّاد يرى أن بوشاشي «يملك المؤهلات ليكون قائداً للبلاد، لكن هذه المرحلة لا تحتاج إلى أسماء أشخاص، بقدر ما تحتاج إلى إيجاد ميكانيزمات عمل تترجم الانشغالات المطروحة في الشارع إلى خريطة طريق. ومما لا شك فيه أن بناء الجمهورية الثانية مهمة يشارك فيها الجميع، علماً بأن مسيرة 22 فبراير هي ثمرة تراكم نضال أجيال كثيرة، وعليه فمن الخطأ التصور بأن هذه الهبّة الشعبية هي وليدة الساعة. وما دمنا نعيش لحظة حاسمة (ميلاد جمهورية جديدة)، علينا أن نفتح حواراً واسعاً يشارك فيه الجميع بكل أطيافهم السياسية. وعلينا أن نتفادى العزل السياسي إزاء السلطة، اللهم إلا الأسماء التي ذكرت في المسيرات بصفتها رموزا للفساد».
ويعتقد الباحث في قضايا التاريخ أن «الإشكالية المطروحة الآن كالتالي: هل نبحث عن الحل في الدستور الحالي؟ أم نتجاوزه إلى الشرعية الشعبية الممارسة في الميدان؟ إن الدستور الحالي لا يتوافر على آليات تستجيب إرادة الشعب الذي يطالب بالقطيعة مع هذا النظام. لذا؛ أرى أن الحل يكمن في الشرعية الشعبية، وفي هذا السياق أقترح فتح حوار واسع تشارك فيه الفعاليات كافة (أحزاب - نقابات - جمعيات - مؤطرو الحراك - شخصيات وطنية...)، وغايته رسم معالم المرحلة الانتقالية عن طريق تعيين مجلس رئاسي يتولى مهام رئيس الدولة. يقوم المجلس الرئاسي بتعيين حكومة كفاءات لتصريف الأعمال، وتغيير قانون الانتخابات بنية احترام إرادة الشعب. وتشكيل لجنة مستقلة لتنظيم الانتخابات وليس الإشراف عليها فقط. ووضع مجلس تأسيسي يعد مشروع دستور».

- رجل التوافق
عبد الغني بادي، وهو محامٍ وناشط بالحراك، عرف بوشاشي عن قرب واحتك به. يقول عنه: «أعتقد أن الأستاذ بوشاشي، بما يملكه من قبول واسع لدى الرأي العام والطبقة السياسية وداخل النخب، يمكنه أن يلعب دوراً مهماً في مرحلة انتقالية. فالرجل تتوفر فيه مواصفات لا تجتمع عند غيره؛ فهو شخصية توفيقية يقبل جميع الحساسيات، وسبق له أن تفاعل معها، سواء داخل المحيط السياسي أو الوسط الحقوقي... بوشاشي يملك الكاريزما، وقوة الشخصية والكفاءة العلمية ويحظى بالاحترام... وأهم ما يملكه هو أنه يقبل جميع الأفكار ولا يتطرف أو ينحاز إلى لون سياسي معين». ويضيف: «طبعاً يمكنه أن يكون رجل إجماع في هذه المرحلة الحساسة، وبخاصة أن اسمه طُرح بقوة لهذا الدور، كما أن الاقتراب من هذه الشخصية للذين لا يعرفونه من الشباب، ليس أمراً معقداً. كثير من الناس راح يبحث عن تفاصيل تخص بوشاشي في المواقع و(يوتيوب) ومحركات البحث. سياسياً، هو لم يتورّط في أي شيء يخص النظام ورموزه، بل أبان عن موقف تاريخي وهو يستقيل من البرلمان، عندما كان كثيرون من الذين يزعمون أنهم معارضون، يدفعون أموالاً طائلة للحصول على كرسي الحصانة. أعتقد أن بإمكانه أن يؤدي دور رجل التوافق في المرحلة المقبلة».
وبالنسبة إلى الصحافي الجزائري المقيم بتونس، عثمان لحياني، «بروز اسم بوشاشي في صدارة الأسماء الفاعلة في الحراك، يرتبط بعوامل عدة تتعلق برصيده في ساحة النشاط الحقوقي والمدني، ودفاعه منذ عقود عن الدولة المدنية والحريات واستقلالية القضاء... وربما استكملت استقالته من البرلمان، قبل فترة، صورته معارضاً للسلطة من خارج المؤسسات وداخلها. يضاف إلى ذلك أنه ظلّ سياسياً على مسافة واحدة من مجموع القوى السياسية المعارضة، ولم يؤثر ترشحه باسم جبهة القوى الاشتراكية في انتخابات مايو (أيار) 2017 على نضاله وسمعته».
وقال لحياني أيضاً: «مجمل هذه العوامل وتخصصه كحقوقي متزن، وغير انفعالي، وغياب سوابق له في الاحتكاك بالسلطة، تجعله رجلاً محورياً في المرحلة المقبلة. بوشاشي يملك بروفايل رجل تتقاطع عنده قوى المعارضة، بغض النظر عن تباين المرجعيات الآيديولوجية، سواء لرئاسة مؤتمر وفاق وطني، أو عضوية هيئة رئاسية بحسب مخرجات الحراك الشعبي. في المقابل، يجب الانتباه إلى أنه في مراحل الانتقال الديمقراطي التي عرفتها دول شبيهة بالجزائر، يكون المجتمع في حاجة إلى بروفايل قائد مثل ما يتميز به بوشاشي، لكن مع توافر ميزات أخرى كثقافة الدولة التي تكسب الشخص فاعلية في تأطير الانتقال الديمقراطي».

- كانوا يقذفونه بالنفايات من شرفات العمارات
ويعد الحقوقي حسن بوراس من أكثر العارفين ببوشاشي؛ فخلال فترات سجنه كان المحامي الذي دافع عنه والصديق الذي وقف بجنبه. يقول عنه: «حين تقدم مصطفى بوشاشي صفوف المتظاهرين، من أجل الحرية والديمقراطية في فبراير 2011 (مظاهرات في سياق أحداث ما عُرف بـ«الربيع العربي») كان الجنرال توفيق مدير المخابرات في منصبه (تم عزله عام 2015)، وفي كامل سطوته، وبوتفليقة في كامل صحته، وكان الكثير ممن يهاجمونه اليوم ويشوهون صورته يقذفوننا معه بالقمامات من شرفات ونوافذ العمارات بالعاصمة، وبالمفرقعات الحارقة في الشوارع ويهتفون: يحيا بوتفليقة... يحيا بوتفليقة. أتمنى من قلبي ألا تستسلم الجماعة الحاكمة بسهولة، وأن تلجأ إلى القمع والبطش حتى يتم تمحيص هذا الحراك الشعبي وغربلته؛ لأن من سيثبت في آخر المطاف هم أصحاب القضايا العادلة... وبوشاشي واحد منهم بكل تأكيد».
عبد الرحمن صالح، وهو محامٍ من الجيل الجديد، درس الحقوق في الجامعة على يدي بوشاشي. يقول عنه: «عرفته أستاذاً لمادة حقوق الإنسان والقانون الدولي الخاص سنة 1997، كنت آنذاك طالباً في السنة الثالثة حقوق. هو شخص يتمتع بكل مواصفات الأستاذ الجامعي التقليدي، تكويناً وشخصية. ثم جمعنا العمل الحقوقي بعد ذلك، في قضايا عدة منذ 2004. مفهوم الدولة عند مصطفى بوشاشي مثالي، ربما يتفوق على نظرة مونتسكيو وعقده الاجتماعي. الدولة بالأساس هي ضامنة للحريات والقيم. يتفق مع النظرة إلى العدل كحصن الأمة، ودائماً يقول إن الدول الديمقراطية لا تُهزم، معدداً الحروب التي عرفتها الإنسانية منذ البدء؛ إذ لم يحدث أن انهزمت دولة ديمقراطية في حرب ضد دولة ديكتاتورية، بدءاً من حروب أثينا ضد إسبارطة في اليونان القديمة إلى الحرب العالمية الثانية».
وبرأي المحامي، أن «الجزائر لا يمكنها أن تتقدم وتتطور وسط جو قمعي ديكتاتوري مغلّف بقناع ديمقراطي مزيف. إن نظرة بوشاشي إلى المعارضة أنها ظُلمت كثيراً، تحت نظام شمولي منعها من الحركة لدرجة أن هياكلها الداخلية لا تحصل على الرخص اللازمة لعقد نشاطاتها، كما حدث لطلب طلائع الحريات (حزب رئيس الوزراء سابقاً علي بن فليس) الترخيص بعقد دورة استثنائية للجنتها المركزية؛ إذ قوبل بالرفض. فلا مسيرات ولا تجمعات ولا مظاهرات مرخصة، فكيف يمكن للمعارضة أن تعمل باستثناء ما توفر لها من بيانات تصدرها؟ شخصياً، وهذا تقييمي الخاص، الأستاذ بوشاشي يتميز بشخصية غير صدامية، أي أنه يميل إلى المنافسة لا المواجهة. وإذا ما رأى أن الظروف التي تجري فيها المنافسة غير عادلة، لا يتردد في الانسحاب (والاستقالة من البرلمان نموذج لذلك). ومن خلال تكوينه وشخصيته، يمكنه أن يكون رئيساً للمرحلة الانتقالية، حيث يستطيع العمل على إرساء دستور جديد للبلاد وإصلاح الهياكل الموجودة كالمجلس الدستوري وتقليص صلاحيات الرئيس، وتعديل قانون الانتخاب بما يتماشى مع دولة ديمقراطية حقيقية».

- «كأن الجزائر لم تنجب إلا هؤلاء»
على عكس ما ذكر من إشادة ببوشاشي، وقدرته على أن يكون بديلاً لرجال الحكم، يرى أحمد شنّة، أمين عام «أكاديمية المجتمع المدني الجزائري»، منظمة غير حكومية قريبة من الحكومة، أنه «ليس صدفة أبداً أن تكون الأسماء التي يقدمها الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، في صورة الزعامات المثالية للحراك الشعبي، من مدرسة سياسية واحدة، وإن اختلفوا في انتماءاتهم الحزبية والمهنية والمعرفية، وأن يكون أغلب أفرادها من فضاء اجتماعي واحد، وكأن الجزائر لم تنجب إلا هؤلاء!». ويتابع: «الغريب أنهم مثلما هم موجودون في واجهة الحراك، فإنهم أيضاً موجودون في دواليب السلطة، وموجودون أيضاً في أحزاب المعارضة، وموجودون في صف دعاة التقسيم والانفصال! فمتى يفهم هؤلاء الحالمون بقيام وهم الجمهورية الثانية، أن اللعب الآن صار على المكشوف؟ ومتى يدركون أن الشعب الذي لطالما اعتبروه قطيعاً يسوقونه حيثما شاءوا، قد استعاد المبادرة وأمسك بزمام القيادة، ولا توجد اليوم قوة على الأرض ستثنيه عن الشروع في بناء جمهورية ثورة التحرير العظيمة؟».
ويخاطب شنّة، ضمناً، بوشاشي والحالمين برؤيته يوماً رئيساً، بالقول: «لا تفرحوا كثيراً بالزعامات والألقاب الوهمية التي أطلقتها عليكم بعض الفضائيات والمواقع الافتراضية. فالزعامة ليست ظاهرة صوتية أو إعلامية، وليست أيضاً جرأة على الثوابت واعتداء على المقدسات، من دين ولغة وانتماء حضاري، وإنما هي أخلاق وقيم ووفاء لثورة التحرير، قبل أي شيء آخر. وما عدا ذلك، فإنها ودون شك، قبض ريح وباطل الأباطيل!».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا
TT

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فيما حصل أقرب منافسيها باندوليني إيتولا على 26 في المائة فقط من الأصوات. شكَّل فوز نيتومبو الملقبة بـ«NNN»، حلقةً جديدةً في حياة مليئة بالأحداث، عاشتها المرأة التي ناضلت ضد الاحتلال، واختبرت السجن والنفي في طفولتها، قبل أن تعود لتثبت نفسها بصفتها واحدة من أبرز النساء في السياسة الناميبية وقيادية فاعلة في الحزب الحاكم «سوابو».

في أول مؤتمر صحافي لها، بعد أسبوع من إعلان فوزها بالانتخابات الرئاسية، تعهدت نيتومبو، التي ستتولى منصبها رسمياً في مارس (آذار) المقبل، بإجراء «تحولات جذرية» لإصلاح مستويات الفقر والبطالة المرتفعة في ناميبيا، الدولة الواقعة في الجنوب الأفريقي، والتي يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة.

نيتومبو أشارت إلى أنها قد تنحو منحى مختلفاً بعض الشيء عن أسلافها في حزب «سوابو» الذي يحكم ناميبيا منذ استقلالها عن جنوب أفريقيا في عام 1990. وقالت نيتومبو: «لن يكون الأمر كالمعتاد، يجب أن نُجري تحولات جذرية من أجل شعبنا».

لم توضح نيتومبو طبيعة هذه التحولات الجذرية التي تعتزم تنفيذها، وإن أشارت إلى «إصلاح الأراضي، وتوزيع أكثر عدالة للثروة». وبينما يصنف البنك الدولي ناميبيا على أنها دولة ذات «دخل متوسط»، فإنها تعد واحدة من أكثر الدول التي تعاني من عدم المساواة في توزيع الدخل على مستوى العالم، مع ارتفاع مستويات الفقر التي ترجع جزئياً إلى إرث عقود الفصل العنصري وحكم الأقلية البيضاء.

ووفق تقرير رسمي من البنك الدولي صدر عام 2021 فإن «43 في المائة من سكان ناميبيا يعيشون فقراً متعدد الأبعاد». وهو مؤشر يأخذ في الاعتبار عوامل عدة إلى جانب الدخل، من بينها الوصول إلى التعليم والخدمات العامة.

ولأن طريق نيتومبو السياسي لم يكن أبداً ممهداً، لم يمر إعلان فوزها بالانتخابات دون انتقادات. وقالت أحزاب المعارضة إنها ستطعن على نتيجة الانتخابات الرئاسية، متحدثةً عن «صعوبات فنية وقمع ضد الناخبين». لكنَّ نيتومبو، المعروفة بين أقرانها بـ«القوة والحزم»، تجاهلت هذه الادعاءات، واحتفلت بالفوز مع أعضاء حزبها، وقالت: «أنا لا أستمع إلى هؤلاء المنتقدين».

نشأة سياسية مبكرة

وُلدت نيتومبو في 29 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1952 في قرية أوناموتاي، شمال ناميبيا، وهي التاسعة بين 13 طفلاً، وكان والدها رجل دين ينتمي إلى الطائفة الأنغليكانية. وفي طفولتها التحقت نيتومبو بمدرسة «القديسة مريم» في أوديبو. ووفق موقع الحزب الحاكم «سوابو» فإن «نيتومبو مسيحية مخلصة»، تؤمن بشعار «قلب واحد وعقل واحد».

في ذلك الوقت، كانت ناميبيا تعرف باسم جنوب غرب أفريقيا، وكان شعبها تحت الاحتلال من دولة «جنوب أفريقيا»، مما دفع نيتومبو إلى الانخراط في العمل السياسي، والانضمام إلى «سوابو» التي كانت آنذاك حركة تحرير تناضل ضد سيطرة الأقلية البيضاء، لتبدأ رحلتها السياسية وهي في الرابعة عشرة من عمرها.

في تلك السن الصغيرة، أصبحت نيتومبو ناشطة سياسية، وقائدة لرابطة الشباب في «سوابو»، وهو ما أهّلها فيما بعد لتولي مناصب سياسية وقيادية، لكنها تقول إنها آنذاك «كانت مهتمة فقط بتحرير بلدها من الاحتلال»، مشيرةً في حوار مصوَّر نُشر عبر صفحتها على «فيسبوك» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى أن «السياسة جاءت فقط بسبب الظروف، التي لو اختلفت ربما كنت أصبحت عالمة».

شاركت نيتومبو في حملة «ضد الجَلْد العلنيّ»، الذي كان شائعاً في ظل نظام الفصل العنصري، وكان نشاطها السياسي سبباً في إلقاء القبض عليها واحتجازها، عدة أشهر عام 1973، وهي ما زالت طالبة في المرحلة الثانوية. ونتيجة ما تعرضت له من قمع واضطهاد، فرَّت نيتومبو إلى المنفى عام 1974، وانضمت إلى أعضاء «سوابو» الآخرين هناك، واستكملت نضالها ضد الاحتلال من زامبيا وتنزانيا، قبل أن تنتقل إلى المملكة المتحدة لاستكمال دراستها.

تدرجت نيتومبو في مناصب عدة داخل «سوابو»، فكانت عضواً في اللجنة المركزية للحركة من عام 1976 إلى عام 1986، والممثلة الرئيسية للحركة في لوساكا من عام 1978 إلى عام 1980. والممثلة الرئيسية لشرق أفريقيا، ومقرها في دار السلام من عام 1980 إلى عام 1986.

درست نيتومبو في كلية غلاسكو للتكنولوجيا، وحصلت على دبلوم في الإدارة العامة والتنمية عام 1987، ودبلوم العلاقات الدولية عام 1988، ودرجة الماجستير في الدراسات الدبلوماسية عام 1989 من جامعة كيل في المملكة المتحدة، كما حصلت على دبلوم في عمل وممارسة رابطة الشبيبة الشيوعية التابعة للاتحاد السوفياتي، من مدرسة «لينين كومسومول العليا» في موسكو.

ونالت الكثير من الأوسمة، من بينها وسام النسر الناميبي، ووسام «فرانسيسكو دي ميراندا بريميرا كلاس» من فنزويلا، والدكتوراه الفخرية من جامعة دار السلام بتنزانيا.

تزوجت نيتومبو عام 1983 من إيبافراس دينجا ندايتواه، وكان آنذاك شخصية بارزة في الجناح المسلح لجيش التحرير الشعبي في ناميبيا التابع لـ«سوابو»، وتولى عام 2011 منصب قائد قوات الدفاع الناميبية، وظل في المنصب حتى تقاعده في عام 2013، ولديها ثلاثة أبناء.

العودة بعد الاستقلال

بعد 14 عاماً من فرار نيتومبو إلى المنفى، وتحديداً في عام 1988، وافقت جنوب أفريقيا على استقلال ناميبيا، لتعود نيتومبو إلى وطنها، عضوة في حزب «سوابو» الذي يدير البلاد منذ الاستقلال.

تدرجت نيتومبو في المناصب وشغلت أدواراً وزارية عدة، في الشؤون الخارجية والسياحة ورعاية الطفل والمعلومات. وعُرفت بدفاعها عن حقوق المرأة.

وعام 2002 دفعت بقانون عن العنف المنزلي إلى «الجمعية الوطنية»، وهو القانون الذي يعد أحد أبرز إنجازاتها، حيث دافعت عنه بشدة ضد انتقادات زملائها، ونقلت عنها وسائل إعلام ناميبية في تلك الفترة تأكيدها أن الدستور يُدين التمييز على أساس الجنس.

وواصلت صعودها السياسي، وفي فبراير (شباط) من العام الماضي، أصبحت نائبة رئيس ناميبيا. كانت أول امرأة تشغل مقعد نائب رئيس حزب «سوابو» بعدما انتخبها مؤتمر الحزب في عام 2017 وأعيد انتخابها في مؤتمر الحزب نوفمبر 2022، مما أهَّلها لتكون مرشحة الحزب للرئاسة عام 2024، خلفاً للرئيس الحاج جينجوب، الذي توفي خلال العام الماضي، وتولى رئاسة البلاد مؤقتاً نانجولو مبومبا.

صعوبات وتحديات

لم تكن مسيرة نيتومبو السياسية مفروشة بالورود، إذ اتُّهمت في فترة من الفترات بدعم فصيل منشق في حزب «سوابو» كان يسعى لخلافة سام نجوما أول رئيس لناميبيا بعد الاستقلال، لكنها سرعان ما تجاوزت الأزمة بدعم من هيفيكيبوني بوهامبا، خليفة نجوما.

يصفها أقرانها بأنها قادرة على التعامل مع المواقف الصعبة بطريقة غير صدامية. خلال حياتها السياسية التي امتدّت لأكثر من نصف قرن أظهرت نيتومبو أسلوباً عملياً متواضعاً في القيادة، ولم تتورط -حسب مراقبين- في فضائح فساد، مما يمنحها مصداقية في معالجة مثل هذه الأمور، لكنَّ انتماءها منذ الطفولة إلى «سوابو»، وعملها لسنوات من خلاله، لا ينبئ بتغييرات سياسية حادة في إدارة البلاد، وإن تعهَّدت نيتومبو بذلك.

ويرى مراقبون أنها «لن تبتعد كثيراً عن طريق الحزب، ولن يشكل وجودها على سدة الحكم دعماً أكبر للمرأة». وأشاروا إلى أن نيتومبو التي كانت رئيسة المنظمة الوطنية الناميبية للمرأة (1991-1994)، والمقررة العامة للمؤتمر العالمي الرابع المعنيّ بالمرأة في عام 1995 في بكين، ووزيرة شؤون المرأة ورعاية الطفل 2000-2005، «لا يمكن وصفها بأنها نسوية، وإن دافعت عن بعض حقوق النساء».

خلال الانتخابات قدمت نيتومبو نفسها بوصفها «صوتاً حازماً يتمحور حول الناس، وزعيمة سياسية وطنية، مخلصة للوحدة الأفريقية، مناصرةً لحقوق المرأة والطفل والسلام والأمن والبيئة»، وتبنت خطاباً يضع الأوضاع المعيشية في قمة الأولويات، متعهدةً بـ«خلق 250 ألف فرصة عمل خلال السنوات الخمس المقبلة» ليتصدر هذا التعهد وسائل الإعلام الناميبية، لكن أحداً لا يعرف إن كانت ستنجح في تنفيذ تعهدها أم لا.

تبدأ نيتومبو فترة حكمها بصراعات سياسية مع أحزاب المعارضة التي انتقدت نتيجة الانتخابات التي جعلتها رئيسة لناميبيا، تزامناً مع استمرار تراجع شعبية الحزب الحاكم. وفي الوقت نفسه تواجه نيتومبو عقبات داخلية في ظل ظروف اقتصادية صعبة يعيشها نحو نصف السكان، مما يجعل مراقبون يرون أنها أمام «مهمة ليست بالسهلة، وأن عليها الاستعداد للعواصف».

ويندهوك عاصمة ناميبيا (أدوب ستوك)

حقائق

ناميبيا بلد الماس... و43% من سكانه يعيشون تحت خط الفقر

في أقصى جنوب غربي القارة الأفريقية تقع دولة ناميبيا التي تمتلك ثروات معدنية كبيرة، بينما يعيش ما يقرب من نصف سكانها فقراً متعدد الأبعاد.ورغم مساحة ناميبيا الشاسعة، فإن عدد سكانها لا يتجاوز 3 ملايين نسمة؛ ما يجعلها من أقل البلدان كثافة سكانية في أفريقيا، كما أن بيئتها القاسية والقاحلة تصعّب المعيشة فيها. ومن الجدير بالذكر أن البلاد هي موطن صحراء كالاهاري وناميب.وفقاً لموقع حكومة ناميبيا، فإن تاريخ البلاد محفور في لوحات صخرية في الجنوب، «يعود بعضها إلى 26000 عام قبل الميلاد»، حيث استوطنت مجموعات عرقية مختلفة، بينها «سان يوشمن»، و«البانتو» وأخيراً قبائل «الهيمبا» و«هيريرو» و«ناما»، أرض ناميبيا الوعرة منذ آلاف السنين.ولأن ناميبيا كانت من أكثر السواحل القاحلة في أفريقيا؛ لم يبدأ المستكشفون وصيادو العاج والمنقبون والمبشرون بالقدوم إليها؛ إلا في منتصف القرن التاسع عشر، لتظل البلاد بمنأى عن اهتمام القوى الأوروبية إلى حدٍ كبير حتى نهاية القرن التاسع عشر عندما استعمرتها ألمانيا، بحسب موقع الحكومة الناميبية.سيطرت ألمانيا على المنطقة التي أطلقت عليها اسم جنوب غربي أفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر، وأدى اكتشاف الماس في عام 1908 إلى تدفق الأوروبيين إلى البلاد، وتعدّ ناميبيا واحدة من أكبر 10 دول منتجة للماس الخام في العالم، وتنتج وفق التقديرات الدولية نحو مليونَي قيراط سنوياً.شاب فترة الاستعمار صراعات عدة، وتمرد من السكان ضد المستعمر، تسبَّبا في موت عدد كبير، لا سيما مع إنشاء ألمانيا معسكرات اعتقال للسكان الأصليين، وعام 1994 اعتذرت الحكومة الألمانية عن «الإبادة الجماعية» خلال فترة الاستعمار.ظلت ألمانيا تسيطر على ناميبيا، التي كانت تسمى وقتها «جنوب غربي أفريقيا» حتى الحرب العالمية الأولى، التي انتهت باستسلام ألمانيا، لتنتقل ناميبيا إلى تبعية جنوب أفريقيا، فيما تعتبره الدولة «مقايضة تجربة استعمارية بأخرى»، وفق موقع الحكومة الناميبية.في عام 1966، شنَّت المنظمة الشعبية لجنوب غرب أفريقيا (سوابو)، حرب تحرير، وناضلت من أجل الاستقلال، حتى وافقت جنوب أفريقيا في عام 1988 على إنهاء إدارة الفصل العنصري. وبعد إجراء الانتخابات الديمقراطية في عام 1989، أصبحت ناميبيا دولة مستقلة في 21 مارس (آذار) 1990، وأصبح سام نجوما أول رئيس للبلاد التي ما زال يحكمها حزب «سوابو». وشجعت المصالحة بين الأعراق السكان البيض في البلاد على البقاء، وما زالوا يلعبون دوراً رئيسياً في الزراعة والقطاعات الاقتصادية الأخرى.وتعد ناميبيا دولة ذات كثافة سكانية منخفضة، حيث يعيش على مساحتها البالغة 824 ألف متر مربع، نحو ثلاثة ملايين نسمة. ويشير البنك الدولي، في تقرير نشره عام 2021، إلى أن ناميبيا «دولة ذات دخل متوسط»، لكنها تحتل المركز الثالث بين دول العالم من حيث عدم المساواة في توزيع الدخل، حيث يمتلك 6 في المائة فقط من السكان نحو 70 في المائة من الأملاك في البلاد، وتعيش نسبة 43 في المائة من سكان ناميبيا في «فقر متعدد الأبعاد». وتدير ثروات البلاد الطبيعية من الماس والمعادن شركات أجنبية.وتمتلك ناميبيا ثروة برية كبيرة، لكنها تعاني بين الحين والآخر موجات جفاف، كان آخرها الصيف الماضي، ما اضطرّ الحكومة إلى ذبح أكثر من 700 حيوان بري من أجناس مختلفة، بينها أفراس نهر، وفيلة، وجواميس وحمير وحشية، وهو إجراء ووجه بانتقادات من جانب جمعيات البيئة والرفق بالحيوان، لكن حكومة ناميبيا دافعت عن سياستها، مؤكدة أنها تستهدف «إطعام السكان الذين يعانون الجوع جراء أسوأ موجة جفاف تضرب البلاد منذ عقود».ووفق برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة منتصف العام الحالي، فإن «نحو 1.4 مليون ناميبي، أي أكثر من نصف السكان، يعانون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، مع انخفاض إنتاج الحبوب بنسبة 53 في المائة ومستويات مياه السدود بنسبة 70 في المائة مقارنة بالعام الماضي».